رواية غزالة في صحراء الذئاب للكاتبة رحمة سيد الفصل الخامس
نظر إليها في تعجب شديد، تقلصت عيناه السوداء بحلكة شديدة لمعت بصدمة، وهو مثبت نظراته على تلك المجهولة التي تقدمت واحتضنته فجأة لتدفعه داخل شارع ما، بينما هى لم تعد تشعر بأى خلية من جسدها، خلاياها تخدرت بفعل رائحته الرجولية الجذابة التي احتلتها فجأة، نحنحته كانت كالصفعة التي افاقتها مما هي فيه، هبت مبتعدة عنه وزحفت الحمرة الخجلة لوجنتاها، اصبحت دقاتها تزداد بشكل ملحوظ، دقة تنهرها على فعلتها، ودقة تشكرها على إنقاذها لهذا الشاب، ودقة تكاد تنفجر من الاحراج، قطع الصمت بقوله الجازع:.
انتِ مجنونة يا أنسة ولا اية؟ إلتفتت تبتلع ريقها بإزدراء، أن ظلت تخبره من هنا حتى يومان لن يصدق أنها كانت تنقذه لا أكثر، ظلت ناظرة للأرض تتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعها، ثم هتفت متلعثمة: آآ والله أنا ك كنت بس بآآ قاطعها وهو ينظر لها بحدة، نظرات إن اخترقتها ستذبحها وبمفعول أقوى من كلماتهم المميتة: انتِ هتقعدى تتهتهى كدة كتير؟
شعرت بعيناها تزوغ رغمًا عنها لعيناه السوداء الحادة، ولكن بالرغم من قوتهما إلا انها لمست فيهم الكسرة، و همست بتوتر: أنا كان لازم أعمل كدة، كنت بألحقك سألها ساخرًا: ولا والله، كان لازم تحطى نفسك ف حضنى كدة ثم انك هتنقذينى من اية؟ نظرت خلفه تتفحص شيئًا ما، ثم تنهدت تنهيدة عميقة وطويلة، وقالت بهدوء حذر: في عربية كانت جاية عشان تخبطك دلوقتى.
ما لبث أن مرت ثانية واحدة تمهله فيها إستيعاب ما قالته حتى وجد الدليل القاطع وسيارة سوداء كبيرة تسير بسرعة فائقة، دُهش قليلاً ولكن نظر لها يتصنع اللامبالاة: عادى يعنى عربية عادية! هزت رأسها نافية، ثم نظرت على بداية الشارع وتابعت بجدية: هتشوف دلوقتى هيرجعوا تانى عشان يقتلوك!
حدق بها لا يستوعب ما تقوله، شعر بحرارة جسده تزداد شيئًا فشيئ وكأنها تخبره أن كلامها صحيح، هيا أسرع، أمره العقل هكذا فور تذكره بما كان يجعله يركض فأمسك بيدها دون تردد ليشعر برجفتها ولكن لم يبالي وقال مسرعًا: يلا بسرعة تعالى وبعقل مشتت ومتذبذب سألته بتوجس: هنروح فييين؟ اجابها وهو يركض ساحبًا اياها خلفه تجاه احدى العمارات: هنستخبى طبعًا.
ركضت معه كالبلهاء لا تفقه شيئ، دائمًا ما تكون على حافة الهاوية واليوم تهورها هو من أسقطها ليؤلمها وكأنه يلومها عليه، كيف تتسرع هكذا، تذهب لشاب وتدفعه بقوة وبدون سابق انذار والحجة ضعيفة، إنقاذه، بالرغم ما تحمل من أسمي المشاعر إلا انه استقبلها بدهشة تحولت مع مرور الثوانى ل، شك!
بداخل احدى العمارات الصغيرة، دفعها للداخل ظهرها على الحائط البارد وهو امامها تمامًا، لا يفصلهم سوى سنتيمترات بسيطة، شعرت بأنفاسه تلفح وجهها، وقشعريرة مريرة تسرى فيه، أغمضت عيناها تستعيد رباطة جأشها، القواعد والقواعد التي حددتها بحياتها ولن تسمح لأى شخصًا كان بتخطيها لأن العقاب، سيكون مؤلم! سمعوا أحدى الأصوات الرجولية الغاضبة: ازاى ده أكيد ملحقش يبعد تبعه الاخر بحيرة:.
منا بقول كدة بس مش عارف ازاى اصلاً عرف إن احنا وراه صرخ الاخر بحدة: يلا وانا هأعرف اجيبه بطريقتى بعد ثوانى لم يسمعوا أى اصوات اخرى، اخرج الشاب طرف رأسه يتفحص الشارع ليجدهم قد غادروا بالفعل، عاد لتلك الحورية المغمضة العينين ترتعش تحت يديه، سحب يده بسرعة عن فاهها بأرتباك بدى عليه، ثم غمغم هو بهدوء حذر: معلش عشان مايسمعوش صوتك.
اومأت بخفوت، شعرت أن الكلمات جفت مع حلقها او اختبأت في جوفها المظلم مثلما ارادت هي أن تفعل، فجأة سألها بخشونة: انتِ ايش عرفك بقا؟ أرتبكت من الأجابة، نظرت للأرض تبلل شفتاها الكرزية، تقص عليه كل شيئ وتتلقي المقابل سهم حاد يخترقها؟! قلبها يدق بصخب تعجز عن تهدأته، وكأنه يخشي ما سيحدث بعد قليل! نظر عليها بطرف عينيه يسألها بشك: انتِ مين؟ اجابت ببلاهة: خلود.
تكاد الابتسامة تشق عبوسه ويفسد جديته، ولكنه لن يسمح لها أن تهدم كل شيئ بلحظة، احتدت عيناه السوداء وازدادت سوادًا مخيف، حتى قال بجدية: انجزى، انتِ تبعهم صح تسارعت ضربات قلبها، خشت السقوط في شيئ لتسقط في الاسوء، اتضطربت انفاسها وهي تجيبه نافية: ابدًا استطرد بشك دفين: امال عرفتى ازاى ما كان عليها سوى، الهرب، بالرغم من كونها تكرهه إلا انه وكأنه يجذبها له دون ارادة منها..
دفعته بيدها وركضت مسرعة، ركضت وكأنها قطة تخشي هجوم الأسد، قطة دُست في عرينه فجأة من دون موافقتها، تركته الدم يغلي بعروقه يجز على اسنانه بغيظ شديد، ويتوعد لها في خواطره: هجيبك وهعرف انتِ مين..
ما إن انتهى مالك من حديثه حتى حدقت هي به لثوانى، تفكر وتفكر، يجب انحدار نحو الطريق الصحيح، حتى لا تُصدم من اخره، منذ بداية حديثه وهي تحملق به وكأنه يضع امامها ألغاز وخطوط ويطلب منها فكها، ابتسم على تعجبها وايقن بخباثة انها تفكر في كلامه، تنحنح قائلاً بهدوء حذر: ها يا حاجة قولتِ اية؟ تنهدت مجيبة بحيرة: قولت لا اله إلا الله ردد خلفها بأبتسامة غامضة: محمد رسول الله، اية رأيك ف كلامى.
نظرت له واجابته هادئة: كلامك حلو جدًا يابنى، بس بتعمل كدة لية هتف مسرعًا: منا فهمتك يا حاجة وأتمنى ماترفضيش كلامه مغلف بعامل الاغراء كونها امرأة فقيرة زوجها بالسجن، وحيدة هي وأبنتها الشابة، تنهدت للمرة التي لم تعد وتابعت: هأشوف يابنى وربنا يقدم إلى فيه الخير زينت الابتسامة المنتصرة ثغره وأكمل بحماس: يعنى افهم ان حضرتك موافقة على المبدأ نفسه؟ هزت رأسها موافقة ولكن قالت بتفكير: لكن هأقول لجمال واقولك يابنى.
