رواية ضلع مكسور سينجبر للكاتبة شاهندة الفصل الرابع عشر
كان حسن يتنقل بين أروقة المكتبة يطالع بعض الكتب، حين تنحنحت هاجر قائلة: -إحمم، أستاذ حسن. إلتفت إليها قائلا بسخرية: -وأخيرا، أنا كنت قربت أزهق، ده أنا قريت عناوين الكتب كلها خمس ست مرات. رمقته بحنق قائلة: -والله أنا مكنتش بلعب وبعدين ده بحث مهم ولازم أدقق في المراجع اللى هاخد منها المعلومات.
رمقها للحظات بهدوء، يلاحظ إحمرار وجنتيها من الغضب مما زادها جمالا، تلتمع عيونها بشرارات تنطلق إليه وتصيب قلبه، نعم قلبه، يدرك بها تتسلل إليه رغما عنه ولكنه سيقاوم تأثيرها عليه حتى الرمق الأخير، ليقول ببرود: -طيب لو خلصتى يلا بينا عشان إتأخرت على ميعاد مهم.
شعرت هاجر بنغزة في قلبها، ينتابها شعور لم تفهمه، يجعلها حانقة غاضبة، وهي تتساءل، هل موعده ذاك مع فتاة يحبها أم صديق؟لتنفض أفكارها بسرعة ترفض مسارها، تتوق إلى الهرب الآن، فهي تبكى دوما عندما يعاملها بتلك الطريقة، وها هي تشعر بالدموع تتصاعد إلى مقلتيها، تبغى مخرجا، وهي بالتأكيد لن تبكى أمامه، أبدا. إلتفتت تتمالك مشاعرها قائلة: -يلا بينا، أنا خلصت. لتتقدمه ثم تتوقف فجأة صارخة: -كتب يوسف السباعى.
نظر حسن بإرتباك حوله، لهؤلاء الناس الذين نظروا بإستنكار لتلك الفتاة التي أزعجت جو الهدوء والسكينة من حولهم وأخرجتهم من جولاتهم في عوالم أخرى من المعرفة، ليضم حسن يديه معتذرا، بينما كانت هاجر في عالم آخر وهي تمسك تلك الكتب واحدا تلو الآخر تقرأ عناوينهم في صمت، (إنى راحلة، بين الأطلال، رد قلبى، ) تنهدت وهي تمر بعيونها على باقى الروايات لتزفر في إحباط قائلة:.
-للأسف أرض النفاق برده مش موجودة هنا، أكيد فيه حد مستعيرها، أنا عارفة حظى. قال حسن بسخرية: -مفيش حاجة إسمها حظ، فيه فرصة بتجيلك يابتاخديها يابتفوتك. رمقته بحنق فهز كتفيه مستطردا وهو يقول: -بس انا مقدرش ألومك على زعلك، الكتاب رائع جدا، وفيه عبر ومعانى عميقة، واكتر جملة حبيتها في الكتاب ده هي ان الإنسان غشاش ومخادع، كذاب ومنافق في كل أمة وفي كل جيل. جاء دور هاجر لتسخر منه قائلة:.
-ليه مش مستغربة ان يكون الكلام ده اكتر حاجة عجبتك في الكتاب؟ لتتقدمه دون أن تنتظر رده ليبتسم رغما عنه، وهو يتابعها بعينيه ثم تبعها على الفور، كانا في طريقهما إلى سيارته، حين استوقفه صديق له يسلم عليه بحفاوة، ليقول حسن بهدوء: -اسبقينى على العربية.
سبقته بالفعل ولكن قبل أن تركب السيارة، وضعت يد على فمها منديلا يحمل رائحة نفاذة كادت ان تصرخ ولكنها أحست بدوار ثم سقطت مغشيا عليها ليلتقطها الرجل بسرعة ثم يسحبها إلى تلك السيارة التي معه...
كان حسن يتحدث إلى صديقه حين حانت منه إلتفاتة إلى سيارته، ليرى أحدهم يولج هاجر فاقدة الوعي إلى سيارة أخرى، إتسعت عيونه بصدمة وصرخ بالرجل وهو يهرع إليه على الفور، ليراه الرجل ويسرع بركوب السيارة بإضطراب، ثم ينطلق بها، كادت دقات قلب حسن أن تتوقف خوفا عليها، ليسرع بدوره، يركب سيارته ويقودها مطاردا تلك السيارة المجهولة بقلب، وجل.
كانت تقف في شرفة منزلها تتطلع إلى الشارع الفارغ من الناس في هذا التوقيت، تشعر بالوحشة، بشيئ ينقصها بشدة، في قلبها سكن الفراغ تماما، أغمضت عيناها وذكرى شبيهة تغزو أفكارها...
في مكان آخر وزمن آخر، حيث كانت تنتظره طويلا في الشرفة، تأمل أن تراه يطل في الشارع، لتشعر فقط بالأمان، بالحب في نظراته، أدركت الآن فقط أنها كانت تحبه وكان هو بدوره يحبها، ولكنه ربما فقط لم يكترث بمشاعرها، لم يدرك قلقها وخوفها عليه من الطريق وتأخره بالخارج، لم يتفهم شوقها إليه؟إلى صحبته ومرافقته، فقط لو إكترث...
