علاقات الدول تتفاوت بين اتفاق وخصام.. حرب أم سلام.. تجارة ودبلوماسية..بعد الحرب العالمية الثانية برز جانب مهم في العلاقات الدولية اسمه: المعونات.. عرف العالم مشروع مارشال لأحياء أوربا التي دمرتها الحرب.. وعرف بعد ذلك وطوال نصف قرن أشكالا متطورة من المعونات.. النقطة الرابعة (وهو مشروع أمريكي).. صناديق ووكالات العون مثلما نرى في الولايات المتحدة أو كندا أو بعض الدول العربية..<a name=\'more\'></a>
برامج ضخمة كتلك التي تبناها الاتحاد السوفييتي السابق أو تبنتها دول كبرى مثل فرنسا أو بريطانيا أو تتبناها الآن اليابان وألمانيا وغيرهما.. وبرزت في نفس المجال هيئات دولية تابعة للأمم المتحدة أو للمنظمات الإقليمية أو لصندوق النقد أو البنك الدولي..أصبحت هناك آلية في العلاقات الدولية حول قضية المعونات.. ودخلت إلى اللغة السياسية أو الدبلوماسية مصطلحات مثل: "الدول المانحة أو الدول المتلقية".. وانقسم العالم بين " يد عليا" تمنح، "ويد سفلى" تتلقى.. وأصبح السؤال بعد نصف قرن " من المستفيد، وما هو العائد؟ ".
صدمة الأرقامالكلمة فضفاضة، تتسع لأكثر من معنى..فالمنح التي لا ترد عون لا خلاف عليه.. والقروض الميسرة- والتي تمنحها الدولة عادة- تحمل نفس الاسم: "معونات".. وهي كذلك لأن أمد السداد قد يمتد إلى أربعين عاما كما هو الحال في بعض قروض البنك الدولي كما أن تكلفة القرض وفوائده تكون رمزية وتقل عن (1%) في بعض الأحيان.في ظل هذه المفاهيم تدفقت الأموال من الشمال إلى الجنوب ، وفي حالات أقل من الشمال إلى الشمال.. أو من الجنوب إلى الجنوب.. و.. ظلت المعونات طوال الوقت محل شد وجذب.. الجنوب يطلب أكثر، والشمال لا يستطيع أن يفي بهـا تعهد به كثيرا أي "توجيه (1%) من ناتجه القومي للمعونات".. وهو المعدل الذي تجاوزته دول عربية نفطية في السبعينيات. وقد كانت المؤتمرات النوعية التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة مناسبة دائمة للحوار حول هذه القضية.حدث ذلك في المؤتمر العالمي للبيئة، وحدث في مؤتمر السكان الذي انعقد في القاهرة خلال 1994، كما حدث في قمة كوبنهاجن التي انعقدت خلال شهر مارس 1995.. وهي القفة الاجتماعية.في كل هذه المؤتمرات، كان هناك حوار حول التزامات كل طرف.. وكان هناك تساؤل: "لماذا يدفع الأغنياء؟ " في مؤتمر القمة الاجتماعية- أو على هامشه- أذيع رقم صادم: لقد دفع العالم المتقدم للعالم الفقير (1400) مليار دولار خلال السنوات الخمس والثلاثين الماضية.. أي منذ عام 1960.. لكن الفقر، وخلال نفس السنوات، ازداد انتشارا.. فماذا حدث؟.. أين ذهبت المعونة؟الهدف، كما كان معلنا باستمرار، هو رخاء العالم.. هو السعي لعلاقات. دولية قائمة على التعاون والتكافل والاعتماد المتبادل.. وترسيخ السلام والأمن في العالم عن طريق معدته.والدول المانحة لا تخفي أن هناك أهدافا أوسع، ففي أدبيات هذه القضية بالولايات المتحدة الأمريكية، وفي المذكرات المصاحبة لمشروعات القوانين التي تتقدم بها الإدارة الأمريكية إلى الكونجرس لتقدير ميزانية المساعدات ما يشير إلى نوع الصفقة التي يجري إبرامها تحت اسم " المعونات ".. فنقطة الانطلاق- وهو أمر منطقي- أمريكية بالضرورة.. تحصل مصر وإسرائيل- مثلا- على أكبر. معونات تتلقاها دولتان في العالم والسبب: المصالح الأمريكية في المنطقة والتي انتهت إلى أن السلام- لا التوتر- هو ما يحقق هذه المصالح.وتحت كلمة المصالح تندرج أشياء كثيرة: بترول المنطقة، استخراجا، وتجارة، ونقلا عبر قناة السويس.. مبادلة ثروة العرب بسلع وخدمات أمريكية.. مدنية وعسكرية.. الحصول على نقاط ارتكاز في موقع متوسط من العالم، هو الحدود الجنوبية (للسوفييت سابقا).. وهو نقطة القفز إلى إفريقيا وآسيا.. وهو الجدار الجنوبي لأوربا وحلفها الأطلنطي.. و.. هكذا تختلط السياسة بالتجارة.. والتجارة بالأمن القومي.
