هتفت بخيتة في سعادة: - اصلك شوفته يا بت.. شوفته..!؟.. سألت كسبانة: - هو مين يا خالتى..!؟.. هتفت بخيتة: - هيكون مين يا مخبلة..! معلوم مين .. زكريا ولدى..
همست كسبانة: - ما هو عادى يا خالتى ما انت ليلاتى بتشوفيه و تصحى باكية و هو اللى حُصل لعنيكِ دِه من شوية..!؟.. أكدت بخيتة: - لاااه.. مش زى كل نوبة يا بتى.. النوبة دى غير.. زكريا طالع باذن الله.. هتفت كسبانة في سعادة: - سى زكريا راچع على هنا..!؟.. هتفت بخيتة: - زكريا مش راچع على هنا تانى يا بتى الا لما يلاجى زكريا..
تسلل ذلك الظل من احدى العطفات الضيقة بقلب الحارة بتلك الساعة المتأخرة من الليل بعد ان أغلق المعلم خميس مقهاه و عم الهدوء ارجاء الحارة الا من نباح بعض الكلاب.. ظهر حينش في مقابلة ذاك الشبح الذى جاء يعرج على تلك القدم المصابة مستندا على الحائط خلفه..
هتف حينش متعجلا: - عايز ايه يا طايع و سر ايه اللى انكشف ده اللى باعت تقول عليه..!؟.. هتف طايع في سخرية: - سر سكينتى و موت السمرى.. أقول كمان.. و لا كفاية كده..!؟.. هتف حينش قابضا بكفيه بتلابيب سترة طايع المهترئة: - قصدك ايه..!؟.. انطق دغرى. همس طايع: - مراتك.. فتشت السر كله..
و هتبلغ النيابة عشان تطلع نفسها من القضية و تلبسك البدلة الحمرا.. دى حالفة لتنتقم منك على اللى عملته فيها.. و تشفى غليلها و هي شيفاك بتتطوح على حبل المشنقة.. دفع حينش بطايع في غضب و اضطراب واضح هامساً بغل: - بت ال.. هي اللى جنت على روحها.. ماااشى يا صباح..
و عاد ليمسك بعنق طايع الا ان طايع هدأه هاتفاً: - انا راجلك و خدامك.. و لو كنت عايز اسكت بعد ما سمعت اللى سمعته منها كنت سكت و مقلتلكش بس قلت لازم اقولك عشان تخلص منها قبل ما تفتح بقها.. بس انا مش طالب كتير.. يعنى كلك نظر.. تعويض بسيط عن رجلى اللى راحت بسببك انت و رجالة السمرى.. و ساعتها مش هتلاقينى في الحارة لا انا و لا بنتى..
دفعه حينش من جديد هاتفاً: - اللى انت عايزه هيجيلك بس مشفش وشك تانى هنا و الا هتكون محصل السمرى و.. بنتك.. و ابتسم ابتسامة صفراء ممجوجة مستطرداً هتكون من نصيبى .. سامعنى..!؟؟.. اومأ طايع بالإيجاب دون ان ينطق بحرف واحد و هو يرى حينش يغادر في سرعة متخفيا قبل ان يبدأ المواظبون على صلاة الفجر في التوافد..
تعالت الهتافات و التهليلات داخل عنبر المعلم سيد و الذى استضاف العديد من المساجين من العنابر الأخرى للاحتفال بخروج سنجأ.. كان الجميع متجمعين حول تلك الوليمة التي اصر المعلم سيد كعادته على تحضيرها بمناسبة و بدون مناسبة..
بالاشتراك مع زيارة زكريا الأسبوعية الثمينة التي تأتيه من النجع بشكل منتظم لم يخلف موعده و التي دوما تكون محملة بما لذ و طاب من المأكولات و المخبوزات الصعيدية.. هتف الجميع بعد الانتهاء من القضاء على الوليمة و الاسترخاء بأسم سنجأ داعيينه للغناء و التفريح عنهم بصوته الساحر و خاصة انهم سيحرموا منه قريبا جداا..
وقف سنجأ وسطهم و بدأ التشجيع و التهليل باسمه فأبتسم و حياهم و بدأ يشدو باستمتاع كعادته: - چدع بلا چاه مرسى الهموم چلبه دايما يجول الآه والذنب مش ذنبه ده انا لو شكيت وبكيت چبل الحديد هيدوب الأوله غربتي.. والتانية المكتوب چرحي الچديم يا غريب انا كنت راضي به چرحي الچديد يا حكيم زود لهاليبه يا أهل العرب والطرب العدل مين سيده سيده ويا للعچب وطى وباس ايده.
ساد الصمت و سنجأ يغنى و يسحرهم وكأن على رؤسهم الطير.. كان يغنى و كان كل منهم يعتبر ان الكلام موجه له شخصيا حتى زكريا شعر بمعنى كل كلمة في الاغنية و كأنها تصف حاله بكل تفاصيله و دمعت عيناه عندما تذكر بدور.. و أيامه معها و ذكرياته التي يسكنها و تسكنه..
و ما ان انتهى سنجأ حتى هتف الجميع منتشين رغبة في المزيد فظل سنجأ يشدو و يشدو حتى هتف زكريا عند انتهاء اخر أغانيه: - و الله الواحد فرحان ان انت خارچ يا سنچأ.. هتف سنجأ في سعادة: - تسلم يا صاحبى..
شاكسه زكريا على مسمع من الجميع مستطرداً: - انت فاكر ان انى فرحان عشان انت هتسيب السچن و كِده.. لاااه.. عشان احنا هنترحموا من وصلة النكد اللى بتسمعهلنا يا فجرى.. انفجر الجميع مقهقهين و اولهم المعلم سيد الذى كان هذا دوما رأيه فيما يغنيه سنجأ.. هتف سنجأ حانقاً: - بجى كِده يا هوارى..!؟
نهض زكريا متوجها اليه و طوق سنجأ محتضناً أياه في محبة رابتاً على كتفه في قوة هامساً: - تخرچ بالسلامة يا يونس.. روحة بلا رچعة.. نظر سنجأ اليه متعجباً: - يونس..!!؟.. اول مرة تنادينى باسمى مع انك تِعرفه من زمن..!؟.. همس زكريا: - عشان خلاص.. انت خارچ.. انسى سنچأ و أيامه.. و متبجاش غير يونس.. و أوعى تغيب عن اسمك تانى.. اسمك هو انت يا يونس.. اومأ يونس متفهما ليربت زكريا على كتفه و ينتحى به جانبا هامساً له: - انت هاتخرچ من هنا على النچع..
هتف يونس متعجباً: - نچع الصالح بلدكم !؟ اومأ زكريا بالإيجاب مستطرداً: - ايوه انت مينفعشى ترچع للى كنت فيه..بلاها شغل الموالد و البلطچة..انا بعت لعاصم واد عمى و جلتله عليك.. و هو عِمل اللازم و بنى لك أوضة چار دارى..و هيخليك تراعى ارضى و يديك نصيبك على كد تعبك..
اندفع يونس متأثرا يحاول تقبيل يد زكريا الذى جذبها بعيدا في ضيق هاتفاً: - وااه.. بتعمل ايه يا حزين..!؟.. هتف يونس بصوت متحشرج: - أچولك ايه يا زكريا..!؟؟.. و أرد لك چمايلك دى كلها كيف..!!؟.. و الله يا هوارى.. التلت سنين اللى فاتوا من ساعة ما وعيت لك داخل علينا العنبر و عرفتك و انا حاسس ان السچن معدش سچن بوچودك.. هونت عليا كَتييير جوووى يا واد عمى..
ابتسم زكريا في محبة صادقة: - ربنا يهونها علينا كلنا يا يونس.. هتف يونس بصدق: - ياارب.. و ألاجيك محصلنى باذن الله.. همس زكريا بقلب واجف و روح متضرعة:- يااارب..
كانت صباح نائمة في سكون على فراشها تغط في نوم عميق بفعل تلك العقاقير التي تتناولها لتسكن ألمها لذا لم تتنبه لذاك الشبح الذى تسلل فاتحا باب غرفتها في حذر و أغلقه خلفه ليقترب منها في حرص شديد أين يضع خطواته حتى لا يوقظها فتلك هي الفرصة الوحيدة الباقية له للخلاص منها قبل ان تتفوه بكلمة واحدة وتضع حبل المشنقة حول رقبته..
وصل لفراشها و اقترب من حافته..أنحنى و هو يتناول من على طرف الفراش وسادة ليضعها على وجه صباح بغرض خنقها و قطع الانفاس عن رئتيها لترحل في هدوء.. و بالفعل رفع الوسادة و ما ان هم بوضعها على وجهها حتى سطع نور الغرفة ووجد نفسه في لحظات محاطا بالعديد من العساكر و ضباط الشرطة مشهرى السلاح في وجهه.. و عرف انها النهاية و لا سبيل للمقاومة فأنصاع لاوامر الضابط مستسلما..
هتفت كسبانة متسائلة في ضيق و هي تضع طينية الطعام امام بخيتة: - هو الراچل اللى بره دِه هايجعد على طول هنا..صُح يا خالتى!؟.. هتفت بخيتة: - جصدك مين.. يونس.!؟.. اه هيجعد معانا.. مسمعتيش عاصم بيه و هو بيجول انه من طرف زكريا و عايزه يراعى ارضه.. ما انتِ كنتِ حاضرة و واعية للحديت..!؟.. بس ليه يعنى السؤالات دى..!؟.. الراجل من ساعة ما چه و هو زى النسمة مبنسمعلوش حس..
هتفت كسبانة بغيظ: - نسمة..!؟.. چولى وچع راس..طول اليوم غناوى لما خلاص هطفش منيه.. انفجرت بخيتة ضاحكة: - و الله انتِ فجرية..الراچل مش عاچبك عشان حسه حلو و جاعد يغنى طول اليوم.. !!؟.. هتفت كسبانة معترضة: - لااه مش بس كِده يا خالتى.. انا كل ما اعرف انه جتال جتلة و رد سچون جتتى بتتلبش.. و احنا اتنين ولايا لحالنا.. كمان حمزة أتعود عليه جووى و على طوول وياه.. وكل ما ادور عليه ألاجيه عِنديه..
هتفت بخيتة مؤكدة: - طب و هو لو راجل عفش يا كسبانة يا بتى كان زكريا چابه على هنا و هو واعى لكل اللى جولتيه دِه.. هتفت كسبانة مترددة لا تدرى بما تجيب:- معرفاش بجى يا خالتى.. و اندفعت تحضر الطعام لذاك الذى تسمع همهمات غناءه من نافذة مطبخها التي تُفتح على براح الأرض التي يملكها زكريا و الذى يتولى الاشراف عنها يونس.. او سنجأ سابقا..
وااااه.. اجول بوووه ويجولوا الحاچة فضيلة اتچننت..!؟.. صرخت الحاجة فضيلة فى أحفادها.. وهم يتقافزون حولها فى مرح وشقاوة.. صرخاتها استدعت ضحكات سهام وزهرة الجالستان أمامها.. غير قادرات على التدخل لانقاذها من عبث أطفالهما.. لتعاود الصراخ من جديد.. ولكن فى سهام وزهرة هذه المرة..:- كل واحدة تحوش عيالها.. انا مش جادرة عليهم.. ولا كل واحدة فيكم فالحة تخلف بس.. ايه داخلين مسابجة!!؟..
انفجرت كل من زهرة وسهام ضاحكتين.. وبطن كل منهما المنتفخة فى شهورها الاخيرة تهتز بشدة.. واعادت الحاجة فضيلة هتافها فى الاطفال: - هات يا واد السبحة.. ابعدى يا بت عن المصلاية.. ثم توجهت بحديثها لزهرة وسهام فى نفاذ صبر: - بالكم..!؟.. انا سيبهالكم انتوا وعيالكم الجرود دوول وجايمة.. اما أروح اجعد مع الحاچ مهران شوية.. بدل جعدتكم اللى تتعب دى..
وحملت مسبحتها ومصحفها وتحركت فى تثاقل بحكم سنها وتوجهت للدرج تعتليه.. ونظرات سهام وزهرة تتبعها.. حتى ما ان ابتعدت سألت سهام فى حزن: - هى لساتها يا زهرة.. بتجعد فى أوضة ابويا الله يرحمه.. وتكلمه كنه عايش!!؟..
هزت زهرة رأسها ايجابا وهى تقول: - أه يا سهام.. احنا على طول مش حابين تفضل لوحدها.. وبنحاول انا وعاصم نقعد معاها.. بس اديكى شوفتى.. بتتحجج بشقاوة العيال عشان تقعد لوحدها فى أوضة عمى الله يرحمه.... برغم ان روحها فيهم.. بس... هنعمل ايه..!!؟.. من يوم ما عمى أتوفى.. وهى مش مصدقة انه غاب عنها.. دى انا بسمعها بتحكيله كل حاجة بتحصل فى السرايا.. كأنه سامعها وبيرد عليها.. ومرة دخلت عليها وهى على حالتها دى.. زعقت فيا.. وقالت لى.. محدش يخش عليها هى والحج الا لما يستأذن..
دمعت عينا سهام وهى تهمس: - يا حبيبتى ياما.. طال الصمت حزنا على حال الحاجة فضيلة الا ان هتفت زهرة محاولة اخراج سهام من حالة حزنها على امها.. فهمست بصوت يغلّفه المرح: - شوفيلك حل فى باسل ابنك ده!!؟.. شايفة بيعمل ايه..!؟.. انتبهت سهام عند ذكر اسم باسل ولدها.. لتنفجر ضاحكة على افعال ابنها.. وهو يهتف فى ابنة خاله سندس صارخا: - تعالى هنا يا بت يا اللى اسمك اوله ذى أخره انتِ...