نهض مغمغمًا بأنتصار: تمام يا حاجة إتجه للخارج وقد شعر بالنصر يجتاحه بشدة، سمع قولها الذي زاده غرور: ربنا يباركلك يابنى ويكفيك شر المرض.
لم يبالي بكلماتها، ولم تهتز له شعره وكأنها شفافة، يتردد شيئ واحد بداخله الان، ويفتعل صدئ لم يعترف به يومًا.. ستصبحين ملكى مهما كان الثمن..!
وصلت زينة المنزل بهيئتها المرزية إلى المنزل لا ترى امامها، تفتح اهدابها السوداء وتغلقها بأرهَاق يوحى بعدم حصولها على النوم والراحة لمدة ليست بقصيرة، كانت تسير ببطئ شديد وكلما تقدمت شعرت بقلبها ينقبض اكثر من قبل، وكأنها تتقدم بأرادتها لجوف مظلم يسحبها للداخل اكثر ليقضي عليها، وقعت عيناها على والدتها التي كانت تهندم نفسها امام المرأة، تقوس فمها بأبتسامة ساخرة وهي تقول: خارجة كالعادة!
اومأت والدتها دون أن تلتفت لها، بينما بدأ الألم يتشرب ملامح زينة، رويدًا رويدًا بدأت عيناها تكون الدموع، فتابعت بتهكم: نفسي مرة ارجع ألاقيكى مستنيانى انا ومالك زى أى ام وزوجة طبيعية التفتت لها تلاقيها بوجه جامد، وأعين باردة وهي تجيبها بصوت قاتم: مش لما ابقي انا زوجة طبيعية اصلاً.
هنا لم تعد تحتمل، يكفيها قهرًا وتحمل، الى متى ستضغط على نفسها وتتصنع اللامبالاة، وهي تحترق بداخلها، تختنق من الصمت وعدم إخراج ما بداخلها لتهدأ قليلاً، صرخت فيها بحدة: ليييية، ليييية مش زوجة طبيعية ناقصك اية هاا عندك كل حاجة! سيطرت على إنفعالاتها بصعوبة، واجابتها بنبرة غُلفت بالبرود بمهارة: ناقصنى الاحترام إلى فقدته سألتها متهكمة: ازاى يعنى، ده الكبير قبل الصغير بيعملك الف حساب يا زوجة سيادة المستشار.
إبتلعت ريقها تبتلع تلك الغصة المريرة التي اخرجتها ابنتها دون قصد، لتتابع بمرارة: للأسف أبوكِ هو الى فقدنى احترامى مش الناس يا زينة عقدت حاجبيها وعادت تسألها بعدم فهم: بابى! ازاى يعنى مش فاهمة؟ مسحت والدتها على خصلات شعرها المصبوغة باللون الأسود و بقوة لتهدأ تدفق المشاعر المتألمة، وإن كان ما حدث فهى لا ترغب بكره ابناءها لأبيهم! استطردت بهدوء مفتعل: مأقدرش اقولك، كل الى اقدر اقوله إن ابوكِ كان هيبعنى!
تضع امامها الألغاز والألغاز، كلما ارادت التخلص من شيئ لتفهم قليلاً شعرت به يزداد، وكأنها تتعمد ذلك لتصل لما تريد! تأففت بضيق بدى على ملامحها: يعنى اية يا مامى؟ كلماتها كان لها تأثير واضح عليها، سيزول ذاك القناع ليظهر مدى الألم الغزير، لا لن يحدث، رسمت الجمود بمهارة وهي تجيبها بلامبالاة مصطنعة: معرفش أنا مش فاضية أقعد أحكى معاكِ، باى هشوف صحابي ف الكلاب.
جلست على الأريكة في الخارج تهدأ من ثورة ضربات قلبها، تضع يدها على قفصها الصدرى وكأنها تحثه على التحكم في هذا القلب، تبًا لذلك الخوف الذي يفرض نفسه عليها مرارًا وتكرارًا، وجهها اصبح لونه أصفر من فرط التوتر، ويديها ترتعش بحثًا عن سبيلها الوحيد، اقتربت منها والدتها تسألها بنبرة متوجسة: مالك يا خلود؟ ابتلعت ريقها بصعوبة واجابتها بهدوء حذر: مليش يا ماما هزت رأسها نافية وتابعت بأصرار: لأ في يلا انطقي.
جلست بجوارها بهدوء واريحية، وكأنها تخبرها أنها لن تستطيع الهرب من تلك الاجابة، تنهدت خلود وقد عاودتها تلك الكلمات المسمومة، لتهتف بكسرة: سيبت الشغل ضربت بيدها على صدرها برفق، وشحبت ملامحها وهربت خوفًا على ابنتها، تيقنت أنه الشبب وراء ذاك التوتر فسألتها بقلق: لية اية إلى حصل؟ كان عاوزنى اروح لدكتور نفسي او اسيب الشغل.
همست بها وهي تعض على شفتيها لتمنع تلك الدموع الساخنة من الهطول بصعوبة، فشهقت عبير مصدومة بجزع: لية يعنى وهو ماله يا بنتى؟ تقوس ثغرها بأبتسامة متهكمة: اصل زمايلي بيشتكوا وبقوا يخافوا منى عضت على شفتها السفلية بغيظ، ومن دون وعى منها خرج صوتها مشفقًا: معلش يا حبيبتي، مسيرهم يعرفوا إنهم كانوا ظالمينك.
اومأت خلود بلامبالاة مصطنعة عكس ما يفتعل بصدرها من حمم بركانية، أمسكت بهاتفها تخرجه من حقيبتها الصغيرة، ثم بحثت عن احدى الاسماء، لتجد والدتها تقول بجدية: هتتصلى بست شمس طبعًا.
اومأت خلود ببساطة، تعلم الان بمدى غيظ والدتها، ولكن لم ولن تبتعد عن صديقة عمرها الوحيدة، وإن كانت ابتعدت فترة قليلة لتريحهم وتبعدهم من فوق اذنها إلا انها اقسمت بداخلها انها هدنة فقط، وإن شمس روحها إن افترقت عنها ستصبح جسد مُهلك فقط! بينما زمجرت فيها والدتها غاضبة: مش قولنا هتبعدى عن البت دى ولا عاوزة سمعتك تبقي زى الزفت؟
إذًا لهجة التحدى لم تجدى نفعًا، فالتسلك طريق تعلم مدى تأثيره القوى على جوارح تلك السيدة.. ارجوكِ يا أمى، أنا محتاجة لشمس جدًا دلوقتى هتفت بها مترجية، بنبرة كستها بالتوسل المصطنع الذي ينعكس مفعوله الفورى، لتتنهد عبير قائلة بنفاذ صبر: أعملى الى يريحك يا خلود ثم نهضت مبتعدة، تاركة اياها تتنفس بأرتياح وهي تتصل بصديقتها المقربة والوحيدة التي لم تخشاها ولم تفر هاربة منها كالوباء..
اتاها صوت الشمس المُرهق بعد ثوانى: الوو الوو اية يا شموسة عاملة اية الحمدلله، انتِ عاملة اية؟ بخير الحمدلله، مالك كدة مفيش عادى هو انا هلغبط ف حالة تؤام روحى مامتك عارفة إنك بتكلمينى يا خلود؟ طبعًا وبعدين ما انتِ بتكلمينى رغم الى الناس بيقولوه عنى لا لا انتِ مافيكيش حاجة، لكن انا آآ.. عايزة أشوفك ممكن بكرة لأن ميعاد زيارة بابا النهاردة اه تمام هشوفك بكرة ان شاء الله.