لربما حادثها وأخبرها أنه في العمل وسيتأخر قليلا فلا تقلق، أو لترك العمل في يوم وفضل صحبتها، ولكنه لم يرفق بها، تركها دائما فريسة القلق والوحدة...
فجأة طلت أمامها ذكرى أخرى لها وهي تتراجع إلى سور الشرفة حتى إستندت إلى حائطها تودع أحدهم بدموع غزيرة قبل أن تلقى بنفسها من الشرفة، إنتفضت سمر تفتح عيونها في قوة، يظهر الرعب على ملامحها، لقد حاولت الإنتحار وفشلت كما يبدو، ألقت بنفسها من إرتفاع شاهق دون تردد، لماذا؟لماااااذا؟
تساقطت دموعها بغزارة وهي تتراجع إلى داخل المنزل، تسرع إلى حجرتها وترتمى على السرير، تبكى في حرقة، تخرج إنفعالاتها قبل أن تتصل بالطبيب هادى، تخبره عما يحدث معها...
كان هادى يشاهد أشرطة التسجيل لآخر يومين قبل إنتشار تلك الرسائل، فلم تظهر الشرائط أي شيئ حتى الآن ولم تفيده سوى في أن بها مشهد لسمر وهي تخبره عن حالة لديها لن تستطيع تحمل نفقة العلاج الباهظة تدرك أنهم يدعمون تلك الحالات ان كانت حقا تستحتق الدعم، وتسأله أن يدعم حالة مريضها...
إبتسم بحنان وهو يمد يده إلى شاشة اللاب، يلمس ملامحها برقة، بعشق، بشوق، نعم، لقد إشتاق لها منذ الآن، يتساءل عنها وعن أحوالها، مازالت لا تجيبه، ومازال هو يتلظى بنار الفراق المرير، بعد أن ظن أنها تبادله بعض مشاعره، بعد ان ظن أنها لانت قليلا، عاد كل شيئ كالسابق بينهما، بل أسوأ.
فجأة تركزت عيناه على شخص يدلف إلى حجرته متسللا، يعبث بمحتويات الحجرة يبحث عن شيئ ما، عقد حاجبيه وهذا الشخص يصل إلى تلك الرسائل التي لم يستطع هادى أن يمزقها وفي نفس الوقت أخفاها بعيدا حين عشق سمر، نظر إلى هذا الشخص الذي أمسك الرسائل يصورها بعيون منتصرة حاقدة قبل أن يعيدها إلى مكانها ويغادر الحجرة في هدوء... لينظر هادى إلى الأمام عاقدا حاجبيه قائلا بصرامة:.
-كان لازم أعرف ان اللى ورا الموضوع ده انتى يا تهانى. رن هاتفه، فنظر الى شاشته بلهفة ثم ظهر الاحباط عليه وهو يرى رقم سمر، لينفض مشاعره جانبا وهو يجيبها بحرفية طبيب نفسي.
كان حسن يتبع سيارة المختطف بإصرار، دون أن يشعرهم بأنه يتبعهم، يخشى أن يتهربوا منه فلا يستطيع أن يصل لهم وينقذها من أيديهم،.
كاد أن يصطدم بتلك السيارة أمامه، ليتفاداها بصعوبة بالغة، ثم يتابع مطاردته، رآهم ينحرفون إلى شارع جانبي، فأسرع خلفهم، كان بعض المارة يعبرون الطريق فكاد أن يصطدم بهم ولكنه كبح فرامل السيارة في اللحظة الأخيرة، متجاهلا سباب ذلك الرجل وعيونه تتطلع إلى حيث توقفت السيارة الأخرى، ليسرع مرة أخرى بسيارته بعد أن عبر المارة إلى حيث توقفت السيارة،.
هبط بسرعة وما إن دلف إلى مدخل هذا المنزل حتى فوجئ بالمختطفين يغادرون، ليضم قبضته ويضرب فك الأول بقوة، بينما ركل الآخر في معدته فإنثنى بألم، ليمسك الأول من تلابيب عنقه، قائلا بقسوة: -ودتوها فين ياولاد، ودتوها فين؟
لم يجيبه ليكيل له بعض اللكمات، بينما تمالك الرجل الآخر نفسه وحاول لكم حسن ولكنه تفاداه بمهارة، تاركا الرجل الاول يسقط أرضا فاقدا الوعي وموجها لكماته للرجل الثانى، ليتفادى اللكمة بدوره راكلا حسن ولكن حسن أمسك قدمه وأداره بها ليسقط الرجل أرضا على وجهه، فكسرت أنفه و تلطخ وجهه بالدماء، رفعه حسن لا يبالى بتأوهاته قائلا بغضب ظهر في كل أوردته التي تنتفض: -إنطق، ودتوها فين وإلا قسما بالله لأقتلك، حااالا.