تحركت سندس والتى كانت تشبه زهرة لحد كبير ناحية باسل الذى يكبرها بحوالى عامين.. لتقول فى براءة.. وهى تخرج لسانها فى حرف السين.. فيبدو كثاء: - نعم يا باثل.. هتف باسل مغتاظا: - انتِ هاتعرفى ميتا تنطجى اسمى صُح!؟.. لتأخذ سندس جانباً وتبكى وحيدة.. وهنا يتدخل مهران الصغير دفاعا عن توأمته سندس.: - انت بتكلمها كده ليه !؟ عارف يا باسل لو ضايجتها تانى.. هزعلك..!؟..
لينفجر باسل ضاحكا.. وهو يقول ساخرا: - طب ابجى ورينى.. هتزعلنى كيف..!؟.. كانت كل من زهرة وسهام تشهد هذا الحوار.. تداريان ضحكاتهما.. لتهمس سهام: - ولدى باسل طالع لخاله.. هوارى أصيل.. ولا حاچة بتهمه.. لتنفجر زهرة ضاحكة: - انت هتقوليلى..كلهم هوارية حتى مهران سبحان الله كأنى شايفة فيه عمى.. عقل وقوة مع بعض.. هتف مهران مقتربا من امه متسائلا فى حنق:- هى بنتك الهبلة دى بتسمع كلام باسل ليه و مبتجلوش لااه..!؟.. طلعة لمين دى!!؟..
لتهتف زهرة ضاحكة: - طالعة لامها يا حبيبى لتقهقه سهام فى المقابل.... التى بادرها مهران متسائلا:- هى فين تسنيم يا عمتى.. مش بتاجى معاكى ليه..!؟.. لتجيب سهام متحدثة عن طفلتها التى تصغر مهران بحوالى عامين وهى تنظر لزهرة: - تسنيم روحها فى چدها جدرى.. مش بتفارجه لا فى صحيان ولا فى نوم.. وهو روحه فيها.. تجعد تحت رجله تنفذ له طلباته وهو يحفظها قرآن..سبحان الله..مش عارفة البت دى چايبة التجوى دى منين !!؟..
لتنفجر زهرة ضاحكة بدورها.. لتسألها سهام مستفسرة: - جوليلى..مفيش اى اخبار.. عن ندى ونبيل..!؟؟.. انا بطلت اسأل حسام من زمن.. لتؤمى زهرة برأسها نفياً: - للاسف يا سهام مفيش.. اهو شوفى بقالهم أكتر من خمس سنين متجوزين.. وربنا مأردش باولاد.. ندى قالت لى فى اخر مكالمة بِنَا.. انها رايحة لدكتور جديد.. وَيَا رب يكون فى ايده الشفا..دعواتك..
لتهتف سهام فى صدق: - يااارب لتستطرد سهام متسائلة: - طب و زكريا..!!؟.. برضك لِسَّه مخرجش من السجن..!!.. ولا بعت لعاصم يشوفه...!!..ده أمه الحاچة بخيتة تلاجيها هتموت عليه. هزت زهرة رأسها نفياً وهى تعقب قائلة: - كسبانة بتقول انه بيكلم أمه على فترات بعيدة.. وأهى البت كسبانة طلعت جدعة وبتراعيها و قاعدة مبسوطة معاها هى وابنها .. حد يقول كده بزمتك.. زكريا ينسجن و اخوه سليم اللى يستاهل الشنق ميتمسكش لحد دلوقتى..!؟..
ما ان همت سهام بإجابة زهرة حتى صمتت فجأة وانتبه الجميع وقطعوا استرسال حديثهم .. وخاصة زهرة التى ارتسم على وجهها الوجوم.. عندما دخلت سمية باكية كعادتها يتبعها طفلاها صارخة: - وينه وادعمى!!؟؟.. يشوفلى صرفة مع عدلى بن محروس.. هتفت سهام فى نبرة من اعتاد على هذا المشهد: - خير يا سمية.. ايه حُصل تانى..!!؟
صرخت سمية: - خلاص مجدراش استحمله.. لا هو ولا أمه..الله يرحمك ياما جالتلى بلاش.. وانا اللى ركبت راسى واتجوزته بن أمه ده. دخل عاصم فى تلك اللحظة هاتفاً بغضب فى سمية: - كيف تجولى على چوزك كده.. !!؟.. چوزك سيد الرچالة..
انتفضت فى صدمة لظهور عاصم المفاجئ لكنها استطردت باكية:- ماهو يا واد عمى.. أصله عمره ما عمل لى خاطر.. وعلى طول جالل من جيمتى.. رق عاصم لبكاءها فهتف: - خلاص يا سمية بس انتِ برضك راعى انه چوزك وأبو عيالك هنا هتفت زهرة: - أه.. عاصم..ألحقنى.. اندفع عاصم باتجاهها هاتفاً: - ايه خير.. نطلع على المستشفى.. استندت عليه ناهضة: - لا.. عايزة استريح فوق شوية..
مصمصت سمية شفتاها وجذبت اطفالها خارجا وهى تلقى التحية بحقد.. بينما انفجرت سهام ضاحكة وهى تلقى التحية هى الاخرى راحلة ترى زهرة تتكئ على عاصم فى دلال صاعدا الدرج.. وفى اعلى الدرج عندما تاكد عاصم من رحيل اخته وابنة عمه حملها بين ذراعيه فى سعادة على الرغم من علمه ان زهرة بصحة جيدة ولا تعانى أيه آلام سار متخطياً تلك الردهة وهو ينظر اليها مشاكساً.. وما ان وصل بها امام غرفتهما حتى همس بإذنها: -انت مش هتبطلى عمايلك دى كل اما تشوفى سمية..!؟
لتهمس وهى تتعلق برقبته وتشبك كفيها خلف عنقه.. متصنعة العتاب: - ايه خلاص.. تقلت عليك انا واللى فى بطنى..!؟.. همس بشوق على مسامعها: - ولو مية سنة يا زهرة.. مدت كفها لتدير مقبض الباب.. ونظراتها متعلقة به وهى تهمس بشوق: - واااه.. بحبك يا واد خالتى..
لينفجر ضاحكا وهو يدفع الباب بقدمه..ليدلفا للغرفة.. فتمد كفها تغلق الباب مر الكثير من الوقت تمنى ان يلمح طيفها حتى لكن ضنت عليه به منذ اخر مره زارته فيها يوم إصابته فداءً للعميد مختار.. من يومها لم يرها و لا زاره طيفها مما أورثه الكثير من الحزن و الضيق فزيارتها له حتى وان كانت حلما تخفف عنه الكثير و تزيح عن كاهله بعض مما يكابد من مرارة شوقه اليها ..
و اليوم هو الاستثناء فها هي تطل عليه بوجهها الصبوح هاتفة بسعادة: - سى زكريا!؟؟..وحشتنى قووى.. هتف في شوق:- وااه يا بدور مش كد ما اتوحشتك.. غبتى عليا جووى.. ابتسمت في خجل كعادتها وهمست: - انا جاية أبشرك.. همس زكريا متسائلا: - طول عمرك وش السعد.. بس تبشرينى بأيه..!؟..
هنا اختفت بدور عندما علا صوت مفاتيح ضخمة تفتح باب العنبر في عجالة ليظهر الصول جابر ذو البطن المنتفخ هاتفاً في لهفة:- زكريا.. يا زكريا..!؟.. انتفض زكريا من نومه ملتفتا للصول جابر هاتفاً: - خير يا حضرة الصول..!!.. أجاب جابر: - سيادة المأمور طالبك بسرعة هم معايا..
اندفع زكريا خارج العنبر و الصول جابر في أعقابه و ما ان وصل لمكتب المأمور حتى استأذن و دخل ليندفع العميد مختار يحتضنه في تأثر مباغتاً زكريا الذى وقف متصلبا لا يعرف ما يحدث..حتى ابتعد العميد مختار عن زكريا هاتفاً فيه بمحبة: - انت كنت بتقولى ايه من ساعة ما عرفتك..!؟.. مش كنت بتقول هخرج عشان ربنا وحده يعلم انى برئ و عشان ابنى اللى محتاج لى.. صح..!؟..
اومأ زكريا رأسه إيجابا و هو لا يستطيع النطق بحرف واحد ووجيب قلبه يتضاعف و يحاول ان يقنع نفسه ان ما يستنتجه في تلك اللحظة ما هو الا محض امانى و أحلام.. لكن العميد مختار هتف من جديد: - مبروك يا زكريا.. مبررروك.. ظهرت ادلة جديدة في قضيتك و شهود جداد.. و اثبتوا براءتك هي شوية إجراءات كده و تبقى بره السجن ده و تعيش حياتكِ و تربى ابنك.. كان زكريا يقف مصدوما غير مصدق ما يهتف به العميد مختار بهذا الحماس..
هل حقا اثبتوا براءته..!؟.. هل حقا انتهى ذاك العذاب و ازيح عن كاهله ذلك الظلم!؟. هل سيعود أخيرا حراً طليقا من جديد...قادر على تربيه ولده و احتضانه بين ذراعيه متى شاء وليس فقط في تلك الزيارات المتباعدة التي يحمله فيها المعلم خميس اليه..!؟.. اخيراً سيجعله يفتخر باسم ابيه الذى يحمله!؟..
لاحظ العميد مختار صمت زكريا و ملامحه المصدومة فخرج من جديد من خلف مكتبه يربت على كتف زكريا هاتفاً في تعاطف:- الحمد لله يا زكريا.. الحمد لله.. جلس زكريا على اقرب كرسى و قد بدأت صدمة الخبر تنقشع من امام عينيه ليبكى في صمت و هو يحتضن رأسه المنحنى بين كفيه.. هتف به العميد مختار: - وحد الله يا زكريا..ربك عادل و مطلع.. هتف زكريا بصوت متحشرج: - و نعم بالله..و نعم بالله..
أمره العميد مختار ببهجة: - قوم بقى بلغ زمايلك و احتفلوا لحد ما نشوف الإجراءات و التنفيذ عشان خروجك.. اومأ زكريا إيجابا و نهض مغادراً مكتب المأمور و لكن قبل ان يحتفل أو حتى يبلغ أحد من زملائه توجه الى المسجد و صل عدة ركعات شكرًا لله دخلت زهرة غرفة العمليات فقد حدد لها الطبيب موعد الولادة و ها قد جاء اليوم الموعود..
انتظر عاصم و الحاجة فضيلة بالخارج و قد وصل بهما القلق للذروة.. حاول عاصم السيطرة على أعصابه بلا جدوى لينهض ذارعا الردهة البعيدة عن مجال نظر أمه ذهابا و ايابا.. يتطلع كل لحظة لباب غرفة العمليات لربما يخرج الطبيب فيستقبله فى عجالة ليطمئن عليها..
ظل على حاله حتى اصطدم فجأة بحسام الذى كان قادما مسرعا يبلغهما بنبأ وصول سهام للمشفى فهتف معلنا: - اختك يا عاصم بتولد فى الاوضة التانية..بلغ الحاچة.. هتف عاصم مزمجرا: - كملت..
اندفع يبلغ أمه فى حنق: - سهام بتولد هى التانية.. حسام لسه واصل بيها على هنا.. ردت الحاجة فضيلة فى هدوء عجيب: - ياللاه على البركة.. خلونا نخلص.. انفجر عاصم ضاحكا لرد فعل أمه على الرغم من قلقه هاتفا: - نخلص من ايه بس يا حاچة.. !؟..
هتفت مؤكدة: - يعنى ولادة تانى و مستشفيات تانى.. اهى تبجى بچملت.. هم الأتنين سوا و تخلصوا و نطمنوا عليهم و نخرج بيهم باْذن الله.. ابتسم عاصم لفكر أمه و اخيراً انتفض و غابت الابتسامة المؤقتة تلك عن وجهه مندفعا تجاه باب غرفة العمليات الذى فُتح ليخرج الطبيب مبتسما و بجواره الممرضة تحملا طفلا هاتفا: - حمد الله على سلامتها.. والف مبروك..
سلمت الممرضة عاصم الطفل المدثر هاتفة فى سعادة: - مبروك.. ولد زى الچمر.. يتربى فى عزكم.. هتف عاصم متسائلا فى لهفة و هو يلتقط طفله من بين ذراعيها: - طب و هى.. أمه.. كيفها..!؟.. أكدت الممرضة بابتسامة: - زى الفل.. هاننقلها أوضتها حالا.. دفع عاصم بحفنة نقود فى كف الممرضة التى طالعتها منتشية فى سعادة.. تهتف بالمباركة من جديد..
تطلع عاصم للطفل فى سعادة و اخذ يكبر فى أذنيه بهمس و اخيراً وضعه بين ذراعى أمه التى تطلعت اليه بعيون دامعة من الفرحة ليهمس عاصم: - ماچد الهوارى يا حاچة فضيلة.. ضمت الحاجة فضيلة طفل عاصم لصدرها فى سعادة بلغت الحد و همست: - ربنا يبارك لك فيه و فى ذريتك يا عاصم و يچعله من الصالحين يااارب. و استطردت هاتفة بتضرع داعية: - و عجبالك يا سهام يا بتى..
هتف عاصم: - انا رايح اشوف ايه الأخبار.. و راچع اكدت الحاجة فضيلة: - ايوه يا ولدى..طمنى على اختك لحسن جلبى واكلنى عليها.. عاد عاصم من عند سهام ليؤكد انه مازال أمامها بعض الوقت كما أقر الطبيب.. خرجت زهرة فى تلك اللحظة على سريرها المدولب باتجاه الغرفة.. وما ان استقرت فيها.. حتى اندفعت الحاجة فضيلة فى أتجاه غرفة سهام.. التى كانت صرخاتها المتألمة تشق الإجواء..