وابقي سلميلي على عمو، كان نفسي اجى معاكوا والله بس آآ قاطعتها بجدية: ولا يهمك يا حبيبتي، يوصل ماشي يا جميلتى، سلام سلام.
أغلقت وهي تشعر بالراحة تجتاحها، دائمًا ما تلملم شمس جراحها بمهارة وترطبها وتشفيها ولو بكلماتها البسيطة ولكن كلماتها كالسحر تهدأها على الفور، لذلك كانت دائمًا كالدواء في حياتها تتجه له على الفور إن شعرت انها ليست بخير..
الأشتياق، السبيل الوحيد الذي تعرفه في هذه اللحظات، كل جوارحها منشغلة في التفكير بالرجل الوحيد الذي أحبته في حياتها، والشخص الذي حُرمت منه وأقسمت ان حظها أسود من حلكة سوداء لا ينيرها القمر، منذ ذهابه للسجن وهي تستشعر كل شيئ بملل وبلا طعم، كانت تسير بجوار والدتها بعدما ترجلوا من سيارة الأجرة بخطوات شبه راكضة، قلبها من يأمر القدم بالسرعة، غير عابئة بتعب والدتها، وصلوا الى السجن واتجهوا لمكان الزيارة، ليجلسوا عل المقاعد الخشبية الصغيرة، واتجه الشرطى ليجلب صابر بعد قليل اتاهم بملامح تشربها الألم والأرهاق، وجسد اكتفى من الحرمان، تهللت أساريرهم بمجرد رؤيته بالرغم من أن رؤيته حركت بداخلهم مشاعر لطالما حاولوا كبتها مرارًا وتكرارًا..
بمجرد أن جلس بجوارهم حتى هتفت بلوع: بابا اشتاق لهذه الكلمة حد الجنون، حتى هذه حرم منها للأبد، رد عليها بصوت مهزوز: حبيبة بابا عاملة اية قالت باسمة بحزن: الحمدلله، انت عامل اية يا بابا لم يرد على سؤالها الذي اجابته عيناها بحالته المرزية، وسأل زوجته الحبيبة بحنان: عاملة اية يا كريمة، انتم كويسين؟ اومأت بهدوء مرددة: اه الحمدلله على كل حال يا صابر تأففت شمس بضيق قائلة: هما خلوا الزيارة كل أسبوع بس لية يا بابا؟
رفع اكتافه مجيبًا بقلة حيلة: والله ماعرف يا بنتى، ومحدش بيقدر يتكلم معاهم ف حاجة هزت رأسها بضيق، ثم قالت بحرقة: حسبي الله ونعم الوكيل فيهم وضَع يده على فاهها مسرعًا ونهرها بجدية: بس يا شمس بس يا حبيبتي الله يرضي عنك، هنا كل واحد بياخد جزاؤه سارعت نافية: بس انت مظلوم يا بابا اسكتى يا شمس اسكتى.
قالها وهو ينظر للجهة المعاكسة، لا يريد فتح تلك الجروح مجددًا، حينها لن يصمت وسيبوح بكل شيئ وكأن هذه الكلمات مخدر له..! هنا تنحنحت كريمة بهدوء حذر: كنت عايزة أقولك حاجة كدة يا حج اومأ بهدوء ثم سألها باستفسار: قولى يا كريمة في اية؟ إبتلعت ريقها بإزدراء قبل ان تستطرد بنبرة هادئة بعض الشيئ: انا بفكر نبيع البيت فزع واتسعت حدقتيه وصرخ فيها بصوت عالى من دون وعى: لأ لأ لأ لأ اووووعى تعملى كدة!
رواية غزالة في صحراء الذئاب للكاتبة رحمة سيد الفصل السادس
تشربت ملامحه التوتر الشديد، بحث عن اجابة مقنعة ولكن لم يجد ابدًا، اضطر لأضافة كذبة جديدة إلى قاموسه الغامض الذي بدى انه لا نهائي، وقال بهدوء مصطنع: البيت ده فيه ذكريات كتير حلوة لينا ولأول مرة تستقبل حبه وشوقه على وتيرة السخرية، تتهكم على مشاعره الجياشة وإن كانت كاذبة حيث قالت بصوت قاتم: يعنى وهي الذكريات عملت لنا اية ياخويا؟ اجابها بصوت حاول إخراجه ثابتًا: جابتلنا الهدوء وراحة البال.
يبدو أنه يتحدث عن نفسه فقط، فأى هدوء وراحة بال وهي لم تذق يومًا هانئًا، لم يمر يوم إلا وتعكر صفوها بالمهانة والذل كونها زوجة حارس البناية! اجابته مبتسمة بتهكم: الذكريات مش هتمحى نظرة الناس لينا، مش هتمنعهم يقولوا لينا يا مرات البواب و يا بنت البواب، مش هتخرسهم! صاح فيها باهتياج: لأ بس هتحفظ لنا سكينتنا، ممكن نبقي معانا فلوس الدنيا وأتعس ناس.
لم يرها يومًا بذاك البؤس، لم يسبق له أن لمح تلك النظرة في عينيها، وكأن ذاك الزمن القاسى نجح في تغيرها تمامًا وتغيير نظرتها كاملة عن الحياة! سألها بهدوء حاول خلقه من بقايا الانفعال: يعنى انتِ عايزة أية بالظبط يا كريمة؟ تبدلت الأدوار وحان دورها لتكذب هي تلك المرة، زاغت بعينيها مجيبة: ما أنا قولت لك، نبيع البيت وبكام قرش نزودهم نجيب بيت أحسن في مكان تانى.
تلقت الصمت اجابة على كلماتها الغير مقنعة بالمرة، فدفعها ذاك الصمت لتكمل اكثر ظنًا منها انه يُفكر: يعنى انت عارف إنى بأشتغل في المستشفى عاملة يعنى، ف حتى ممكن أدخل جمعية وأكمل على فلوس البيع لا يبدو انه اقتنع، اى هراء هذا، الذكريات مجرد غطاء يغطى اسفله السبب الرئيسى والهام لذاك الرفض، ولكن لن يكشفه، والسبب مُهين لكونه رجل، الخوف! هز رأسه نافيًا بشدة قبل ان يحيد عنها بنظرة حادة متابعًا:.
اوعى أعرف إنك عملتى كدة، ماتدخليش نفسك ف دوامة أنتِ مش قدها مطت شفتيها بضيق واضح، ما السبب لتلك الحدة، هي فقط ارادت العيش كأى امرأة في منزل متوسط يحتويها وابنتها، ولكن دائمًا ما يعاندها القدر لجعلها متيقنة وراضية بما قسمه الله لها.. بينما راح يسألها هو مرة اخرى مستفسرًا: لكن أنتِ هتبيعيه لمين اصلاً؟ غمغمت بلوع: عباد الله كتير، واكيد في ناس هتشترى جز على اسنانه بغيظ، ورغمًا عنه خرج صوته متهكمًا:.
ومين هيرضي يشترى بيت زى ده، من حلاوته يعنى ولا أية؟! مطت شفتيها بعدم رضا، ربما ينقسم لنصفين ظاهريًا، منذ ثوانٍ يمدحه والان يبدو أنه يمقته؟! أيريد جنون جنبات عقلى لأفقده ويفعل ما يريد! قالت لنفسها هكذا قبل ان تتمتم بغيظ: يوه، أنت مش عاجبك العجب ولا الصيام ف رجب!
تنهد بقوة، يأس من تلك المناقشة التي بدى انه هُزم فيها فشل زريع، لم يستطتع ري زهور حبهم وايقاظها مرة اخرى لتحيى ذاك المنزل بداخلها، وإن كان الهدف مختلف.. بأعين مهمومة ومكتفية سألها: يعنى أنتِ مصممة على الى ف دماغك؟ اومأت مسرعة بأبتسامة متأملة، ليشقها بقوله البارد: وأنا قولت لأ.