صدمة الواقعالجانب الآخر من التل، إن جاز التعبير، يضم هؤلاء الفقراء الذين يتلقون العون عبر آلية محفوظة: عدم توازن اقتصادي ومالي، حاجة لعون يحقق التوازن، الخضوع لشروط المانح.. اقتصادية أو سياسية.. وربما أمنية. في دول العالم الثالث يتحدثون عن شروط المعونات أكثر مما يتحدثون عن جدواها..من الشروط ما يمس السيادة.. مثلما يحدث من إعطاء عون مقابل استخدام قاعدة عسكرية.. أو مقابل تسهيلات حربية.. أو نظير تغيير في السياسات الاقتصادية الداخلية.. أو الساسة الخارجية.. إنها التبعية، يطلق عليها البعض اسم " الاستعمار الجديد" ويطلق عليها آخرون " تبادل مصالح".. و.. بين الأمرين تتوه إجابة السؤال الذي جرى طرحه على هامش القمة الاجتماعية بكوبنهاجن "ما هي جدوى المعونات الخارجية؟".الرقم - كما أذيع (1,4) تريليون دولار في 35 عاما المسارات عسكرية ومدنية.. وفي الجانب المدني ما يمس جوانب إنسانية مثل مواجهة السيول والمجاعات !الكوارث.. ومنها ما يمس التقدم الاقتصادي وخلق بنية أساسية.. و.. منها ما يحتوي أزمات طارئة هنا أو هناك.في كل الأحوال فإن النقد لم يتوقف لأسلوب منح المعونات وإنفاقها.. فالجزء الأعظم يعود إلى موطنه.. وجزء كبير يتم إنفاقه على الخبراء والمستشارين وسلع باهظة الثمن أو مشروعات ليست ذات أولوية.. و.. على الجانب الآخر تأتي أحاديث الفساد وعدم الكفاءة في جانب الدول التي تتلقى العون.ويمكن القول أنه من وجهة نظر الدول المانحة فإن كثيرا من أهدافها قد تحققت: ربط سياسات الدول المتلقية بها. فتح أسواقها، تصريف البضائع لديها.. بل والتغلغل الثقافي فيها أيضا، وفي بعض الأحيان: شراء ذمم بعض الحكام والمسئولين.على الجانب الآخر من السفح تبدو الصورة أكثر قتامة.. تبعية وفقر مستمر.إنها قصة التغذية الصناعية.. بنقل دم قد يكون فاسدا، وقد يكون طيبا.. لكنه مؤقت في كل الأحوال.. وكما يقول الاقتصاديون، فإنه لا بديل عن التنمية الذاتية والجهد الوطني، وقد حان وقت " الفطام ".. فلا شيء لوجه الله، وإنما كل شيء من أجل هذا الصالح أو ذاك..المأساة أن كثيرا من الحكومات تعرف قيمة العون الخارجي في مساندة سياساتها، لكنها لا تعرف- أو لا تريد أن تعرف- كم تدفع من ثمن!.
https://archive.janatna.com/