هتف حسام فى قلق: - مبروك ما چالكم يا حاچة.. و مبروك جومة أم مهران بالسلامة.. عجبال سهام باْذن الله.. تعالت الصرخات من جديد لتدفع الممرضة بسرير سهام خارج الغرفة فى أتجاه غرفة العمليات... مر الوقت ببطء قاتل ما بين صرخات سهام المدوية التى كانت ترتفع ما بين دقيقة و اخرى و بين صمت تام استمر لفترة مقلقة... أعقبه صرخات من نوع اخر.. صرخات بكاء طفل اندفع بالفعل يتنفس للمرة الاولى نسيم الحياة..
اندفعت الممرضة باللفافة تحمل الطفل لحسام هاتفة:- الف مبروك.. عروسة زى الچمر.. تتربى فى عزكم.. و أمها كويسة الحمد لله.. هتخرچ دلوجتى.. كبر حسام فى سعادة و انتشى و هو يحمل طفلته مكبرا فى اذنيها كما أكد عليه ابوه الحاج قدرى و اخيراً دفع بها بين ذراعى جدتها هاتفا فى فخر: - تسبيح التهامى يا حاچة..
بكت الحاجة فضيلة من فرحتها وهى تضم حفيدتها لصدرها فها هى فى يوم واحد تحمل حفيدين جديدين لها.. و يالها من فرحة كُتب لها الله العمر لتعيشها...
رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني بقلم رضوى جاويش ( موال التوهة والوجع ) الفصل الثاني عشر
استقبلت الحارة زكريا استقبال الفاتحين و لم يدخر المعلم خميس جهدا في نشر خبر خروج زكريا مرفوع الرأس يكلل تاج البراءة هامته.. حتى ان زكريا تفاجئ بتلك الفرقة الموسيقية التي استقبلته على باب الحارة جعلت الجميع يتجمع مباركاً و مهنياً زكريا بخروجه سالما..و النساء تلقى بزغاريد الفرحة من النوافذ و الشرفات على طول الطريق حتى بيت المعلم خميس الذى وقفت على أعتابه الخارجية نعمة و هي تحمل حازم في سعادة بالغة في انتظار قدوم ابيه..
وقف زكريا و المعلم خميس امام نعمة وهى تحمل حازم و قد انفض الجمع و ذهب كل حى لحال سبيله.. تسمرت نظرات زكريا على حازم و نسى تماما ان يلقى التحية على نعمة التي تحمله و التي دمعت عيناها تأثرا و هي تدفع بحازم بين ذراعى أبيه ليستقبله ضاما أياه في شوق هائل.. ضم ذراعاه حول ولده و اطبقهما عليه في حنين و حنو..
انه يشبه بدور كثيرا.. انه قطعة منها.. و كأن الله عوضه عنها بطفل يحمل الكثير من ملامحها و ابتسم زكريا في وجه الطفل المندهش لذاك الرجل الذى يحمله و بادله حازم الابتسامة في وداعة جعلت عينا زكريا تدمع في فرحة لا يمكن وصفها..
ربت المعلم خميس على ظهر زكريا مشيرا اليه بالصعود لداره فانتبه زكريا الذى غاب مع حازم عن كل ما و من يحيط به.. حتى انه انتبه لنعمة التي لم يلق عليها السلام بعد فهتف محرجا: - كيفك يا ست نعمة..!؟.. متأخدنيش.. اتلهيت في.. قاطعته نعمة مقدرة: - الف حمدالله على سلامتك يا سى زكريا.. ربنا يخليلك حازم و تشوفه احسن الناس يا رب..
هتف زكريا و هو يتطلع لخميس: - و الله انا ما عارف أرد لكم كيف جمايلكم عليا ..!؟.. هتف خميس معاتبا: - خبر ايه يا صعيدى!؟.. هو في جمايل بين الأهل برضة.. ياللاه على فوق تاكل لقمة من ايد نعمة.. وبعدين تروح بيتك.. نعمة خليتهولك زى الفل..
هتف زكريا من جديد: - مش بجولك يا معلم مش عارف أرد جمايلكم عليا كيف..!؟.. و مبروك على چوازكم.. چت متأخرة.. و ربنا يجمعكم دايما على خير يا رب.. هتف كل من نعمة و خميس و كلاهما يتطلع للاخر في محبة: -أمين ..
استلم زكريا مفتاح بيت الحاج وهيب من نعمة و سار تلك الخطوات التي تفصله عن بيت المعلم خميس في وجل و هو يضم حازم الى صدره.. ليوقفه عم طايع بائع البطيخ هاتفا باسمه محاولا الإسراع قدر استطاعته في سيره بقدمه العرجاء.. انتظره زكريا حتى وصل اليه ملتقطا أنفاسه في تلاحق..و اخيراً هتف:- حمدالله على السلامة يا زكريا يا بنى..
عارف انك واخد على خاطرك منى.. عشان كتم الحق و مشهدتش باللى شوفته و انا نايم في فرشتى يوم ما ضربوك و حرقوا القهوة.. ودمعت عيناه ليستطرد.. غصب عنى يابنى.. انا مكنتش خايف على نفسى بس بنتى لو جرى لى حاجة من رجالة حنيش.. كان هيجرالها ايه من بعدى.. دى ملهاش غيرى يا زكريا.. خفت و سكت..
و عشت بعذاب كتمان الحق سنين.. و لما جت الفرصة و سمعت كلام صباح مع ست نعمة في المستشفى قلت خلاص ربنا بعت لى الطريقة اللى أساعدك بيها و رحت البوليس و قلت على اللى سمعته من صباح و شهدت ست نعمة علشان تأكد كلامى و متقدرش صباح ترجع في كلامها و انا ع ملت على حنيش لعبة رسمها البوليس عشان يسمعوا اعترافه و يجروه لقضاه متلبس عند صباح في المستشفى..
تنهد طايع هامسا.. سامحنى يا زكريا.. سامحنى يا بنى.. تنهد زكريا في استكانة هامسا للعم طايع في راحة: - مسامحك يا عم طايع.. مسامحك و عارف كيف الخوف ممكن يخرس الواحد و ميخلهوش ينطج.. مسامحك و ربنا يخليلك بتك.. و تفرح بيها عن جريب..
ابتسم طايع في سعادة و أومأ برأسه في امتنان لزكريا و رحل ليتركه يدخل بيت الحاج وهيب و الذى ادخل مفتاحه في موضعه وفتح باب البيت الخارجي ووقف يتطلع حوله و ينظر الى كل ركن كان له فيه حكاية مع حبيبة روحه و سارقتها..
وقعت عينه على ذاك الموضع امام البيت حيث يقف و تذكر انه ها هنا هتف في سمرى بانها زوجته عندما رأه يتجرأ عليها و هناك محل البسبوسة التي كانت تعشقها و التي كانت تشتريها و يتبعها الى المحل ذهابا و إيابا خوفا عليها من سمرى و رجاله..
تنهد و فتح الباب ليتطلع لتلك الدرجات التي كانت تندفع منها واليها صعودا وهبوطا في صحة و عافية.. تذكر وهو يخطو على الدرجات الأولى كيف انه نهرها ذات مرة معتقدا انها متأزمة من عيشتهما المتواضعة و تمنى لو يعود الزمن ليخرس لسانه عنها و لا ينطق الا بكل ما يسعدها و يجلب الضحكات لا الدمعات لعينيها..
صعد الدور الأول.. ووصل لشقتهما.. هم بفتح بابها ليتطلع خلفه لباب شقة حماه الحاج وهيب رحمه الله.. لتدمع عيناه و هو يرهف السمع كأنه يسمع خطواته المتمهلة و سعاله شتاءً.. و نداء الست نعمة على بدور لتحمل النعناع لابيها.. و صوت بدور و ضحكاتها و مشاكساتها لنعمة.. دخل شقته و بدور و التي لم يمكثا بها طويلا بعد انتقالهما اليها بديلا عن حجرة السطح التي شهدت اجمل لحظاتهما معا..
وضع زكريا حازم على اول مقعد و هو يسمى الله.. و يرفع أكفه تاليا الفاتحة على أرواح أصحاب البيت الأعزاء.. ثم انتبه لحازم الذى كان يتطلع حوله في اهتمام ليهاتفه وهو يحمله على فخذه سائلا أياه: - تعرف انا مين يا حازم..!؟.. اومأ الطفل برأسه مؤكدا وهو يهتف في حماسة: - اه.. انت سكريا (زكريا)..
انفجر زكريا مقهقها: - يا واد جول بابا.. و لا ابويا.. و لا ابووى حتى.. اى حاچة بس اسمعها منيك.. هز حازم رأسه رافضا مؤكدا على اصله الصعيدى وهو يصر برأس يابس على مناداة زكريا بأسمه مجردا مما دفع زكريا للاستسلام ليضمه لصدره في شوق و يندفع به لحجرة النوم ليأخذه في فرحة بين احضانه و يذهب كلاهما في نوم عميق خرجت كسبانة تحمل صينية الطعام المجهزة لذاك الذى لا ينفك عن الغناء للحظة.. هتفت هامسة فى ضيق لنفسها.. أين ذهب حمزة!؟
فهو من كان يتعامل معه و يحضر له الطعام دوما.. حاولت ان تؤخر احضار الطعام حتى يظهر ولدها.. لكن تأخره زاد عن المفترض و ليس من اللائق تأخير الطعام على الرجل حتى ذاك الوقت و هو يعمل طوال النهار في الارض.. لابد و انه يتضور جوعا فى تلك اللحظة.. وصلت على أطراف الارض المزروعة التى يفصلها عن بيت زكريا خط رفيع من ارض طينية منبسطة تقف عليها فى ثبات تحمل الصينية العامرة..
لم تناديه.. و لكنه ادرك وجودها فى ثوان وانتبه لمحياها الشامخ هناك على أطراف الارض تحمل ما جادت به يدها من طعام.. انه يعترف.. هى طباخة ماهرة.. لم يعد قادرًا على تذوق أي طعام خلاف ما تصنع.. حاول و لم يستطع.. اقلقه هذا.. فدوما ما يقلقه التعود.. فهو ولد لسيدة مهنتها التنقل في بقاع الارض طلبا للرزق.. و هو قد تشرب التنقل مع حليبها و لم يعتد ان يتكيف على وضع أو يبقى فى مكان.. التعود مهلك..
كرمال متحركة اذا ما غاصت قدمك فيها ما عاد هناك فكاك.. بل انك تظل تغوص حد الغرق... تقدم منها يحمل عنها صنيتها التي ناءت بحملها كل تلك الفترة فحرّكت كفيها لتوازن ثقلها و تشابكت الأكف بغير قصد ليجد كفيه فوق كفيها القابضتين على أطراف الصينية..
لم تنتفض كما توقع بل وجدها تنظر فى عينيه بشكل مباشر أفزعه و أربكه...لينتفض هو مبعدا كفيه بشكل تلقائي.. وضعت الصينية أرضا فى هدوء و استدارت لتغادر تاركة إياه يتخبط فى انفعالاته و يسترجع نظراتها النارية.. هل كانت تعتقد انه فعلها متعمدا..!؟.. هل تعتقد ذلك حقا..!؟. نظراتها تلك تحمل اتهاما لا يقبله.. انه لم يفعل.. و لو فكر ان يفعلها مع نساء الارض جميعا.. فهى لا.. انها أمانة حملها له صديقه و صاحبه الأوحد بهذه الحياة.. هل تظن به السوء..!؟.. هل تعتقد انه فاعلها..!؟..
اطلق سباباً فى ضيق و غضب مكتوم.. ونظر لصينية الطعام في حنق بالرغم من جوعه القارص الا انه شعر فجأة ان رغبته فى الطعام قد اختفت.. فعاد للعمل من جديد يحاول ان يفرغ بضربات فأسه الهادرة شحنة الغضب القاهر الذى تملكته لظنها السئ به..
مضت عدة أشهر منذ خروج زكريا من محبسه و عودته الحارة و لعمله عند الحاج مرشدى الذى استقبله بفرحة و سعادة غامرة فكان زكريا يستيقظ صباحا ليفطر و حازم و يتركه عند بيت الحاج خميس ليلهو مع أولاده تحت رعاية نعمة ويندفع لعمله حتى المغرب ليعود محملا بالغذاء ليتناوله مع حازم و الذى كان يعتبر هذا عشاءً..
و ما ان تنتهى صلاة العشاء حتى يندفع كلاهما في أحضان الاخر لينام ملأ جفونه.. جلس زكريا على مقهى المعلم خميس وقد عرج اليه عند عودته من عمله يلتقط أنفاسه لينضم اليه خميس ما ان رأه موصيا بالشاى هاتفاً: - سلام عليكم.. ازيك يا زكريا.. اخبارك..!؟.. هتف زكريا: - الحمد لله يا معلم.. تماام..
همس خميس متعجباً: - اُمال ليه انا مش حاسس كده..!؟.. في حاجة يا صعيدى.. الشغل عند المعلم مرشدى فيه حاجة..!!؟.. هز زكريا رأسه نافيا..و لم يعقب.. لذا همس خميس من جديد و قد استطاع ثبر أغوار زكريا: - انت محتاج ست في حياتك يا زكريا.. انتفض زكريا هاتفاً: - بعد ام حازم..!؟.. ده انى اللى تاعبنى و مخلينى أفكر ارجع اسكندرية هو..
صمت و لم يُكمل مما دفع خميس ليكمل بدلا منه: - يا زكريا هنا و هناك.. انتِ كنت مع أم حازم..و الذكريات مبتمتش يا صاحبى انا عارف وحاسس اللى انت فيه.. انا عشت نفس الظروف بعد موت الغالية ام العيال.. و قلت زيك كده.. لكن مقدرتش.. مفيش راجل مننا هيقدر يعيش وحدانى و خصوصى لو عنده ولاد محتاجين وجود ام معاهم.. و انا الحمد لله ربنى عوضنى بنعمة.. ربنا يعوضك عن ام حازم باللى فيه الخير ليك و لابنك..