كانت شمس تتابعهم بأعين مُلهكة، هادئة، ضائعة، لا يهمها منزل أو غيره، لا يهمها مظاهر واقنعة، ما يهمها حقًا هو ما بداخل تلك الأقنعة، والديها.. فجأة سألته بقلق وهي تشير على وجهه: بابا اية ده مين إلى عمل فيك كدة؟ ظهر الارتباك عليه، ظل يزوغ بعيناه وجاهد أن يبدو ثابتًا وهو يجيبها: ده آآ ده أنا آآ أنا وقعت لما كنت ف الحمام بس يلا الزيارة أنتهت.
هتف بها العسكرى بصوته الأجش، منهيًا نقاش كان على وشك أن يودى بحياة عائلة كاملة الى الجحيم على قدم وساق مهلكة..
يجلس على فراشه الناعم الكبير، في غرفة متوسطة المعيشة، ذات اثاث حديث، الخشب باللون البني اللامع، الفراش بجوار أريكة صغيرة وامامها الدولاب البني، والذي طلاهم هو مؤخرًا باللون الأسود ليدمر مظهرهم الجذاب، لتتلائم مع حالته المرزية، غرفة كاملة ساكنة كانت ذات يوم مصدر ومنبع للسعادة والذكريات الحنونة، ولكن الان، اصبحت مصدر للآلآم والقهر فقط!
يتوسط غرفته جالسًا على الفراش بجسد مُهلك من كثرة الركض، وأعين لطالما ترجته أن يرحمها ويغلق عليها جفون الراحة ولو قليلاً، ولكن مهلاً، لن ولم يرحمها إلا بعد أن يتمم، انتقامه! مدد جسده قليلاً، ينظر للأعلي بشرود، مقتطفات خائنة ركضت في جنبات عقله لتلك المدعوة ب خلود.. صحيح أسمًا على مسمى، يبدو أنها خالدة في هذا العقل الذي لن يهدأ، ولكن رويدًا رويدًا، أين رأيتها من قبل؟!
سأل نفسه هكذا وهو يحك ذقنه بطرف اصبعه الابيض، لم يصل لاجابة مهدئة، واخيرًا اُغلقت اهدابه السوداء، لتعلن هدنة صغيرة لذاك المقاتل الشرس من اجل انتقامه الشنيع..
في مكان مُظلم، هادئ، فتاة في اواخر العشرينات من عمرها، وجهها أبيض ملائكي يشع نورًا غريبًا، وجسد يدل على انوثة صاحبته الصارخة التي لم تظهر لأى شخص، وحجاب صغير كان يومًا ما مُهندم قبل أن يُمزق ليظهر شعرها البني الغزير، تشجنت قسمات وجهها وحاولت تحريك شفاهها ولسانها لتصرخ..
ولكن، أين تلك الصرخة التي خشيت الظهور أمام تلك الوحوش التي تقترب منها رويدًا رويدًا بيدًا ممسكة ب ( سيخًا ) من النار، يزداد الذعر ويفترش قسماتها قبل عينيها الزيتونية الخضراء وهو يقترب منها بأبتسامة شيطانية، همس بصوت أشبه لفحيح الأفعى: اية يا حلوة، خايفة؟
أشار برأسه لليسَار حيث كان مراد يقف مكبلاً بسلاسل حديدة، أطبقت على صدره وكتمت أنفاسه بمفعول أقوى من الكمامات التي يضعوها على فمه، عيناه حمراء منذرة بأندلاع ثورة غاضبة.. ثم قال الرجل بجمود: خليه يقولنا فين الفلاشة وأحنا نسيبكوا انتم الاتنين هزت رأسها نافية بسرعة كحركة معبرة عن عدم معرفتها بذاك الأمر، ولكن، هل تعرف أن إبليس يرحم يومًا؟!
بالطبع لا، هو مثله تمامًا، بلا قلب، ينفذ رغبة من أجل مصلحة تقودهم كالمنوم المغناطيسي نحو الشر!
أحتقن وجهه بغضب هادر، وفي ثوانى كانت النار على منتصف جسدها تكويه بلا رحمة أو شفقة، تحدث علامة اخرى مؤكدة ومُدلة على ذاك العذاب الذي وُشم على أقدارهم، صرخة مكتومة بقهر لم تخرج ابدًا، لم تسعفها حبالها الصوتية، وجرح غائر فُتح من جديد ليكوى قلبًا ادمى بعشق ابدى، قبل الآمه لهذا الجسد المنتهك، نظراتها وكأنها تصرخ فيه بعنف: ارجووووك أنقذني أرجووووك! ...
هب منتصبًا على فراشه والعرق يتصبب منه بغزارة، خلاياه المتألمة لم تنسي يومًا ذاك اليوم الذي أُصيبت فيه بأبشع الاصابات، كانت وجهه متجهمًا شاحب، نظراته زائغة وعيناه لامعة بدموع قهرية، دموع لو سقطت لأحرقت كل شخص لوث ذاك العشق، وجعل الايام التي من المفترض احلى ايامه، عبارة عن كابوس من الماضي يلاحقه يوميًا، حتى أقسم أنه لن ينام إلا عندما يذيقهم من نفس الكأس...!
يمدد جسده للخلف على الأريكة الموضوعة في الركن في الصالة في منزله ومأواه الوحيد، كل ثانية تمر يزفر فيها أكثر واقوى من ذى قبل، وكأنه يخرج همومه في هذا الهواء، وضع يده خلف رأسه ناظرًا للأعلى بشرود، شيئ ما جذبه لتلك صاحبة العيون الرمادية، شيئ كره أن يستسلم له يومًا وإن كان مجرد اعجاب، تجاعيد وجهه وعيناه الحادة كلما شعرت بطيف لمعة فيهم ألموه على الفور كنوع من التذكير فيما مضي، كالأنذار ينذر فور اقترابه..!
جلس امامه صديقه الوحيد والشخص الوحيد الذي سمح له أن يطلع على جوف حياته المظلم، تنحنح مروان بهدوء قائلاً: أية يا مالك، فيك أية؟ مطت شفتيه مجيبًا بلامبالاة مصطنعة: مفيش عادى سأله مرة اخرى بأصرار لمع في عينيه: لأ مالك بجد، أية البت خشيت ف دماغك ولا أية يا برنس؟ هز رأسه نافيًا، ثم استطرد بهمس اشبه لفحيح الأفعى: هي خيشت، جامدة بنت الاية، بس اكيد زيها زى غيرها مسيرها ليلة رمقه بنظرات ذات مغزى وتابع محذرًا:.
بس خلى بالك يا مالك دى مش من البنات اياهم اومأ مالك بهدوء، ثم أردف بخفوت: أيوة عارف، و ده الى مخلينى مُتمسك وعايزها نهض مروان مقتربًا منه، ثم ربت على كتفه برفق، وكأنه يزيح ذاك الوباء الذي يفكر فيه في تلك الثوانى، ثم قال بجدية: أنسي يا صاحبى، أنا عارف إنك لسة مانستش تقوس فمه بابتسامة ساخرة واجاب: مش فارقة يعنى نسيت ولا لا، منا عايش أهو عادى! هز رأسه نافيًا، وتجمدت ملامحه وهو يستطرد بخشونة:.
لازم تنسى، وبعدين أنت لسة نضيف من جوة، أنت لسة مالك بتاع زمان أنا متأكد صرخ فيه مالك بحدة تجلت في نبرته المتحشرجة: لأ مش بتاع زمان، بتاع زمان مات، أنا دلوقتِ مالك تانى، بتاع شرب وبنات وسهر ضحك بخفة ساخرًا: لأ لأ ماتضحكش على نفسك، أنت ناسى إنك لحد الوقتى ملمستش ولا بنت، أخرك سجاير وحشيش ممكن بس يا برنس!
جز مالك على أسنانه بغيظ، بالفعل هو لم يتخطي ذاك الحاجز يومًا، لم يستطع كسره بقوة بالرغم من الهالات المجمعة حوله محاولةً لكسره..! تابع مروان بصوت أجش: مش حتت بت هتعمل فيك كدة يعنى تأفف متابعًا بألم حاول اخفاؤوه: مش البت الى كسرتنى، الى كسرنى الحاج جمال الى مفروض إنه أبويا، يعمل فيا كدة! سارع مروان مبررًا: بس يا مالك ه، آآ.
قاطعه مالك بنظرة معلنة عن نهاية تلك المبررات التي لن ولم تجعل جليده يلين ولو لبرهه، ثم ضغط على كل حرف قائلاً: ايًا كانت المبررات، مفيش أب يعمل ف ابنه كدة صمت برهه يستجمع قواه التي كادت تخور ثم هتف: مفيش أب يخلى مرات أبنه تخون أبنه مهما كانت الأسباب يا صاحبى!
تستجمع شتات نفسها المبعثرة، وأمام مرآتها التي تعكس صورتها الهادئة جلست على الكرسى الخشبي الصغير، تنظر لنفسها غرة وليدها التي شوهت مسبقًا غرة اخرى، وكأنها تتأكد أن تلك المجروحة ما هي إلا سواها، تلقلقت الدموع المتحجرة في عينيها البنية وهي تتذكر كل ما مرت، ألم فوق ألم تعجز عن إيقافه حتى شعرت أنه خُلق لها فقط، ثانية اثنان ثلاثة، بدأ قلبها يدق بصخب وقوة شعرت أنه سيقف بسببها حتمًا، وهاجمتها سيل الذكريات التي تعيد زراعة ذاك الألم مرارًا وتكرارًا بداخلها..
فلاش باك كانت تنام على فراشها مغلقة الجفنين لتغطى عينيها المرهقة، بملابسها التي تخرج بها، وفجأة في حلمًا ما من تلك الأحلام التي لا تعلم هي خير أم شر حقًا؟.
طفلة ذات اربعة سنوات، ذات ملابس أنيقة مهندمة، مكونة من جيب قصيرة وبلوزة نصف كم، شعرها أسود وملامحها معتادة كأى طفلة بعمرها بريئة، كانت تركض على احدى الحشائش الخضراء لتبدو فراشة محلقة اعلى الزهور، واذ فجأةً تأتى فتاة ملثمة جسدها متوسط، بيدها قطعة قماش بيضاء، يبدو أنها مخدر، اقتربت من الطفلة رويدًا رويدًا من الخلف ثم فجأة انقضت عليها وسط بكاء الطفلة وخدرتها، لتتجه لأحدى السيارات السوداء التي كانت تنتظرها في جزء بعيد مُنقطع، وهي تتلفت بين حين والاخر، وبملامح باردة وقلب تعلم القسوة بامتياز، مدت يدها لرجل ما يجلس بهدوء، امامه بعض الاجهزة الطبية، وكأنها سيارة للاسعاف، ثم خرج صوتها متحشرجًا:.
انجز خلص شغلك بسرعة عشان اهلها اومأ موافقًا وهو يمد يده ليحمل الطفلة ويمدد جسدها على فراش صغير جدًا بالسيارة، وبدأ يعد كل شيئ ليسرق اعضاءها! تحت انظار تلك التي سُميت يومًا بالخطأ انثى رهيفة المشاعر، ولكن اى مشاعر هذه!، مشاعرها كالصخر بين جنبات قلبها الذي ينبض بهدوء دون احتجاج على ما يحدث وكأنه اعتاده مؤخرًا.. صرخت فيه مرة اخرى بحدة: ما تنجز انت هتاخد اليوم!؟
اومأ مؤكدًا وهو منشغل مع الطفلة، ليقول بضيق حقيقي: ما تهدى يا بنتى، دى سرقة اعضااء مش سلق بيض تأففت وهي تتفحص الاجواء، وبعد فترة لاحظت الهلع على قسمات وجهه لتسأله بتوجس: في اية إلى حصل؟ اجابها بصوت مرتعد: دى آآ دى م ماتت!
هنا استيقظت هي من ذاك الحلم، بملامح تشربها الخوف والقلق والشفقة، وأعين كادت تبكى من قسوة ما رأت، لم تعطى لعقلها فرصة للتفكير ونهضت راكضة لذاك المكان الذي رأته في حلمها، ومن حظها أن والدتها لم تكن بالمنزل ذاك اليوم لتمنعها، استقلت سيارة اجرة تترجاه أن يُسرع، وتمنع وتغلق باب جوف عينيها المتألمة بصعوبة شديدة، وصلت المكان ووجدت ما رأته يتحقق بالفعل، ركضت باتجاه الطفلة التي كادت تحملها الفتاة، وزمجرت في الفتاة بغضب وثبات مصطنع:.
انتِ مين يا مجرمة انتِ، عايزة اية من بنتى؟ لم ترد الفتاة وانما ركضت مسرعة بقلق، في هذه اللحظات تقدمت سيدة ما في منتصف عمرها، ترتدى حجابها الذي يدير ملامحها المتوجسة، اقتربت من خلود ثم صرخت فيها بهلع عندما رأت ابنتها هكذا: حرااامية مجرمة، عايزة تخطفى بنتى هزت خلود رأسها بسرعة مبررة: لأ آآ لأ أنا آآ..
قاطعتها السيدة فجأة وهي تخرج سكين صغير وتشوه يد خلود التي تحمل الفتاة، في حين أطلقت خلود صرخة مدوية من شدة الألم.. باك مدت يدها بأصابع مرتعشة تتحس ذاك الجرح الذي لم يزول، ودموعها تغرق وجنتاها، ذاك الجرح الذي كان مكافأة على إنقاذها لطفلتها!
علامة مشوهه تجعلها تتذكرهم دائمًا، أقسمت أنها اعتادت أن تستقبل المقابل القادم بأعين مغمضة وكرامة استعدت للمحو حتمًا، ضحكت بسخرية عندما تذكرت صدمتها العميقة عندما علمت من هو والد تلك الطفلة، صدمتها التي لم يستطع اى شخص انتشالها منها لأكثر من خمسة شهور! ... قطع حبل أفكارها المتين والذي يتعمد تذكرتها دائمًا حتى لا تقع في نفس الحفرة مرة اخرى ببلاهة، صوت هاتفها معلنًا إتصال من صديقتها الوحيدة شمس.
اجابت بصوت اجتمع فيه الألم والكسرة: ايوة يا شمس اية يا بنتى أنتِ فين كدة؟ في البيت طيب يلا قومى ألبسي، ونتقابل في الحديقة العامة الى عند البيت طيب مالك يا حبيبتي مفيش عادى أما أشوفك هعرف مالك بأذن الله ماشي، سلام سلام.
أغلقت تتنهد بحزن تعمق وتمكّن منها، توغَل منها بقوة رغبةً في تعليمها درسًا لن ولم تنساه يومًا، لتشعر بتلك الشفقة التي تكرهها تجتاحها تضامنًا معها هي!
بعد فترة أنتهت شمس من ارتداء ملابسها بالكامل، ولم تضع اىً من مساحيق التجميل، خرجت من غرفتها الصغيرة لتجد والدتها تجلس على الأريكة تضع يدها أسفل خدها وتشاهد احدى الأفلام على تلفازهم الصغير، نظرت لها بهدوء ثم تنحنحت قائلة: ماما همهمت والدتها بتساؤل دون أن تحيد بنظرها عن التلفاز: اممم، خير يا شمس؟ اجابتها بجدية: أنا رايحة أقابل خلود صاحبتى نظرت لها هنا بتوجس وقالت: أنتِ متأكدة؟
اومأت شمس بهدوء، لتتابع والدتها بامتعاض: طيب، أعملى الى يريحك.