صمت زكريا للحظات و استطرد في عزم:- انا هرچع اسكَندرية يا معلم.. مش جادر افضل هنا.. هرچع و اشوف حالى هناك.. و ربنا يسهلها.. هتف خميس: - برضة مصمم على رجوعك إسكندرية...ده اخر كلام يا صعيدى..!؟ ما تفكر وتخليك معانا.. و حازم يتربى وسطينا مع عيالى.. هز زكريا رأسه رافضا: - خلاص يا معلم خميس.. انا فكرت كَتييير..و الخيرة فيما اختاره الله.. و اهى كلها بلاد ربنا..
ربت المعلم خميس على كتفه هاتفاً: - بشوقك يا زكريا.. ربنا يسهلها لك يا رب.. نهض زكريا ليعرج على بيت المعلم خميس ليأخذ حازم و يعودا سويا مثل كل يوم لبيتهما..و هو لا يعلم هل اتخذ القرار الصحيح بالرجوع للإسكندرية ام تلك توهة جديدة في مشواره الذى لا يعلم متى و أين ينتهى به..
اندفع زكريا لبنسيون السعادة والذى كان بالنسبة له اسم على مسمى.. فقد عاش فيه شهور طويلة من السعادة مع بدور و فيه سمع خبر حملها بحازم.. ما ان دلف لبابه المفتوح كالعادة حتى نظرت تهانى للمندفع للداخل و هو يحمل طفلا صغيرا على كتفه مخفيا ملامحه.. دارت حول منضدة الاستقبال الطويلة و ما ان طالعها محيا زكريا و هو يجول بناظريه في ارجاء المكان ليجده كما كان لم يتغير.. حتى هتفت في صدمة صارخة: - سى زكرياااا.. مش معقول..!!!..
ابتسم زكريا في سعادة هاتفاً وهو ينكس نظراته ارضا كالعادة: - اه زكريا الهوارى يا ست تهانى.. كيفك و كيف أحوالكِ.!؟.. ده انا جلت مش هاتفتكرينى.. هتفت مستنكرة: -برضه انت تتنسى يا سى زكريا انت و بدور الله يرحمها..
و مصمصت شفتاها تعاطفا و تحسرا و هي تضع كفها على ذقنها على الفتاة التي ماتت في ريعان شبابها و أخيرا انتبهت للطفل الذى يحمله زكريا لتهمس في توقع: - هو ده ابنكم حازم.. صح..!؟.. اومأ زكريا براسه مؤكدا لتتطلع اليه تهانى في محبة هاتفة في حماس: - ده حتة من بدور الله يرحمها.. صحيح اللى خلف ممتش.. و مدت كفيها لزكريا هامسة: - هاته عنك يا سى زكريا.. و متخفش.. اه انا ربنا مرزقنيش بعيال.. بس اعرف فيهم يعنى..
ابتسم زكريا و هو يمد لها حازم الذى تململ في نومه لتضمه الى صدرها في حنان بالغ و هي تشير لزكريا ليتبعها.. سار زكريا للداخل على طول الرواق حتى هتفت تهانى وهى تدفع باب الغرفة بسعادة:-اتفضل يا سى زكريا.. الاوضة بتاعتك.. تصدق.. لسه كان في زبون فيها.. و مشى من يومين كأن الاوضة دى بالذات مكتوبالك..
دخل زكريا ونظراته تتسارع على كل ركن فيها كان يحمل ذكرى لبدور.. حتى انه شعر ان رائحة الغرفة تحمل عبق أنفاسها.. وضعت تهانى حازم على الفراش و هتفت في زكريا تخرجه من شروده: - هات يا سى زكريا بطاقتك عشان أسجل البيانات.. اخرج لها زكريا هويته الشخصية مقدما أياها لتتناولها ناظرة اليها في حبور: - زكريا الهوارى.. أخيرا اسمك الحقيقى.. الله يرحم كرم الصعيدى.. فاااكر.. ابتسم زكريا: - الا فاكر.. هو دِه يتنسى..
اومأت برأسها و تركته هاتفة و هي تهم بغلق الباب خلفها: - استريح جنب ابنك لحد الغدا بقى.. حمد الله على السلامة..ده غندور هايفرح قوووى لما يشوفك.. ابتسم زكريا و هو يتذكر ذلك الشاب الاسكندرانى الأسمر الذى كان بمثابة الملاك الحارس له دخلت الحاجة فضيلة قاعتها المفضلة صيفا لتجد مهران يقف فى اعتزاز فوق احد الأرائك يتجه بوجهه صوب القِبلة.. هاتفا بصوت جهورى مؤذنا للصلاة..
هتفت الحاجة فضيلة مقهقهة: - بتأذن لإيه يا شيخ مهران.. ده حتى الضهر لسه مچاش وجته.!؟.. تنبه لها مهران هاتفا: - انا بچرب صوتى يا ستى عشان آاذن فى الچامع زى سيدنا الشيخ عوض.. هتفت مبتسمة: - و ماله.. هو انت أجل منيها.. ده انت الشيخ مهران بحاله.. ابتسم الصبى فى سعادة لفخر جدته.. و التى هتفت به: - تعال بجى اجرالى على راسى يا سيدنا الشيخ لچل ما وچع راسى يطيب..
تمددت الحاجة فضيلة على احد الأرائك ليتخذ مهران موضعه و يجلس بالقرب من رأسها و يضع كفه الصغيرة على جبينها و يبدأ في قراءة ما يحفظ من آيات القرآن الكريم و التى اجتهدت هى و الحاج قدرى ليحفظها مهران. دخل عاصم فى تلك اللحظة ليجد مهران يقرأ القرآن على رأس جدته المنهك فيبتسم بحبور و يجلس مستمعا..
فتحت الحاجة فضيلة عينيها لتطالع عاصم يجلس يتطلع لها ولولده فى سعادة.. ليهتف ممازحا ولده: - ايه يا شيخ مهران..!؟.. بتعمل ايه..!؟.. هتف الصبى بتلقائية محببة: - بجرا لستىقرآن لجل ما يخف وچع راسها.. هى بتجولى يدى فيها الشفا.. قهقه عاصم مؤكدا: - ايوه طبعا.. يدك فيها الخير كله.. و نظر عاصم لامه نظرة متخابثة ذات معنى هاتفا: - بس ستك هتخف و تبجى عال لما تبطل تشرب الجهوة فى الدرا وتخبيها منى.. صُح يا حاچة.. !؟..
هتفت الحاجة فضيلة بنبرة لامبالية: - اللى يلجى حاچة يبجى يخدها.. أنى معرفاش انت بتتكلم عن ايه فى الأساس.. اخر كيس بن انت خدته.. عايز ايه بجى..!؟.. هتف عاصم مؤكدا و هو ينهض ليتوجه حيث تتمدد فى استرخاء لينحنى يقبل هامتها هاتفا: - عايز سلامتك يا حاچة.. و الله ما عايز غير سلامتك.. ما هو وچع راسك و الدوخة اللى بتاجيكلك عشان ضغطك العالى اللى منتش مرعياه.. عشان خاطري ياما.. خلى بالك على حالك..
ابتسمت فى رضا تجاه ولدها و أومأت برأسها مؤكدة له انها ستبدل قصارى جهدها للمحافظة على صحتها التى بدأت تضعف فى الفترة الاخيرة.. و مدت كفها تبحث عن كف مهران الصغيرة الشافية لتضعها من جديد على جبينها..
عاد زكريا لعمله بالميناء بعد توصية من غندور الذى استقبله في حفاوة و سعادة بالغة كان يغادر صباحا تاركاً حازم في صحبة تهانى التي استطاعت كسب ثقته و محبته في وقت قياسى.. و يعود عند المغرب يتناولا غذاءهما المتأخر لينام حازم بعدها ملأ جفونه و يعاود زكريا عادته مع البحر و جلوسه على الشاطئ القريب من البنسيون.. يتطلع للبحر الغامق الغامض لساعات و يعود من جديد لحجرته محتضناً ولده بين ذراعيه.. ليذهب من جراء تعب النهار بطوله الى اعتاب النوم سريعا..
و في صباح احد الأيام و بينما هو يدفع أمامه تلك العربة الحديدية ثنائية العجلات و التي يحمل عليها البضائع هنا وهناك.. هتف به احدهم في دهشة و بصوت عال: - كرم الصعيدى..!!؟..
توقف زكريا عندما سمع اسمه المعروف به في الإسكندرية و استدار ليطالع صاحب الصوت المألوف له ليهتف بسعادة عندما طالع صاحبه مندفعا اليه في شوق: - عم بحر.. انت فين يا راچل يا طيب..!؟. لفيت عليك المينا كلها اول ما جيت اسكَندرية..
احتضنه بحر في سعادة هاتفاً: - انت اللى رحت فين..!؟.. ما بين يوم و ليلة تختفى كده و محدش يعرف عنك حاجة.. هز زكريا رأسه متفهماً: - مَعلش يا عم بحر.. ظروف.. حكاية طووويلة.. ابجى احكيهالك بعدين.. هتف بحر مصراً:- لااا.. بعدين ايه..!؟؟. انت تخلص النقلة اللى في ايدك دى و تيجى معايا..
هتف زكريا: - على فين..!؟.. هتف بحر متعجلا أياه: - خلص بس و انت تعرف.. أنجز ياللاه.. و انا هستناك هنا مش هتعتع من مكانى لحد ما ترجع.. ابتسم زكريا و اندفع ينهى عمله...
دخل يونس غرفته الملاصقة لجدار بيت زكريا مدندنا لحنا شجيا كعادته و هو يعد لنفسه كوب من الشاى.. كان يغير جلبابه بأخر مريح استعدادا للنوم.. صب الكوب و بدأ فى ارتشافه باستمتاع و هو يجلس على اعتاب حجرته يتطلع الى السماء الصافية فى تلك الليلة و الممتلئة بالنجوم على غير العادة..
أغمض احدى عينيه و مد راحته يلتقط احدى النجمات مطبقا عليها كفه فى سعادة و شعر ان تلك النجمة العالية هناك و التى لا يطالها الا فى الخيال كما يفعل الان ليست الا تلك الناقمة عليه دوما و التى لم يرى ابتسامتها فى وجهه و لو لمرة وحيدة.. هو لا يعرف متى شعر بميل قلبه تجاهها و لا برغبته في القرب منها..!؟.. لكن فجأة و بلا مقدمات شعر انه يريدها و يتمناها كما لم يتمنى امرأة من قبل..
شعر ان الاستقرار الذى اعتاده فى ارض زكريا جعل منه إنسان جديد.. يونس اخر.. بقلب داجن يسهل ترويضه و جعله مناخ صالح للحب.. و الان هو يحبها.. رغم كل نفورها و تمنعها.. يريدها.. رغم نظراتها النارية و تصرفاتها التى تدل على عدم رغبتها فى تواجده.. الا انه يهواها.. يكاد يجن.. كيف حدث ذلك..!؟. هل من الممكن ان نعشق جلادنا..!؟.. هل من المنطقى ان نقع فى حب محكوم عليه مسبقا بالسكتة القلبية..!؟..
تنهد فى ضيق و نهض يستعد للنوم.. و ما ان تمدد فى راحة حتى سمع صوتها.. ظن انه يهزى.. ألهذه الدرجة تطارده حتى على اعتاب نعاسه..!؟.. لكن مهلا.. الصوت يبدو حقيقيا و بدأ بالفعل فى الارتفاع و بدأت تتضح نبراته ليندفع الى فأسه و قد استشعر ان فى الامر حدث جلل فقرر ان يكون مستعدا و يلوذ عن عرض صاحبه و لو بحياته نفسها..
تسلل للمطبخ عبر بابه الذى يُفتح للخارج على حجرة الخبيز و هو يحمل فأسه فى وضع التأهب للهجوم.. بدأ يقترب من داخل الدار و وقف تلك اللحظة يطل على صحنها الذى رأى فى منتصفه كسبانة و هى تقف فى بسالة تحمى حمزة ولدها خلف ظهرها امام رجل متوسط القامة قوى البنية يتلفح بعباءة سوداء اللون و لا تظهر ملامح وجهه ليونس من موضعه حيث يقف..
هتفت كسبانة فى حزم: - مش هتاخد حمزة يا سليم.. ده بعينك.. ده ولدى.. ابوه مات من زمن و إندفن يوم ما اتبرى منيه و مكنش معترف بيه.. دلوجت چاى تجول ولدى و عاوز تخده من حضنى.. على چثتى جبل ما تمس منيه شعرة..
هتف سليم فى نزق: - ولدى وهاخده و اللى فى وسعك اعمليه.. محدش هايچدر يمنعنى.. هنا تدخل يونس فى ثورة حازما أمره ليظهر فجأة من خلف سليم الذى انتفض متراجعا يحكم لثام وجهه خوفا من التعرف على شخصه و قد باغته ظهور يونس بهذا الشكل الغير متوقع: - انى اللى هجف لك.. و ابجى ورينى هتاخد حمزة كيف.!؟..
انفجر سليم ضاحكا فى خشونة تقطر استهزاءً و اخيراً هتف: - مين بجى دِه يا ست هانم..!؟..يا شريفة.. هو عادى الرچالة بيخطوا الدار بالساهل كِده فى نص الليل..!؟.. صرخ فيه يونس زاجرا: - اخرس.. دى اشرف منيك و من عشرة من عينتك.. و لو مخرجتش من هنا حالااا.. صدچنى انت اللى هتخرچ.. بس على نجالة.. انا خريچ سچون.. و چتلت جبل سابج..