اتجهت شمس للخارج بخطى ثابتة وهادئة، وخرجت من المنزل، وقفت في بهو البناية لثوانى تلقي أخر نظرة على نفسها بالمرآة، وفجأة وجدته يسحبها من يدها ليدخلها امام باب منزل مغلق وفي اخر المدخل، شهقت هي بصدمة، فوضع يده على شفتاها المنتكزتين ليمنع صوتها من الظهور، شحبت ملامحها وتشربها الرعب باستمتاع، بينما كان هو يراقب كل خلية في جسدها بأعين متلهفة، ابعد يده عن شفتاها يحيط خصرها بيده بحركة تملكية جعلت القشعريرة تسير بجسدها حتى عامودها الفقرى، لتهمس هي بصوت اشبه للبكاء:.
انت عايز منى اية؟ كان مثبتًا نظراته على شفتاها، تنتقل عينيه السوداء بين بحر عينيها الرمادية وشاطئه الذي يجعله يكاد يفقده عقله، شفتاها الكرزية، ثم اقترب منها اكثر حتى إلتصق بها واجابها بنشوة: عايزك انتِ حاولت تحرير خصرها الذي احتلته يده القوية وهي تقول برجاء: سيبنى في خالى بقا يا استاذ مالك هز رأسه نافيًا، ليرسو بسفينة شهوته على شاطئ لطالما كرهته وابتعدت عنه:.
لأ مش هابعد، انتِ عايزة ده يحصل تحت مسمى الجواز؟ أوك موافق جهر قلبها باعتراض شديد على هذا الحاكم الذي يترجم خوفها وإرتعاده جسدها بحروف معاكسة، لتستطرد هي باعتراض: لأ لأ انا مش عاوزة اى حاجة، عايزاك تبعد عنى بس.
لم يصغى لها، لم يكن معها بالأساس، كانت حواسه جميعها منشغلة بذاك الشيئ الجديد والذي لم يقابل منه حتى الان سواها برغبة جامحه في تعمقه اكثر، ظل يقترب وهي تحاول إبعاده حتى اصبح امام شفتاها تمامًا ليهمس برغبة: انتِ حاجة حلوة أوووى كلماته لا تجعلها تشعر بالفخر ابدًا كونها انثى، لا تشبع غزيرتها الانثوية وكبرياءها، بل تجعلها ترغب بشدة في تمزيق جسدها لأشلاء حتى لا تقهر اذنيها بسماع كلمات الغزل المسموم تلك..
قطع حبل افكارها بقبلة عميقة وتملكية، قبلة تعدد زمنها وابتعد بها عن ذاك العالم، ليبدأ في تعلميها بالأبجدى حرفًا حرفًا من تلك التي تُدعى رومانسية، قلبها جعلت شفتاها تدمى دمًا امتعه بين شفتاه الراغبة، وفشلت محاولاتها في إبعاده، وفجأة سمعوا صوت تعرفه هي جيدًا جعل المعجزة تحدث ويبتعد مالك عنها: الله الله، اية ده ان شاء الله يا ست شمس.
كانت في موقف لا تحسد عليه، من جوف عميق أسود راغب لجوف اسوء واسوء تملكى متوحش، غمغمت بأعين مذعورة: يحيى آآ انا والله آآ.. قاطعها مالك بسؤاله ليحيى بأنفاس لاهثة: أنت مين أنت اصلاً، ملكش فيه زمجر فيه يحيى غاضبًا: لأ ليا يا حيلتها، دى مراتى إتسعت حدقتا عيناها وهي تسمع لكلماته بتوجس، وقيدت الصدمة لسانها مرة اخرى، بينما قال مالك متساءلاً بجدية وسخرية واضحة: لا والله، مراتك منين ان شاء الله، دى مش متجوزة.
هز يحيى رأسه نافيًا، وقرر أستغلال تلك الفرصة التي لن تأتى له مرة اخرى، واخرج من جيبه ورقة ما قائلاً بخبث وهو يمد يده بها لمالك المدهوش: لأ مراتى من ورقة الجواز العرفى دى!
رواية غزالة في صحراء الذئاب للكاتبة رحمة سيد الفصل السابع
لحظات مرت من الزمن مشفقة على تلك الفتاة التي دُست بالخطأ بين ذئاب ارادتها لرغبتها فقط، كانت تحدق ب يحيى كالبلهاء، افكار كالأمواج متلاطمة بعقلها تحثها على الاقتراب وصفع ذاك الكاذب، ولكن لم تتحرك، تشبثب قدماها بالأرض خوفًا من القادم الذي باتت تكرهه، ومالك، كالصنم يقف وهو يطلع على تلك الورقة التي حطمت أسارير رغبته في ثوانٍ معدودة، فكرة خلف الاخرى في عقلها يديرها يمينًا ويسارًا لتصبح ملكه إلا أن ذاك وبورقة بيضاء تافهه حطمهم بقوة واستمتاع، قطع الصمت صوت يحيى الذي كان يراقبهم بتركيز ليستشف رد فعلهم على ما قاله:.
اية شايفكم اخرسيتوا يعنى! عقد مالك ما بين حاجبيه وقال بضيق: دى مجرد ورقة تافهه! جز يحيى على أسنانه بغيظ، يرمم ثقته الزائفة ثم تابع بثبات مصطنع: لأ دى مراتى، وعيب على رجولتك الى انت بتعمله ده لم يتحمل مالك، الدماء تغلى بعروقه بفعل كلماته الأولى، فأتى ومن دون وعى زاد اشتعالها لتنفجر بوجهه، اقترب منه مالك يخنقه بيده وهو يصيح فيه بحدة:.
اخرس يا حيوان وأتكلم مع اسيادك بأحترام، انا مكنتش اعرف، ولو كنت أعرف مكنتش بصيت لواحدة زيها اصلاً جرح أخر يضاف لجروحها الخالدة، ولكن هذه المرة بنكهة مختلفة، جرح لم تكن لها يد به، صدمة خلف الاخرى تجعل جسدها يتبلد اكثر، ولكن ازدياد كلماتهم المهينة كالأنذار لتفيق وتزمجر فيهم غاضبة: بس اخرسووووا، ارحمونى بقا ثم نظرت ليحيى بأعين حمراء كحمرة جمرة مشتعلة وتزداد اشتعالاً:.
وانت بقا مش ناوى تسيبنى في حالى، يا أخى أنا تعبت والله اعتقنى لوجه الله، جواز عُرفى اية الى بتتكلم عنه، انا لا عمرى اتجوزت عرفى ولا رسمى حتى بالرغم من أن كلماتها المتألمة حركت شيئً ما بداخله إلا أنه تغاضى عنه وهو يهتف ببرود: ماتتكسفيش يا حبيبتى، محدش له عندنا حاجة! صرخت فيه باهتياج: حبك بُرص، بطل كذب بقا وارحمنى ابوس ايدك.
بينما يقف هو يتابعهم بهدوء تام، وبملامح باردة خالية من اى مشاعر، كالصدق، لا يهتم لأمرها، فقط كان يرغبها وبشدة، ولكن ما اثار حنقه وجعله اراد خنقها، هو إنكارها وركضها خلف غطاء الاحترام والعفة..! استطرد يحيى بملامح حاول ألا تبدو واجمة: تؤ تؤ، مش واحد الى هيخلينا نعمل في بعض كدة يا زوجتى العزيزة بقا وضعت يدها على اذنيها تمنع ذاك الوباء من الوصول لأذنيها، ثم تابعت ببكاء: انا مش زوجة حد اسكت بقا.