و ممكن ارچع السچن تانى.. بس المرة دى هاتبچى فيك.. و هكون مبسوط چوووى وانى باخد روحك.. و رفع يونس فأسه بالفعل فى أتجاه سليم الذى هتف فى حنق: - لم نفسك يا واد انت.. انت متعرفش انت بتكلم مين..!؟.. انى سليم غسان الهوارى.. ده انى امسحك من على وش الدنيا..
انفجر يونس ضاحكا: - بچد..!؟.. و الله انت صوت على الفاضى و الدليل مچيتك زى الحرامية جال عايز تاخد ولدك.. لو راچل صـُح مكنتش تعملها و تاجى فى نصاص الليالى لحرمة بجت غريبة عنيك من ساعة ما طلجتها و تتهچم على دارها.. بچد راچل و سيد الرچالة.. على العموم انى شيعت لعاصم بيه.. و زمانه على وصول و إنتوا بجى أهل وولاد عّم فى بعضيكم و شوفوا تحلوها كيف الحكاية دى..
اضطرب محيا سليم ما ان جاء يونس على ذكر عاصم بن عمه..ويبدو انه بدأ يفقد صوابه بالفعل عندما ابرز طبنجته من صدر جلبابه موجها إياها فى وجه يونس الذى ما اهتز للحظة بل دفع نفسه امام كسبانة و حمزة فى بسالة وشهقات كسبانة تتعالى فى ذعر...
كاد ان يتحكم جنون سليم المعتاد بأفعاله و يضغط على زناد سلاحه لولا ان سمع صفيرا مميزا بالخارج ادرك من خلاله ان هناك من يقترب و عليه الخروج و الرحيل فورا... و بالفعل..عاود احكام كوفيته حول ملامح وجهه يداريها و يندفع فى غضب هادر للخارج متلفتا حوله فى حذّر قبل ان يختفى تماما خلف الباب..
تنهدت كسبانة فى عدم تصديق ان هذا الكابوس انتهى على سلام و استدارت تجذب حمزة ولدها لاحضانها وهى تبكى تعتصره بين ذراعيها للتأكد انه لازال معها.. و لم يجرؤ هذا الوقح المدعو سليم من انتزاعه من أحضانها ..
استدارت بعد ان هدأت لتشكر يونس الذى كان على استعداد للتضحية بحياته فى سبيل إنقاذ طفلها من بين يدى ابيه الحقير لكنها لم تجده فقد شعر بالحرج و هو يراها تقف هكذا بملابس نومها الخفيفة فى هذا الجو الحار و بكاءها الذى أدمى قلبه على نجاة ولدها من بين ذراعى ذاك المتجبر..
مظهرها الناعم و بكاءها المفطر للقلب جعل قلبه يئن ألما و عشقا مما دفعه لينسحب في هدوء مبتعدا وهو يشعر بالرضا التام انه وقف كما يجب لحمايتها وولدها..
رواية ميراث العشق والدموع موال التوهة والوجع رباب النوح والبوح زاد العمر وزواده
رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني بقلم رضوى جاويش ( موال التوهة والوجع ) الفصل الثالث عشر
سار زكريا بجوار عم بحر لا يعلم الى أين يتجه و لا الى أين يأخذه هذا الرجل الذى أنقذه ذات مرة من بين يدى بلطجية الميناء و أصبحا من بعدها صحبة لا يمر يوما دون اى يرى عم بحر و يفطر معه بما تجود به ميزانتيه الضئيلة يومها.. وصولا لموقع بناء حديث جال فيه زكريا ببصره ليتذكر أيام قضاها مع الحاج مرشدى في اعمال البناء و المقاولات..
أخيرا وصلا لعشة صغيرة من الخوص و القش نصب فيها عم بحر بعض من أدوات صنع الشاي و القهوة و بعض الأكواب و موقد صغير و عدة كراسى تتوزع هنا وهناك.. جلس زكريا على احداها هاتفاً: - ايه دِه يا عم بحر.. انت جايبنى المسافة دى كلها عشان نجعد هنا.. طب ما كنا جعدنا على اى جهوة و السلام..!؟
قهقه بحر هاتفاً: - لا يا كرم.. دى العشة بتاعتى.. هتف زكريا: - بتاعتك..!!؟.. الله اكبر.. دِه انت عديت يا عم بحر على كِده و بجيت من ذوى الأملاك.. قهقه بحر من جديد: - يحظك يا كرم..املاك مرة واحدة.. !!... بس ايه رأيك.!؟.. و أشار الرجل لعشته بفخر كأنها قصر منيف ليهتف زكريا بحماس: - مفيش احسن من كِده.. ربنا يبارك لك فيها.. قاطعهما احد العمال المشتغلين بموقع البناء الذى تقع العشة في احد أطرافه طالبا كوبا من الشاي..
ليندفع بحر مجهزا أياه في سرعة و احتراف ليتناوله العامل و يجلس في أحد الأركان يرتشفه بتلذذ مستمتعاً.. هتف بحر معاوداً سؤال زكريا و هو يقدم له كوب من الشاي تحية له: - مسألتنيش يعنى منين العشة و النصبة و انا كل اللى كان حيلتى باجور و كبيتين زى ما انت عارف..
قال زكريا: - ربك رزاج يا عم بحر.. و رزجه واسع.. بس منين..!؟.. عشان نريحوك.. و ابتسم زكريا.. مما دفع الابتسامات لفم بحر وهو يسرد قصته البسيطة: - بعد انت ما اختفيت.. اتلم عليا بلطجية المينا تانى.. غلسات و قلة قيمة زى ما انت عارف.. كنت بروح لعيالى من غير جنيه في جيبى و أحيانا العدة مسروقة منى كمان.. قعدت ادعى ربنا و افتكرك و ادعيلك.. و انا جايلى إحساس انك في كرب كبير بس مش عارف ايه هو.. و طلبت من ربنا يردك بالسلامة عشان خاطرى و خاطر عيالى..و اهو ربك استجاب ليا وردك بس قبلها كان باعت لى راجل محترم يعرف ربنا.. الحاج مندور الشامى..
صاحب الموقع ده كله.. راجل معلم كبير في سوق المقاولات.. شاف البلطجية مرة و هم بيبهدلونى في المينا راح رجالته مبهدلنهم و خلصنى من أيديهم و بنى لى النصبة دى جنب الموقع الجديد بتاعه اللى بيبنى فيه العمارات دى و من ساعتها و انا الدنيا ضحكت لى و بقيت زى ما انت شايف.. ابتسم زكريا في حبور: - ربنا يوسعها عليك كمان و كمان و بدل العشة تبجى جهوة كبيرة و بعدين اللى اسمه ايه ده!!..ااه.. كوفى شوب..
انفجر بحر مقهقها و هو يهتف: - مرة واحدة يا كرم..!!. طب ده انا مش عارف أنطقها.. املكها ازاى دى..!؟؟.. ثم استطرد بحر هاتفاً بجدية هذه المرة:- بقولك ايه يا كرم ..!!.. انتبه زكريا عندما تبدلت نبرة بحر للجدية ليستطرد الأخير هاتفاً: - انا مش عجبانى شغلانة المينا دى اللى لسه شغالها.. ايه رأيك اكلم لك شعلان ملاحظ الموقع يشغلك مع العمال هنا دول يوميتهم كويسة.. ايه رأيك..!؟..
هتف زكريا: - هو ينفع..!؟.. لو ينفع.. و ليه لا!؟؟... نچرب.. هتف بحر: - على بركة الله.. انا هكلمه و اللى فيه الخير يقدمه ربنا.. رفع زكريا كوبه يدفع اخر رشفة فيه الى جوفه قبل ان يستأذن مغادراً ليعود لولده مبكرا..
بالفعل ترك زكريا عمله في الميناء و ألتحق بالعمل في مواقع البناء الخاصة بشركة الحاج مندور الشامى تحت إشراف شعلان ملاحظ المواقع.. عمل زكريا السابق مع الحاج مرشدى في القاهرة أضاف لزكريا الكثير من المعرفة و الدراية بأمور المعمار و أسراره لذا استطاع بعد عدة ملاحظات ان يكتشف بعض التلاعب في نسب خلط المواد المستخدمة في البناء مما جعله يتوجس من شعلان و من وراءه...ظل أسابيع يراقب الموقف ليتأكد كى لا يرمى احد بالباطل حتى جاءت اللحظة الحاسمة و رأى بأم عينه ما كان يقوم به شعلان من مساومات على أسعار الخامات و التي هي في الأساس ليست الخامات المطلوبة او بالاصح ليست هي الخامات التي تستخدم و يكون جودة البناء بها مطابقا للمواصفات المطلوبة..
جلس في عشة العم بحر يطلب الشاي و يتنهد غير قادر على المدارة اكثر من ذلك.. سيجن ان لم يخبر احد ما يشيره كيف يتصرف في مر كهذا و كيف يمكنه توصيل الامر لصاحب الشأن حتى يتصرف بما يراه.. هتف العم بحر و قد استطاع ان يستشف مدى قلق و توتر زكريا: - خير يا زكريا.. مالك مش على بعضك ليه..!؟..حازم ابنك بخير.. !!؟.. كان زكريا قد شرح و حكى للعم بحر حكايته كلها و عرف كل تفاصيلها..
هتف زكريا نافيا: -.. ولدى بخير الحمد لله..و أشار له زكريا ليقترب و هو يهمس بالقرب منه: - الموضوع يخص العماير دى يا عم بحر.. زم العم بحر ما بين حاجبيه مستفسراً بتعجب:- ماله الموقع..!!؟.. و فيها ايه العمارات.. ما هي زى الفل اهى..!؟.. حرك زكريا راسه يمنة و يسارا رافضا وهو يهمس من جديد: - العماير دى مش مطابجة لمواصفات البناء يا عم بحر.. انا كنت شغال في الكار ده جَبل سابج و عارف انى بجول ايه.. في لعب على تجيل من شعلان بيتم في الخامات بتاعت البنا..و انا لازماً أوصل الحكاية دى للحاج مندور.. شهق بحر في صدمة: - الحاج مندور..!؟.. انت اتجننت يا زكريا.. هتوصله ازاى..!؟
ده مش بيجى الا كل فين و فين.. و بعدين لو شعلان شم خبر.. الله اعلم هايعمل ايه معاك..!؟؟.. أكتم على الخبر لحد لما نشوف صرفة.. هتف زكريا: - بس يا عم بحر.. قاطعه بحر هاتفاً في تحذير: - يا بنى انت عايز تربى ابنك.. خليك في حالك لحد لما نشوف هايجرى ايه..!!؟؟.. صمت زكريا على مضدد و لم يعقب لكنه اقسم بينه و بين نفسه انه لن يصمت على ما يحدث من فساد و تلاعب قد يكلف العديد من الأسر التي ستسكن تلك الشقق مستقبلا حياتها...
وقفت تعد الطعام فى المطبخ المطل على الارض و للعجب لم تسمع صوت ترنيمه و غناه كالعادة.. على الرغم من انها لم تنم بشكل جيد ليلة أمس بعد ذهاب سليم و احتفاظها بولدها حمزة بفضل يونس الذى استبسل فى الدفاع عنها و حماية ولدها الا انها شعرت بنشاط عجيب جعلها تنهض باكرا لتعجن و تصنع خبزا و فطيرا طازجا للفطور و الغذاء...
أنهت وضع بعض الأرغفة فى ذاك الفرن الطينى فى حجرة الخبيز و دلفت منها للمطبخ و هى تمسح كفاها المتربين بالطحين فى أطراف جلبابها المنزلى لتندفع تتحقق من الطعام الذى كان يغلى فى تلك القدور على الموقد فى احد جوانب المطبخ..
و سرح فكرها فى ذاك الذى كان على استعداد للموت فى سبيل الدفاع عنها وولدها.. هل ظلمته يوم ان ظنت فيه السوء..!؟.. هل اعتقدت حقا انه لمجرد كونه من ارباب السوابق و خريج من احد السجون انه بلا اخلاق أو ضمير..!؟..
استعادت كلماته فى مواجهة سليم و ابتسمت عندما تذكرت كيف دافع عنها ساعة لمح سليم عن وجود الرجال فى منزلها ما ان طالع محياه.. لقد نهر سليم.. اخرسه و كاد يقتله بالفعل.. هل ظلمته..!؟.. يبدو انها فعلت.. فما من شخص لا يحمل شرفا أو مرؤة يمكنه ان يقف امام سليم للدفاع عن امرأة ما رأى منها الا السئ من القول و الفعل و حماية لطفل ليس طفله..
و توردت خداها عندما تذكرت انها بحثت عنه بعد رحيل سليم و لم تجده و انتبهت انها كانت ترتدى احد قمصانها الخفيفة المعدة للنوم لذا فر سريعا ما ان تأكد من رحيل سليم..
لقد ظلمت ذاك الرجل.. ذاك الذى لا ينفك يشدو بصوته الشجى و الذى اعتادته يصل لمسامعها طوال الوقت.. ابتسمت فى خجل و اعترفت بينها و بين نفسها ان صوته يصل للقلب بالفعل و يسكن فى العمق.. لكن أين ذاك الصوت فى تلك اللحظة.. !؟.. انها لا تسمع همهماته المعتادة..
رفعت هامتها قليلا تنظر من تلك النافذة العالية باحثة عنه بعينيها بطول الارض و عرضها فلم تجده.. شعرت بالقلق لا تعرف لما..!!.. عادت لغرفة الخبيز تطمئن على الأرغفة التى تركتها بداخل الفرن و اخيراً خرجت من الباب تقف على الحافة الفاصلة تلقى بنظراتها هنا و هناك لعلها تلمحه مبتعدا لأطراف الارض البعيدة حيث لا يمكن لصوته الوصول اليها.. ازداد قلقها عندما ادركت انه غير موجود بالمرة..
و ادركت.. بل ايقنت انها ما عادت تشعر بالامان الا بوجوده فى الجوار.. حتى و لو لم تعترف بهذا فى البداية الا انها تستشعر ذلك بشكل أعمق مما كانت تتخيل.. و خاصة بعد ما حدث البارحة مع سليم..طلت مرة أخرى من النافذة تبحث عن ولدها ربما يعلم أين يمكن ان يكون يونس في تلك اللحظة.. لكن حتى حمزة لا تجده بالقرب.. يلعب مع الأولاد على الجانب الاخر من الطريق..
تنهدت.. و ما ان همت بالدخول لتتفقد الطعام حتى لمحته قادم.. ما ان اصبح قبالتها حتى ألقى التحية و عيونه لم تُرفع لمواجهة عيونها.. لم ترد التحية و لا تعلم ما الذى يدفعها للتعامل معه بهذا الشكل حيث هتفت فى حنق: - كنت وين..!؟.. و كيف تِهمل الارض و ترمح تشوف مزاچك من غير ما تجول.. !!؟.. هى ايه..!؟. وكالة من غير بواب..
تنهد فى ضيق لكلماتها و لم يعقب.. ساد الصمت و اخيراً هتف بهدوء: - انى كنت عند عاصم بيه.. كان لازما يعرف اللى حُصل عشية.. هتفت تستوضح: - و جال لك ايه..!؟.. رد فى هدوء: - جال هو هايتصرف.. و نخلو بالنا عشان سليم ممكن يعيدها.. و هايبعت غفير يجعد على الناحية الجبلية للدار.. هتفت دون تفكير: - غفير ليه..!؟.. ما انت كفاية البركة فيك..
رفع رأسه بشكل لا ارادى فى اتجاهها و نظراته مشدوهة غير مصدقة لما تفوهت به للتو..ينظر لوجهها الذى اصطبغ بألوان الطيف جميعها فى آن واحد لتلك الكلمات التى اطلقتها دون وعى أو تفكير.. و اخيراً همس فى حبور: - أنتِ شايفة انى كفاية يا أم حمزة.. !؟.. أرتبكت و تذكرت الطعام الذى تركته على الموقد و خبيزها الذى من الممكن ان يكون تحول لقطع من الفحم فهتفت فى عجالة مندفعة للداخل: - العيش زمانه أتحرج..
ابتسم فى سعادة يكاد يقفز فرحا و نشوة لمجرد كلمات عفوية خرجت منها تُعلى من قدره و تضعه فى مكانة خاصة بالنسبة لها خلع جلبابه و خاض الارض ممسكا بفأسه و بدأ فى العمل بهمة لم يعهدها بنفسه من قبل. مرت الساعة أو ربما اكثر قليلا حتى وجدها تعود فى هدوء..تنادى على حمزة لكنه لم يبالى..
اقتربت بصينية الطعام ووضعتها أمامه و اخيراً ظهر حمزة لينضم اليه جالسا بقربه يتناول طعامه سريعا ليعود للعب من جديد همت بالرحيل عندما هتف بها حمزة: - ما تجعدى ياما تكلى معانا.. نظر يونس اليها فوجدها تبتسم.. ربما للمرة الاولى يجدها ترسم اى تعبير على وجهها غير تلك التكشيرة التى كانت تقابله بها دوما ابتسامتها غيرتها تماما.. جعلت منها امرأة اخرى زاد وجيب قلبه لمرأى تلك البسمة النادرة على محياها الصبوح.. حتى ان كفه ارتعشت و هو يتناول احد الأرغفة ليبدأ فى تناول طعامه..
و لم يع الا وهو يهتف فيها عندما وجدها تهم فعلا بالجلوس معهما: - لاااه.. انتفضت متطلعة اليه فى استفسار.. ليكمل و هو يحول بناظريه عنها و يثبتهما بأعجوبة على وجه حمزة مستطردا: - ميصحش يا حمزة.. الناس الرايحة و الجاية تشوف أمك جاعدة تاكل مع راچل غريب عنيها..!؟..
تنبهت انه على حق.. و هم حمزة بالاعتراض هاتفا ان يونس ليس غريبا.. لكنها قاطعته و هى ترحل هاتفة: - عمك يونس كلامه صُح... اسمع ليه يا حمزة عشان تعرف كيف تبجى راچل على حج.. و رحلت مسرعة بعد ان جعلت يونس ينتفض لكلماتها للمرة الثانية حتى انه رفع نظراته لتتبعها بغير قدرة على جذبها بعيدا عن تلك المرأة التى كلماتها اى كانت نوعها.. تفعل به الافاعيل.. كلمات قد تدفع به للنار مذنبا أو تورثه الجنة..
جز شعلان على اسنانه في غل عندما تنحى به احد العمال الذى كان دوما يحاول استرضاءه وكسب وده حتى ولو على حساب بعض من زملاءه ليخبره بما سمع من الحوار الذى دار بين زكريا و بحر منذ قليل و هو يرتشف الشاي في عشة الأخير بالقرب منهما و استراقه السمع لبعض حوارهما و هما لا يدركان و هتف بغيظ: - طيب يا زكريا.. لما نشوف اخرتها ايه معاك يا صعيدى.. وورينى هتبلغ الحاج مندور ازاى..!؟..
ثم عاد يحدث الواشى في حقد هاتفاً: - شوف بقى.. الواد ده نخلص منه عشان ميقرفناش .. انا هخطط و انت ورينى همتك في التنفيذ..ده لو عايز تكسب رضايا بصحيح.!؟؟... هتف الواشى في تردد:- بس يا ريس شعلان.. انا..
هتف شعلان مقاطعا:- انت ايه..!؟.. شكلك هتزعلنى منك.. و أديك شايف انا زعلى وحش ازاى..!؟.. اومأ الواشى في إيجاب مضطرب و شعلان يخبره خطته للخلاص من زكريا.. و ما ان انتهى حتى دفعه بعيدا هاتفاً به: - ياللاه روح بقى وورينا شطارتك هتنفذ العملية ازاى..!؟.. بس بقولك ايه..!؟.. قضاء و قدر هااا.. مش عايز دم.. مبحبوش.. بيتعب اعصابى.. و قهقه شعلان بصوت جهورى مستفز جعل الواشى يجفل في ذعر وهو يندفع مبتعداً عن ذاك الشيطان و قد ادرك اى فخ أوقع نفسه فيه بحماقاته و رغبته في التسلق و التملق..
لم يكن زكريا على علم بأن الحاج مندور يبنى فيلته بالقرب من ذاك التجمع السكنى لتلك العمائر التي يشرف على بنائها شعلان حتى تم إرساله لموقعها ليشارك باقى العمال في بنائها..
دخل الي الموقع وتفقد الخامات و اساسات البناء ليكتشف ان شعلان لم تطل يده تلك الفيلا و خاصة ان لها مهندس مخصوص يشرف على بناءها بخلاف مهندسين الموقع الذين يتعامل معهم شعلان و سمعه ذات مرة يتفق معهم على مخالفة الخامات للمواصفات بفارق في السعر يُقسم على الجميع.. ارتاح قليلا لانه يشارك في بناء صرح بأسس سليمة و اخذ يدعو الله ان يستطيع مقابلة الحاج مندور في اقرب فرصة حتى يبلغه ما اكتشفه من خراب و فساد..
كان زكريا على الثقالة بالدور الثانى من الفيلا عندما سمع احد يناديه من الأسفل طالبا أياه في سرعة.. استجاب زكريا للنداء و هو يرى على البعد سيارة فارهة تقترب.. كان قد وصل للمنادى و هتف به لاهثاً: - خير.. ايه في..!؟..
وقف الرجل مترددا و أخيرا هتف على عجل: - اه.. انا كنت نسيت اقولك صحيح.. ان الريس شعلان كان عايز.. عايز.. و اخذ يدعى النسيان و هو يضرب على جبهته محاولا التذكر و زكريا يقف في نفاد صبر منتظرا تذكره.. كانت تلك إشارة من الرجل لصاحبه الذى كان يقف في الأعلى بنفس الطابق الذى كان به زكريا في الفيلا منذ لحظات يدفع بخبث و دون ان يستشعره احد لعمود من الخشب ليندفع في أتجاه زكريا الذى نفذ صبره بالفعل و قرر ترك الرجل و العودة لموقعه داخل الفيلا ليفاجأ بذاك العمود المنتصب يهوى في اتجاهه..
و تلمح عيناه سيدة تترجل من السيارة التي توقفت الان بالقرب منه و علم ان تلك السيدة حتما ستصاب بسقوط ذاك العمود كأصابته و ربما اكثر.. كانت تفصله خطوات بسيطة عن تلك الفتاة التي توليه ظهرها تتطلع للموقع المحيط بالفيلا قبل ان تدخلها... لذا وجد نفسه دون تفكير يندفع باتجاها يحيطها بذراعيه ويحاول ان يشملها بجسده قدر إمكانه حتى لا تصاب بأذى ليسقط العمود في تلك اللحظة على ظهر و كتف زكريا الذى تأوه في ألم و هو يرفع رأسه ببطء لتطالعه عينيها الجوزية و نظراتها المذعورة و يسقط أخيرا في بئر من الظلام و رأسه قد سقطت في أحضانها..
لا تعرف لما كانت تتحاشاه.. فلم يحدث منذ دفاعه عنها امام سليم ما يعكر الصفو.. لكنها رغم ذاك تتحاشى الخروج له حاملة الطعام كعادتها.. كانت تدفع حمزة بالصينية التى كان ينوء بحملها معظم الوقت ليضعها امام الباب مناديا يونس لحملها بالنياية عنه.. و الْيَوْمَ لم يكن استثناءً فبالفعل حملت صينية الغذاء حتى باب حجرة الخبيز التى تطل على الارض و تشترك مع حجرته فى نفس الحائط ليحملها حمزة بضع خطوات و يضعها فى تعب مناديا على يونس الذى لم يرد..
لم تسمع صوت غناءه المعتاد كما تعودت منذ الصباح الباكر وهو يخرج للأرض و توقعت انه فى الجانب المتطرف منها لذا لا تسمع له حسا.. لكن استمرار حمزة فى النداء بلا طائل جعلها تخرج من خلف باب الحجرة حيث كانت تنتظر ولدها لتتطلع للأرض تجول بناظريها فى اطرافها لعلها تلمح طيفه هنا أو هناك.. لكن بلا جدوى..
اندفع حمزة فى اتجاه غرفته التى لم يكن يدخلها احدهما.. ليدفع بابها فى هدوء مناديا باسم يونس ليجده بالفعل فى الداخل.. لكن ممددا على فراشه يئن فى ألم و لا يجيب نداءات حمزة المتكررة و الذى شعر بالخوف فاندفع خارجا يخبر أمه بما رأى من حال يونس لتندفع بلا وعى لداخل الحجرة لتتطل لوجهه الشاحب..
ترددت فيما يجب عليها فعله.. هل تبعث لعاصم تخبره.. أم ماذا..!؟.. عليها اخباره و عليه التصرف أرسلت حمزة لعاصم فى السراىّ ليبلغه ما يحدث.. و اقتربت هى تضع كف مترددة على جبين يونس الذى كان يهزى بكلمات غير مفهومة.. كان جبينه يستعر.. شعرت بالشفقة تجاهه.. و اندفعت خارج حجرته فى انتظار مجئ عاصم.. لم يمر الكثير حتى عاد حمزة هاتفا: - عمى عاصم مش موچود مسافر بره البلد..
صمتت لثوان ثم هتفت فيه من جديد: - طب اچرى على الداكتور و هاته فى يدك و تعالى.. تعرف.!؟.. جوله انا عمى يبجى عاصم الهوارى.. أكد حمزة: - اه.. اعرف.. و اندفع منفذا مطلب أمه التى انتظرت مجئ الطبيب بفارغ الصبر.. لا تعرف لما ذاك القلق الذى يعتريها على يونس.. و تلك المشاعر التى تتسلل لداخلها تسيطر عليها بشكل غريب.. يوم ان غاب شعرت بافتقاد الأمان و الْيَوْمَ تستشعر احساس اخر من القلق و الخوف من الفقد اصبح يونس.. بوجوده و صوته الدافئ و غناه و كل ما يخصه يؤثر عليها بشكل ما عجيب.. لم تستشعره من قبل..
يوما ما ظنت انها تعشق زكريا لانها رأت فيه ذاك الرجل الذى انتظرته طويلا.. الرجل الذى يشعرها بالأمان الذى افتقدته مع سليم و الذى بالطبع لم يكن هو ذاك الرجل الذى يهبها أمانا حتى ولو زائفا.. الان مع يونس الامر مختلف..
مختلف بشكل كلى.. يونس ليس فقط ذاك الرجل الذى تمنته بل انه على العكس تماما مما تمنت.. لكن على الرغم من ذلك وجدت به و معه كل ما كانت تنتظر و تتمنى.. واعترفت لنفسها ان يونس له مكانة فى قلبها الذى اعتقدت انه لن يفتح لاى رجل مهما كان.. يونس وحده هو الذى أشعرها ان هذا القلب لازال موجودا و قادر على النبض و قادر على الحياة من جديد..
انتفضت عندما حضر الطبيب ملقيا السلام..دخل لمعاينة يونس حيث كانت تقف خارج غرفته.. ليخرج بعد لحظات هاتفا: - طبعا لازم الراحة و الغذا الكويس بس الأهم من ده كله انه يتنقل من الاوضة دى لان كلها رطوبة.. ضرورى..