ملامحها وبكاءها وألمها أشياء تقوده بحبال متينة نحو حافة التصديق! لا لا بالفعل هذه ممثلة بارعة، إن ظللت ثانية واحدة سأصدقها بالفعل.. ألقي مالك بالورقة في وجه يحيى وسار متجهًا للأعلى وهو يقول بنزق: ابقوا حلوا مشاكلكم الشخصية، ولا اقصد الزوجية بعيد عنى ثم إلتفت للمرة الاخيرة يلقي نظرة على الشمس التي لم تتوقف عن البكاء قائلاً: يا مدام شمس!
تبًا، تبًا لن أتحمل كلمة اخرى، لن أتحمل ضغطًا من القدر أكثر، حرف واحد الفاصل بينى وبين هذه الحياة... كانت أخر كلمات تتردد بأذنها قبل أن تفقد وعيها وتقع مغشيةً عليها غير عابئة بالرخام اسفلها الذي استقبلها بصدر رحب اهون من تلك الذئاب...
ترجلت من سيارة الأجرة بخطى هادئة بعدما وصلت للحديق العامة التي تقرب منزل شمس، اخرجت النقود من حقيبتها الصغيرة وأعطت للسائق الذي أنطلق على الفور، تنهدت تنهيدة طويلة متحمسة، ستلقي من ستبوح لها بكل ما يجيش في صدرها لتحمل نصفه معها، ولكن ما إن كانت هي تحمل اساسًا فوق طاقتها؟! كان الشارع هادئ وخالى تمامًا، نعم فهذه هي منطقة المعادى التي تخشي خلود زيارتها بكثرة..
فجأة وجدت يدًا قوية تحيط بذراعيها، ثم خدرتها بقطعة قماش بيضاء قبل أن تستطيع إطلاق الصرخة المفزوعة، ثم حملها على كتفه واتجه لاحدى السيارات التي كانت تنتظره، متجهين لمنزل ما.. بعد ساعة تقريبًا بدأت تتململ في حركتها، تشعر بقيد لطالما كرهت ذكره يقيد يدها وقدمها وقطعة قماشة تسيطر على فاهها لتمنع الصرخات من إنقاذها!
وبالطبع الدموع هذه المرة لم تنتظر لتأخذ الأذن للهطول بغزارة ردًا عن كل ما يحيط بها من خوف بدأ في الزراعة بداخلها الان.. أقترب منها احد الشباب، مفتول العضلات يرتدى ملابس سوداء، وجهه مغطى بقناع أسود، نظر لها من اعلاها الى امحص قدميها قبل أن يقول بجمود: ماتتعبيش نفسك لأنك مش هتعرفى تتحركِ أو تتكلمى! هزت رأسها نافية بسرعة، اقترب منها قليلاً يسألها ببرود: طبعًا عايزة تعرفى مين إلى جابك هنا.
اومأت بلهفة فتابع بصوت قاسٍ: مراد باشا عقدت حاجبيها يشكلا شكلاً جامدًا تعبر عن عدم فهمها، فاستطرد هو بخشونة: الراجل الى انتم خطفتوه هو ومراته وعذبتوا مراته ابشع العذاب صرخت فيه نظراتها بهلع، اى عذاب تتحدث عنه أنت! انا من تعذبت، انا من رقصت على اوتار العذاب شتاه وبألم مكتوم، لا استطيع ايذاء شخصًا اخر هكذا، حتى اننى لا استطيع إنقسامه مع غيرى!
نطقت بهذه الحروف في خواطرها التي خرجت مقهورة من اعماقها وهي تحدق به ببكاء فتأفف هو بضيق: بلاش قرف وتمثيل، اهدى وخليكِ شاطرة بقا.
ظلت تبكى بقهر وبصمت، حتى مرت دقائق معدودة، ووجدت نفس الشاب الذي أنقذته يتقدم منها ببرود واضعًا يداه في جيب بنطاله، يطالعها بنظرات شامتة، تثبتت حدقتيها عليه بصدمة لا اراديًا، فور لقاءهم انطلق كالسهم من القوس ليعرف كل نقطة عنها، وبالفعل جلبها ليضع النقاط على الحروف كما يقولون.. أقترب منها شيئً فشيئ، فرأى الذعر في عيناها، يا رباه! نفس النظرات التي حدقته بها معشوقته وهي تتعذب!
ابعد القماش عن فاهها لتقول بتساؤل باكٍ: انت عايز منى اية حرام عليك رفع حاجبه الأيسر بتهكم وهتف: حرام عليا أنا بردو وفجأة تشنجت ملامحه واشتدت نظرات كأعين الصقر متابعًا: قولت لك هجيبك وكنت متأكد انك معاهم، وأهو جيبتك هزت رأسها نافية بسرعة: والله أنا ماعرفهمش خالص تنهد بقوة وهو يجلب احدى الكراسي الخشبية الصغيرة ويجلس عليها امامها تمامًا وهو يستطرد ببرود:.
شكل القاعدة مطولة، وأنا مش ورايا حاجة خالص، يعنى معاكِ للصبح! هدأت تمامًا واسنكانت قسماتها وهي تجيبه بنظرات غريبة: يعنى أنت مصمم تعرف كل حاجة اومأ هو بتأكيد وهو ينظر لها بتمعن و...
فتاة في منتصف عمرها، ذات جسد ممشوق، جلست على احدى المقاعد الجلدية السوداء بأحدى الملاهى الليلية، تستند بقامتها عليها، ملامحها الهادئة وواجمة بعض الشيئ، أمسكت بالسيجار بين اصابعها البيضاء، ثم وضعته بين شفتاها الورديتين تأخذ نفسًا عميقًا لتهدأ نفسها قليلاً، تعطى لنفسها هدنة من التفكير، وعطلة حاولت أن تكون طويلة لعقلها الذي يخطط دائمًا وابدًا، اقترب منها احد الشباب، جسده ضعيف متهالك من كثرة المخدرات، ملامح طبيعية بعض الشيئ، تنهدت وهي تعتدل في جلستها لتقابل جلسته، تقابلت نظراتهم سويًا، عيناها السوداء تحمل عبئًا خافتًا لطالما حاولت مداراته، ودفنته في منتقع عميق ولكنه دائمًا يتسلل للظهور مرة اخرى..
هتفت هي بجزع مشيرة لهيئته: يابنى أنت مش هتبطل ادمان، مش شايف منظرك بقا ازاى رفع كتفيه وقال بلامبالاة: عادى يعنى، وبعدين هو أنا عارف أبطل اومأت هي مؤكدة، ثم اقتربت منه قائلة بتصميم: أه تقدر لكن أنت الى مش عاوز تأفف وهو يقول بنزق: سيبك منى وخلينا فيكِ انتِ عقدت ما بين حاجبيها بضيق، تعلم عن ظهر قلب السبيل الذي يرغب سلوكه، هو صديقها ورفيقها الوحيد منذ أن اصبحت في هذا العالم، ولكن، لا مجال للتراجع!
تنهدت متابعة بملل: هتقول أية يا رواد؟ اجابها رواد مسرعًا: هقول أنتِ امتى هتبطلى الشغل ده نظرت له بتهكم وقالت: لما أموت إن شاء الله، يابنى دى عصاابة مش لعب أطرق رأسه ارضًا بخزى، ومن ثم أردف بأسف: منا عشان كدة عايزك تبعدى يا نوارة صمت برهه، يتنفس بانتظام ويهيئ نفسه للمجازفة القادمة، تلقي صمتها اجابة جعلته يشعر بطفيف أمل يتقافز امامه، فتابع متحمسًا:.