اومأت برأسها فى تاكيد و هى لا تدرى ماعليها فعله و تناولت وصفة الدواء من الطبيب الذى ألقى التحية و رحل تاركا إياها فى حيرة.. أرسلت حمزة ليبتاع الدواء و دخلت تعد له بعض الحساء و مرت على غرفة بخيتة لتقص عليها ما حدث و تستشيرها فى الامر.. لتهتف بخيتة فى تاكيد: - طب و ماله يا بتى.. ماننجلوه..
هتفت كسبانة: - فين يا خالتى..!؟.ننجله فين!؟ أكدت بخيتة: - الأوضة المجفولة اللى بتطل على الجنينة و ليها باب من بره لحالها.. وضبيها و تبجى اوضته.. الراچل بن حلال و منساش وجفته جصاد سليم.. ده كان هيروح روحه لجل خاطرك.. تحرجت كسبانة هاتفة: - لجل خاطري ليه..!؟.. هو بيعمل بوصاية سى زكريا....
ابتسم بخيتة فى خبث هاتفة: - طيب..ما دام أنتِ شايفة كِده..!!؟..ربنا يشفيه.. و يكتب لكم الخير يا بتى.. همست كسبانة مؤمنة: - امين.. و نهضت فى عجالة تخرج من باب الدار الداخلية لتستدير عبر الحديقة و تصعد عدة درجات تفضى لتلك الغرفة التى لم تدخلها من قبل و التى جعلتها بخيتة كمخزن للاشياء الغير مستخدمة.. بدأت فى نقل ما أمكنها نقله و قامت بتنظيفها و نصبت الفراش و وضعت بعض الأشياء الاخرى اللازمة للاستخدام و اخيراً اندفعت تطمئن على يونس لتساعده فى المجئ للغرفة الجديدة بعيدا عن رطوبة تلك الغرفة التى كان يسكنها..
دخلت غرفته لتجده بدأ يستفيق برغم شحوب وجهه الذى لازال يكلل ملامحه السمراء الرجولية.. مدت كفها لتضم كفه جاذبة إياه و هى تهتف فى رقة: - ياللاه يا سى يونس..شد حيلك معايا.. انتفض عندما ضمت كفه بتلك الطريقة الحانية و جذبها هاتفا فى تعجب بصوت واهن: - على فين.!؟...
ابتسمت فى رقة و عادت تجذب كفه مرة اخرى لينهض فى تثاقل نظرا لمرضه مشرفا عليها بقامته المتوسطة الطول و التى أظهرت مدى قصر قامَتَها بالنسبة له مؤكدة: - حضرنالك أوضة تانية خلاف دى.. همس متعجبا: - و مالها دى..!؟.. ما هى زينة اهى...
ابتسمت وهى تسير فى بطء ليسير خلفها متعكزا على كفها محاولا قدر استطاعته ان لا يثقل عليها رغم شعوره بالدوار يكتنف رأسه: - الداكتور جال مينفعش تجعد فيها.. كلها رطوبة.. توقف للحظات و بدأ يسعل فى شدة أدمت قلبها..لتهتف: - اهااا.. شايف..لازما تنجل أوضة چديدة بعيد عن الرطوبة.. نضفت لك الاوضة المجفولة على الجنينة.. و هتروح تستريح فيها دلوجت..
بدأ فى السير من جديد محاولا الاستناد على الحوائط القريبة من خط سيره حتى لا يضطر للارتكان على كفها البضة التى تجعله يشعر بمزيد من الحرارة الحارقة تسرى بعروقه.. وصل اخيراً للدرجات حيث الغرفة المعدة لاجله..
صعدها فى مشقة و اخيراً ألقى بجسده المنهمك من جراء رحلة الانتقال على الفراش وقفت هى على اعتاب باب الغرفة هاتفة فى قلق: - سى يونس.. انت كويس..!؟.. أشار اليها بكفه ان لا وانه لا يشعر بانه على ما يرام.. لتندفع لداخل الغرفة تشرف على محياه المسجى على الفراش هاتفة بنبرة تقطر ذعرا: - اچيب الداكتور تانى.. !؟..
فتح جفونه فى بطء و ارتسمت على شفتيه ابتسامة باهتة و هو يهمس: - بجيت كويس اول ما طليتى عليا.. كسبانة.!!... كانت المرة الاولى التى يهمس فيها باسمها مجردا.. بل باسمها من الأساس فدوما نداءه لها كان.. أم حمزة.. لم تسمع اسمها تنطقه شفتاه من قبل.. مما جعل ارتعاشة خفيفة تسرى فى اطرافها لا تعرف لها سببا و هو يستطرد هامسا: - تتچوزينى!؟...
لتشهق هى فى صدمة و هى تطل عليه بعيون مفتوحة و فم تغطيه بكفها.. و ما ان استفاقت من صدمتها حتى اندفعت خارج الغرفة تكاد تتعثر فى خطواتها و هى تهبط درجات السلم مندفعة لداخل الدار..
ظهرت له من جديد تبتسم كعادتها لكن هذه المرة الامر مختلف فقد استدارت و رحلت بعيدا و حاول هو النداء عليها لكن صوته حبيس حنجرته لا يفارقها.. استدارت مرة أخرى و غابت بالفعل بعد ان لوحت له من خلف غمام اسود بدا يتحول للرمادي و أخيرا عاد صوته ليهتف باسم واحد: - حااازم.. انتفضت هى عندما سمعته يهزى بإسم ما فاندفعت لوالدها الذى كان يطالع الجريدة في اخر الجناح الواسع و لم يستمع لهمهمات زكريا..
انتفض ابيها مسرعا اليها عندما اشارت نحو زكريا ليصل لجسد زكريا المسجى و الذى بدأ يستعيد وعيه أخيرا مكررا النداء باسم ولده الوحيد.. حاول زكريا فتح عينيه عدة مرات و لم يستطع من قوة الضوء الضاربة في عمق عينيه.. و أخيرا اعتاد سطوع الضوء ليفتحهما في تمهل متطلعاً حوله... زفر الرجل الخمسينى في راحة هاتفاً: - الحمد لله.. أخيرا فوقت.. قلقتنا عليك..
تطلع زكريا لملامح الرجل الذى لا يعرفه و لم يسبق له رؤيته.. همس زكريا بصوت واهن: - انى فين..!؟.. و حاول التحرك لكن ذراعه اليسرى و راسه المضمدة اشعرتاه بالالم.. هتف الرجل: - خليك زى ما انت بلاش حركة الدكتور قال راحة تااامة.. أعاد زكريا السؤال: - انى فين..!؟..
أجاب الرجل: - انت هنا في فيلتى.. فيلا الحاج مندور الشامى.. شهق زكريا متعجباً متغلبا على ألم رأسه الذى يكتنفه الان: - هو حضرتك الحاچ مندور.. الف حمد وشكر ليك يا رب.. ابتسم الحاج مندور و لم يعقب ليستطرد زكريا: - ده انى كنت بدعى ربنا اجابلك و مكنتش عارف اوصلك كيف..!؟..
اتسعت ابتسامة الحاج مندور هاتفاً: - و أديك أهو جوه فيلته..!؟.. نايم في جناح الضيوف.. بس ليه كنت بتدعى تشوفنى..!؟ هتف زكريا بصوت رتيب واهن: - يا حاچ انى مش هشهد غير بالحج.. ألحج مالك و سمعتك.. انت راچل زين و الكل بيحلف بحياتك بس شعلان.. هتف مندور متعجباً: - ايه اللى بتقوله ده.!؟ و ايه دخل شعلان بيه..!؟؟..
استطرد زكريا: - يا حاچ مندور في لعب ياما بيتعمل من ورا ضهرك و مواصفات مش مطابجة و مهندسين مطرمخين على اللى بيحصل عشان بيجبضوا.. هتف مندور في ضيق: - و انا ايه اللى يخلينى اصدقك..!؟.. اه انت انقذت بنتى زينة .. و أشار لابنته التي كانت خارج مجال رؤية زكريا.. ثم استطرد: - لكن ده مش كفاية ان اصدق المصايب اللى بتقولها دى.. ده انت لسه جديد عندنا على ما سمعت و شعلان في الكار ده من زمان و اشتغل مع مقاولين ياما..هو اه انا مبرتحلوش بس ده مش معناه انه حرامى..
هتف زكريا: - عِندك حج يا حاچ.. اه انى جديد هنا.. لكن منيش چديد على الكار.. انا اشتغلت مع الحاج مرشدى الضبع في مصر و شربت منه الصنعة و عرفت ايه اللى ينفع و اللى مينفعش.. و قاطعه مندور هاتفاً: - الحاج مرشدى الضبع!؟.. انت كنت شغال معاه..!؟.. أكد زكريا: - اه.. و جَبل ماجى اسكندرية كنت عنديه شغال و تجدر تسأله..
هتف مندور في تعجب: - ياااه.. مرشدى ده صاحب عمر بس للأسف اتفرقنا.. هو فضل هناك و انا جيت على إسكندرية .. فضل هو ف شعل القطاعى و انا غامرت و بقيت اللى انت شايفه ده..ده انت اللى هتدلنى عليه لانه قفل محله القديم و غير مكانه خاالص و من ساعتها مش قادر أوصله و الدنيا خدت كل واحد في سكة..
ثم تنهد و هتف أخيرا: - طب يا زكريا.. انا عايز اتأكد من اللى بتقوله ده و اسمعه بودنى مش عايز انزل الموقع ألاقى كل حاجة تمام و المهندسين مظبطين الدنيا لان واضح ان في حد بيبلغهم بمجيتى حتى و لو فجأة.. أكد زكريا: - خلاص يا حاج سيبها عليا..و كله على الله في الأول و الاخر..
هز مندور رأسه متفهماً ليهتف زكريا محرجا: - طب انا بجيت كويس يا حاچ.. استأذنك اروح.. زمان ولدى لوحديه.. هتف مندورفى لوعة: - ابنك..!؟..يا زكريا.. انت بقالك خمس ليالى غايب عن الدنيا..فين ابنك ده..!؟.. و ازاى تسيبه لوحده..!؟.. بهت زكريا من الفترة التي غاب فيها عن الوعى و لكن ما افزعه حقا هو حازم.. يا ترى كيف حاله الان مع الست تهانى و التي بدورها لا تعلم أين مكانه..!؟.. هتف زكريا: - ولدى في البنسيون اللى انى جاعد فيه بترعاه صاحبته و بتخلى بالها منيه لحد ما ارچع من شغلى.. كتر خيرها..
هتف مندور: -طيب احنا هنبعت نجبهولك.. بس هي فين ولدته..!؟.. همس زكريا بشجن: - الله يرحمها.. تحرج مندور: - الله يرحمها.. ثم استدار مندور هاتفاً: - انا هبعت السواق يجيب الولد..اسمه حازم مش كده..!؟.. هتف زكريا رافضا: - لااه.. ملوش عازة يا حاچ مندور.. بس وصلونى لعنديه و كتر خيركم..
هتف مندور مؤنباً و هو يستدير ليعود لزكريا يرجع كتفيه لموضعهما على الفراش حينما عم بالنهوض متحاملا على ألام كتفه و رأسه: - انت رايح فين..!؟.. ما قلنا الحركة ممنوعة و خطر عليك دلوقتى.. مفيش روحة في اى حتة و ابنك هيجيلك لحد هنا.. ارتاح بقى..
عاد زكريا متمدداً على الفراش و في اثناء ذلك وقعت عيناه على تلك الفتاة التي كانت قابعة في احد أركان الغرفة صامتة تماما لم تنبس بحرف.. تتطلع لما يحدث بعيون متسائلة حيرى..و تشبك كفيها و تفرك أصابعها في اضطراب ظاهر.. أشاح زكريا بنظراته عنها و هو يكتنفه شعور عجيب بانه قابل تلك الفتاة من قبل و لكن لا يعلم أين..!؟.. او متى حدث ذلك.!؟
اندفع مندور خارج الحجرة ليقوم بما يلزم ليحضر حازم و ما ان رأت ابيها يخطو خارج الغرفة حتى اندفعت بدورها في اضطراب خلفه.. حتى انها لم تفكر للحظة بان تشكره.. لكنه لم يهتم كثيرا فهو يدرك تماما تلك الطبقة الواسعة الثراء و كيف يكون ابناءها.. فانهم يروا أنفسهم فوق البشر جميعا و ان جميع بنى ادم قد خُلقوا فقط لخدمتهم..
دخلت الخادمة تحمل صينية الطعام لزكريا و خلفها كانت تلك الصامتة التي لا تنطق بحرف ترفعا.. و ضعت الخادمة الصينية على تلك الطاولة الصغيرة الموضوعة على الفراش امام زكريا و رحلت..
توقع زكريا ان ترحل معها.. فهى بالنسبة له مجرد شخص غامر بحياته لانقاذها و عليها شكره و الامتنان له بطريقتها اى كانت هذه الطريقة حتى و لو فظة و لا تحمل اى ملامح من الذوق المفترض في مثل هذه الحالة.. لكن من هو ليطلب اكثر من ذلك فعليه ان يكون راضيا و ممتنا لذاك البزخ الذى يعيش فيه و تلك الرفاهية التي ما كان يحلم بها في جناح ملكى كهذا و في فيلا احد أكبر مقاولى الإسكندرية...
جلست هي كعادتها في ذاك الركن و بدأ الاضطراب المعتاد يسكنها بفرك أصابعها كما اعتادت.. لم يعيرها اهتماما و لا نطق بحرف لكن لا يعلم لما نظراته رغما عنه تحيد باتجاهها.. هناك شيء ما يجذب نظراته اليها و هو القادر دوما على غض بصره..
لكن هناك شيء أقوى من تلك القدرة امام تلك الفتاة.. ربما هو الفضول الذى يدفعه للتفرس فيها رغما عنه لعله يتذكر أين رأها فهو يكاد يقسم ان هذا الوجه قد قابله من قبل لكن لا سبيل للتذكر في اى مكان و ما المناسبة.. اندفع حازم من باب الجناح في تلك اللحظة هاتفاً ما ان رأى ابيه مندفعا لفراشه: - سكريا.. !!!... اخرج هتاف حازم زكريا من شروده ليتلقفه بين ذراعيه..
اندفعت هي ترفع صينية الطعام بعيدا عن الفراش مخافة اسقاطها بسبب اندفاع حازم المحموم تجاه والده.. الا ان زكريا ترك حازم و اندفع يحمل الصينية في نفس اللحظة التي وضعت كفيها لتحملها بعيدا..
كفيه على كفيها و صينية الطعام بينهما و نظرات مصعوقة من قبلها و نظرات محرجة من قبله.. ثوان مرت بلا رد فعل و فجأة تركت الصينية ليتلقفها هو قبل سقوطها و تندفع خارج الغرفة كالمذعورة التي يتعقبها الشيطان..
ترك زكريا صينية الطعام جانبا و أعاد تركيزه على حازم الذى اندفع لاحضانه من جديد معاتبا أياه على غيابه تلك الفترة الماضية و تركه وحيدا و قد بكى كثيرا و لم تستطع الست تهانى إسكاته ليهتف زكريا مازحاً: - وهو في راچل يبكى برضك..!؟..
هتف حازم بنبرة جدية: - انا مش راجل على فكرة.. شوف انا طولى ايه و انت طولك ايه..و أشار بكفه مقارنا طوله بطول والده مستطرداً لما ابقى طولك هبقى راجل.. انفجر زكريا ضاحكاً و لم يعلق على منطق ولده الغير قابل للمناقشة بل احتضنه في شوق و استدار يحمل صينية الطعام يطعم ولده منها و يتناول طعامه متطلعاً لحازم في سعادة...
اندفع مهران لداخل السراىّ و هو يمسك برأسه متألما صرخت الحاجة فضيلة و هى ترى الدماء تلوث جلباب حفيدها مما استرعى انتباه زهرة الذى اندفعت تتأكد من سلامة ولدها.. رفعت كفه عن الجرح النازف لتتأكد انه يحتاج الى بعض القطب الطبية فى الحال..
اما الحاجة فضيلة فاندفعت تحضر بعض من البن المحوج الذى تخفيه بعيدا عن كف عاصم حتى لا يتخلص منه بسبب حبها للقهوة التى ترفع لها ضغط الدم.. هتفت زهرة بها وهى تهم بوضع البن على جرح مهران: - لا يا خالتى .. ده محتاج خياطة ضرورى.. انا هبعت سعيد يجيب الدكتور.. و بالفعل اندفعت زهرة تطلب الطبيب بينما هتفت الحاجة فضيلة فى ضيق موجهة كلامها لمهران حفيدها الذى كان يجلس على طرف الأريكة شاردا لا يبالى: - مين اللى عِمل فيك كِده يا روح ستك..!؟..
هتف مهران: - الواد سلامة الصايغ.. ضربنى بالحچر و چرى.. أغمضت الحاجة فضيلة عيونها مفكرة بعمق: - طب و هو عِمل كده لحاله..!؟.. عِملت له ايه يا واد الغالى..!؟.. هتف مهران مدافعا عن نفسه فاشيا سره في براءة: - هكون عِملت له ايه..!؟.. انا خناچتى كانت مع اخوه الجبان اللى مجدرش علىّ راح باعت لى اخوه الكبير.. راح ضربنى على طوول بالحچر فى راسى و چرى.. هما الاتنين أچبن من بعضيهم عشان عارفين محدش هايجدر يضربنى..
ابتسمت فضيلة لحفيدها الذى كان يتسم عن اقرانه بقوة البنيان و هتفت بفخر و هي تحاول تنظيف الجرح: - معلوم.. هو انت واد مين..!؟.. ده انت واد عاصم الهوارى.. ثم نظرت فى تخابث و هى تدرك ان فى الامر شئ خفى لا تدركه: - بس برضك انت مجلتش.. ايه سبب العركة من الأساس يا مهران..!؟.
صمت الصغير و أنقذه الطبيب الذى استأذن و بدأ فى عمله و نظف الجرح و عقمه ثم بدأ فى تقطيبه و الطفل يبدى رباطة جأش تفوق سنه جعلت الجدة تبتسم و هى تتذكر ابيه في مثل عمره.. كان نسخة منه فى كل شئ على الرغم انه يشبه لحد اكبر الجد مهران الذى سُمى تيمنا به من الناحية الشكلية و بعض الصفات.. لكن فيما يخص القوة و الحمية فانه لا يختلف عن عاصم إطلاقا..
اندفعت سهام داخل القاعة حتى كادت تصطدم بالطبيب الذى أنهى عمله و كان فى سبيله للرحيل و هى تجذب خلفها ابنتها تسنيم فى يد و الاخرى تسبيح ذات الاربع سنوات فى اليد الاخرى.... هتفت فى لوعة ما ان رأت ضمادة مهران التى وضعها الطبيب على جرحه: - يا ولدى.. يجطعنى.. بتى السبب..
هتفت فضيلة و زهرة فى آن واحد: -ازاى..!؟.. كيف..!؟.. نكس مهران رأسه أرضا و صدق حدس الجدة فضيلة فها هو المستور يظهر عندما اندفعت سهام تحكى بعفوية: - تسنيم كانت بتلعب جدام الدار راح الواد البارد بن الصايغ ضايجها راح مهران ضاربه.. الواد الفجرى راح جاب اخوه و راح ضارب مهران بالحچر فى راْسه و طلع يرمح و الله لما ياچى عاصم و حسام لهيشوفوا اللى ما شافوه..عيال جليلة الرباية..
ابتسمت الحاجة فضيلة و هى تربت على كتف مهران هامسة فى استحسان: - جال كنت بتحوش عن بت عمتك يا مهران..!؟.. هز الصبى رأسه المنكس ببطء.. لتعيد الجدة التربيت على الكتف الصغير فى سعادة هامسة له: - چدع..عفارم عليك.. أوعى تخلى حد يجرب من حاچة تخصك..
رفع الصبى رأسه متعجبا: - تخصنى.. ازاى يا ستى..!؟.. ابتسمت الجدة متناسية سهام و زهرة اللتان أخذتا فى الحديث فى شأن رجالهما الغائبين: - معلوم يا جلب ستك.. تخصك.. مش بت عمتك.. يبجى تخصك.. و تدافع عنيها مهما كان جدام مين.. سمعنى يا مهران..!؟.. همس الصبى محاولا الاستيعاب لكل ما قالته الجدة: - سامعك يا ستى..
اقتربت تسنيم بجسدها البض الممتلئ قليلا فى خجل من مجلس مهران و جلست بجانب الجدة على استحياء هامسة وهى تشير للجرح برأسه: -هو بيوچعك يا مهران..!؟.. هتف الصبى فى تأكيد: - لاه مش واچعنى.. انا راچل.. و ده خربوش صغير.. انفجرت الحاجة فضيلة ضاحكة على رد فعل حفيدها الذى اثلج صدرها....
اندفع حازم لغرفة زكريا صارخاً في فرحة و كانت زينة في أعقابه تحاول اللحاق بِه حتى انها من شدة اندفاعها لم تستطع ان تمنع نفسها من التوقف قبل ان تصل لاعتاب الغرفة.. كان حازم الان في أحضان زكريا مدعيا الاختباء منها فابتسم زكريا لأفعال ولده و تطلع ممن يركض بهذا الشكل ليراها تقف حائرة على اعتاب الباب مضطربة و مترددة هل تدخل ام ترحل.. كانت تلك المرة الأولى التي يراها فيها بعد حادث صينية الطعام الغير مقصودة منه و رد الفعل العجيب منها..
هتف زكريا في تأدب: - اتفضلى يا أنسة زينة.. و كأن عرضه هو الدافع الذى كانت بانتظاره لتدخل الجناح في خطى وئيدة و مترددة.. حتى جلست في ركنها المفضل.. صامتة كعادتها.. هتف زكريا معاتباً حازم: - احنا مش جلنا نبجى هاديين يا حازم و منتعبش حد معانا!!؟.. هتف حازم ممتعضا:- ما انا مؤدب و هادى أهو.. انا كنت بلعب مع طنط زينة.. فيها ايه دى!؟؟.. ابتسم زكريا: - مفيهاش حاچة يا غلباوى بس متتعبهاش معاك..
تطلع اليها زكريا ليجدها أخيرا ترفع نظراتها المطرقة دايما الى الأرض لتتطلع اليه بدورها.. دخل الحاج مندور في تلك اللحظة ملقياً التحية و مطمئناً على صحة زكريا.. نظر الحاج مندور لابنته متعجباً عندما وجدها تجلس في هدوء في حضرة زكريا و ابنه دون ابداء ذاك الاضطراب المعتاد و فرك أصابعها المتزامن مع ذاك التوتر..
كانت بالفعل تجلس هادئة تماما و كأنها في حضرته هو.. فهو الوحيد الذى تكون على طبيعتها معه.. هتف الحاج مندور: - ها جاهز يا زكريا للى اتفقنا عليه.. و لا نأجل الموضوع شوية !؟. هتف زكريا مؤكدا: - لااه نأچل ايه..!؟.. كيف تأجيل يا حاچ.. ده انت موجف الشغل من ساعتها في العماير و ده برضك جوت ناس و اكل عيشها... الداكتور جال باذن الله على بكرة بالليل بكتيره هاياجى يطمن على چرح راسى و يفك الشاش اللى عليها دى هي بس يدى اللى هتاخد وجت شوية.. بعد بكرة الصبح باذن الله انزل الشغل و نفذ اللى اتفجنا عليه يا حاچ..
هز الحاج مندور راسه موافقا: - تمام يا زكريا و ربنا يعمل اللى فيه الصالح.. همس زكريا: - باذن الله.. نهض الحاج مندور مغادراً: - طيب يا زكريا نسيبك تستريح و كله على الله.. استدار الحاج مغادراً و ما ان وصل لاعتاب الباب حتى وجد ابنته لم تتحرك خلفه مسرعة كالمعتاد.. ابتسم في هدوء هاتفاً في محبة: - زينة.. مش هتعشينا و لا ايه !؟..
انتفضت زينة عندما انتبهت لمغادرة و الدها و قد احمرت وجنتاها خجلاً و هي تندفع خلفه مغادرة الغرفة في سرعة كما اعتادت.. ليتبعها زكريا بنظراته المتمردة على رغبته حتى رحلت.. فتنهد في ضيق و احتضن ابنه بذراعه السليمة الى صدره.. ليروحا في نوم عميق من جراء الدواء الذى يتناوله..
صرخات أيقظت زكريا من سباته دافعة أياه للنهوض في عجالة مقاوما ذاك الدوار الذى اكتنف رأسه فجأة عندما نهض مسرعا من نومه.. اندفع خارج جناحه متتبعا الصرخات المتلاحقة و التي تنبئ بكارثة.. و صَل أخيرا لمكانها و عرف مصدرها و الذى لم يكن الا حازم.. هتف زكريا ملتاعاً عندما رأى حازم متعلقا بأحدى أعمدة السلم الداخلى للفيلا على ارتفاع لا يقل عن مترين من الأرض..
و كانت تقف على مقربة منه زينة.. و التي كانت تقف مصدومة لا تحرك ساكنا و لا تنطق حرفا.. اندفع زكريا ليقف أسفل المكان المعلق به حازم هاتفاً به يطمئنه: - متخافش يا حازم.. متخافش.. انا اهاا.. سيب يدك..انا هتلجفك.. ليصرخ حازم برعب رافضا ترك كفيه و الدفع بنفسه للأسفل ليتلقفه والده..
هنا ظهرت الخادمة التي كانت تشترى بعض مستلزمات المطبخ لتترك ما بيدها مندفعة لاعلى الدرج محاولة سحب حازم لاعلى لكن حازم لا يعطيها الفرصة لمساعدته خوفا من سقوطه..
حاولت معه كثيرا و زكريا يكاد يجن بالأسفل لا يستطيع ان يبرح مكانه خوفا من سقوط حازم المفاجئ.. و الذى حدث بالفعل عندما قلت قدرة كفيه الصغيرين على الإمساك و التعلق لفترة طويلة بذاك الافريز الضيق فهوى صارخاً ليلتقطه زكريا بذراعه السليمة مترنحا من الثقل و الألم في نفس ذات الوقت.. فسقوط حازم قد مس ذراعه المصابة غصبا عنه..
شهق حازم بين ذراعى والده باكيا.. ضمه زكريا اليه متنهدا و زافرا في عدم تصديق ان ابنه بخير و لم يُصِب بأذى.. و هنا.. وقعت عيناه عليها.. كانت لاتزل على وقفتها المشدوهة و نظراتها المصدومة.. لا يعرف زكريا ما الذى دهاه لحظتها ليندفع اليها و قد وضع حازم ارضا ليمسك بذراعها و يهزها في عنف صارخاً: - انتِ ايه..!؟ الواد كان ممكن يموت جدامكِ و انت ولا اى إحساس.. هو احنا رخاص جووى عنديكم كِده.. يلعن أبو الفلوس اللى تخلى اللى زيك مش هماه حتى أرواح الناس..
و دفع بها و ألتقط كف حازم منصرفا في ثورة و قد عقد عزمه على الخروج من هنا مهما كان.. فلن يأمن على طفله الوحيد مع امرأة مستهترة كتلك الفتاة و التي لم يكن يع انها بدأت تنتفض و تتشنج ما ان لمس ذراعها في خضم ثورته و لم يدرك انها الان بدأت تبكى بشهقات منتفضة تقطع نياط القلب حتى ان الخادمة اندفعت اليها تحاول تهدأتها لكن لا فائدة...