أنتِ نوارة حياتى، وأختى الصغيرة الى أمى ماجابتهاش، ربنا رماكِ في طريقى عشان أحافظ عليكِ ثم قال متساءلاً بجدية: وبعدين مش هو ده الشغل الى اجبروكِ عليه، ومكنتش عايزاه؟ اومأت وهي تقول ببرود: بس ده كان زمان، قبل ما الدعارة والخطف والتخطيط يبقوا منى وابقي منهم يا اخويا!
زفر بضيق عارم، وأعلنت خلاياه الأستسلام، يتوق لجعلها تكف عن هذا العمل الذي يدمر حياتها رويدًا رويدًا، ولكن يشعر أنها تزداد طاقة سلبية وليست ايجابية ابدًا..! وبحيرة لمعت في مقلتيها قالت: بس في حاجة مخليانى مش عارفة أبطل تفكير نظر لها بنصف عين متساءلاً: حاجة أية دى؟ تابعت مسترسلة بتذكير: فاكر الطفلة الى كنت رايحة اخطفها عشان ناخد اعضاءها وقولت لك ظهرت شابة قالتلى دى بنتى وكدة اومأ مؤكدًا، لتستطرد هي بتعجب:.
البت دى كانت شبهى أووى، شبهى ده اية، دى كانت نسخة منى، كأنى واقفة ادام مراية بتعكس صورتى...!
بقول لك أية يا مامى هاتِ 20 ألف جنية.
هتفت زينة بتلك الجملة وهي تقترب من والدتها التي كانت تجلس في الحديقة الخضراء، على احدى الكراسي تستند بظهرها للخلف بأريحية، تحيطها حلقة من الورود والزهور ذات الرائحة الممتعة، تمسك بأصابعها المجعدة كوب القهوة، تستمع بمظهر الغروب، إنسحاب الشمس امامها من الكره الأرضية يذكرها بأنسحاب السعادة الأبدية من حياتها.. نظرت ل زينة التي اصبحت امامها واجابتها بملل: يعنى أنا مسكاكِ، ما تاخدى.
مسحت زينة على شعرها الأصفر الناعم بقوة، وهي تجيب متأففة: يعنى ماهو أنا لو كنت عارفة كنت أخدت لوحدى، لكن أنتِ عارفة إن بابى شال مفتاح الخزنة معاكِ مخصوص عشان كدة اومأت والدتها ببرود، ثم أخرجت المفتاح من جيبها واعطتها لزينة التي لمعت عيونها بسعادة وهي تقفز: ميرسي جدًا يا أحلى مامى!
ابتسمت الاخرى نصف ابتسامة، لم تدرِ السبب وراء تلك السعادة التي ظنتهت يومًا سعادة طفولية، لم تدرِ أنها تدمر وتهد جدران اساس ابنتها الوحيدة! كادت زينة تخطو اول درجات السلم حتى سمعت صوت اخيها مالك الحاد: هتعملى أية بالفلوس دى يا زينة؟ شحب وجهها على الفور وأصبح لونه أصفر، احيانًا كثيرة تشعر أن مالك والدها وليس مجرد اخاها..! عادت للخلف لتنظر له ثم غمغمت متوترة: آآ يعنى ه هعمل بيها أية يا مالك.
سألها مرة اخرى بحدة أكثر: سؤالى واضح، عايزة ال 20 ألف لية يا زينة؟ أبتلعت ريقها مجيبة بازدراء: عايزة آآ عايزة أعمل Shopping يا مالك حك ذقنه بطرف إصبعه مفكرًا: اممممم، عايزة تعملى شوبينج! اومأت هي مسرعة، في حين كانت والدتهم تراقبهم من دون أن يلاحظوا، بينما فجأة قبض مالك على ذراعيها بعنف وصرخ فيها بحدة: عايزة تعملى شوبينج ولا عايزة تسهرى مع شوية الصُيع بتوعك؟!
كادت تفقد وعيها في هذه اللحظات، عقلها اصبح يتوقف عن العمل، ماذا! هل علم إنى اصبحتُ مدمنة! سألت هكذا في خواطرها، فتركها مالك وكأنه استشف سؤالها واتجه لوالدتها يزمجر فيها غاضبًا: امتى بقا هتبطلى اللامبالاة دى، امتى هتاخدى بالك من ولادك وبيتك زى باقي الستات، امتى هنحس إن ليكِ قيمة في حياتنا بقاااا.
تشعر بالحزن والألم يدمى قلبها، ولكنها اعتادت مؤخرًا أن تبنى حاجز وتصتنع البرود، فلا مانع من اللامبالاة هذه المرة ايضًا.. معتقدش إن اليوم ده هيجى يا مالك قالتها بهدوء حذر اصتعنته ليسألها هو باختناق: لية مش هيجى، لية مش عايزة تنطقي لله حتى! بلاش تعرف يا مالك احسن ليكم وليا قالتها بصوت اقرب للبكاء ليصيح فيها مالك بهيستريا: لييييية، ما أنتِ لازم تقولى بقا أنا زهقت.
واخيرًا باحت بالسبب الذي جعل الصدمة جزءً من ملامحهم الهادئة والصارمة: عشان بعد ما أبوم قبل أن واحد تانى يشاركه فيا أنا مبقاش ليا عين ابص ليكوا حتى!
بعدما حملها بين يديه الخشنة، شعر بالسخونة تلفح وجهه، فها هي بين يديه ومعه، يشعر بملمس جسدها الناعم على يده، ضربات قلبه تزداد بشكل ملحوظ، ووجهه لم يعد يعرف له قسمات محددة، عيناه تتلهف شوقًا لها، ورغبته تحثه للركض بها خارجًا في منزله، لينفرد بتلك الفراشة الناعمة التي تحلق فوق يديه، شكر مالك في خواطره الذي جعلها تسقط هكذا، وتسللت الابتسامة العابثة لثغره وهو يتخيلها معه وله فقط وبأرادتها!
طرق باب منزلهم بقدمه، لتفتح والدة شمس شاهقة من مظهر ابنتها، ولكنه سارع بتهدأتها: اهدى يا خالتى مفيش حاجة سألته بهلع وهي تبتعد لتفسح له الطريق: أية الى حصل يا يحيى، شمس مالها؟ وضعها على الأريكة وهو يلعن قدماه التي جعلته يأتى هنا، واجبرته تلك الأخلاق التي من المفترض تتشبعه أن يتركها امام والدتها! بينما صاحت فيه كريمة ببعض الغضب: يابنى ريحنى وقولى بنتى مالها زفر مجيبًا بنفاذ صبر:.
روحى هاتِ مياة طيب يا خالتى وهفهمك كل حاجة اومأت موافقة وهي تتجه للمطبخ لتجلب له الماء، عادت بعد ثوانى معدودة تمد يدها بالزجاجة، فأخذها يحيى وبدأ يرش قطرات الماء على شمس التي بدأت تحرك جفونها، هنا سارعت كريمة التي كان يجتاحها القلق مرة اخرى بسؤاله: قولى بقا حصلها أية، دى كانت رايحة لصاحبتها؟
نظر لها بخبث، نظراته متعلقة بها ولكنها بالحقيقة متعلقة في جنبات عقله تبحث عن وسيلة ما ليستغل ما حدث لصالحه، منع ابتسامته من الظهور بصعوبة عندما وجد الفكرة الشيطانية فقال بحرج مصطنع: انا مش عارف أقولك اية بالظبط يا خالتى سألته بضيق: انجز يا يحيى في اية؟ تنهد وكأنه يفكر وبخبث تشبع خلاياه اجابها: أصل شمس أعترفت لى بحبها، وأنا قولتلها إنى كمان بأحبها، بس مش هينفع أخطبها الوقتِ، فأغم عليها من الصدمة!