قال الرجل من بين أنفاسه المتهدجة: -فوق، فوق في الدور التالت. تركه حسن مهرولا للأعلى، بينما تمالك الرجل نفسه وهز الرجل الآخر قائلا: -سعيد، قوم ياسعيد الله يخرب بيتك هنروح في داهية، لم يحصل على إجابة منه فتركه، هاربا.
كان مرتضى يتأمل تلك النائمة بعيون تلمع بالرغبة، يتأمل ملامحها الجميلة بنظراته التي تلتهم تفاصيلها، يتناثر شعرها حول وجهها بنعومة ورقة، إقترب منها وجلس بجوارها، رفع يده يمررها على شعرها ممررا إياها على وجنتها مرورا بثغرها، يود لو إقتطفه على الفور، ولكن مهلا، أمامه من الوقت ليفعل كل مايشتهي، نزل بأصابعه على جيدها يتحسس نعومته، يسيل لعابه ويبتلع ريقه بصعوبة حتى وصل إلى بلوزتها ليسرع بفك أزرارها كاشفا عن جسدها الغض، لم يستطع الصبر أكثر إنحنى لينهل منها مايشاء ولكنه إنتفض على صوت الباب يكسر ثم إندفاع حسن إلى الحجرة كثور هائج، والذي ما إن رأى هذا المشهد حتى نهض مرتضى يرتجف قلبه خوفا من ملامح حسن التي صارت ثائرة كبركان أدرك أنه سينفجر فيه في التو واللحظة، كاد أن يهرب ولكن حسن إتجه إليه بسرعه، يوسعه ضربا بقوة، يكيل له الركلات واللكمات بغل، لم يستطع مرتضى أن يصدها من قوتها وعنفها، بل صرخ قائلا:.
-كفاية بقى حرام عليك. هدر حسن قائلا: -حرام علية أنا، ياشيخ حرام عليك انت، ده انت ابن راجل طيب مشفناش منه غير كل خير، مخفتش على أختك ضحى؟ أختك اللى كانت هتدوق من عمايلك؟ياأخى ده كما تدين تدان؟ ثم أشار لهاجر بعينيه قائلا بغضب: -طيب مفكرتش في مستقبل المسكينة دى اللى كان هيضيع بسببك؟ قال مرتضى من بين أنفاسه المتهدجة: -لا، ما انا كنت هتجوزها.
شعر حسن بالكره في قلبه يتضاعف وشعور حارق بالغيرة يكويه وهو يصرخ مستنكرا: -تتجوزك انت؟وانا روحت فين؟هو انا مش مالى عينك يا.
لم يمنحه فرصة للرد وهو يكيل له اللكمات حتى أصبح وجهه ملطخا بالدماء ومتورما للغاية، بينما إستفاقت هاجر لتمسك رأسها التي تؤلمها بقوة، ولكنها مالبثت أن إتسعت عيونها بقوة وهي ترى حسن يكيل الضربات لمرتضى، لتشهق وهي ترى أيضا جسدها العارى أمامها، منحتهما ظهرها على الفور وهي تسرع بغلق بلوزتها بأيدى مرتجفة تستوعب ما يحدث، لا تدرى سوى أنها كادت أن تضيع، لتتساقط عبراتها بقوة، تمالكت نفسها وهي تسمع صراخ مرتضى المستنجد لتدرك أن حسن على وشك قتله ضربا، نهضت بسرعة وهرعت إلى حسن تمسك يده تمنعه من التمادى، إلتفت إليها وكاد أن يدفعها عنه بقسوة ولكن عيونها الدامعة المتوسلة ألانت قسوته رويدا رويدا وكلماتها المرتجفة هدأته قليلا وهي تقول:.
-كفاية ياحسن، سيبه ده ميستهلش تروح في داهية بسببه، خلينا نمشى من هنا، أنا بردانة ياحسن، بردانة وعايزة أروح. رأى إرتعاشة جسدها الواضحة ليدرك أنها تعانى صدمة عصبية ولكنها تتمالك نفسها فقط من أجله، ليومئ لها برأسه قبل أن يترك جسد مرتضى ويسقط هذا الأخير منهك القوى، بينما أمسكها يدها لتتمسك بيده بقوة يغادران متجهان إلى المنزل، سويا.
كانت سمر قد إستعادت نفسها القوية، وقاومت ضعفها بعد أن تحدثت قليلا مع هادى، تدرك انها على وشك الكشف عن ماضيها كله، رفعت فنجال قهوتها إلى شفتيها وهي تنظر إلى ساعتها عاقدة حاجبيها، تدرك تأخر هاجر، ليرن جرس الباب فجأة، زفرت براحة ونهضت متجهة لكي تفتح باب المنزل وهي تقول بعتاب: -إتأخرتى اوى ياهاجر وقلقتينى...
صمتت فجأة وعيونها تتسع بقوة وهي ترى وجه هاجر الشاحب كالموتى، وإرتعاشة جسدها الواضحة، لتنظر إلى حسن الذي تمسك هاجر بيده بقوة ترفض ترك يده ليدلف حسن معها قائلا: -من فضلك يامدام سمر تجهزيلها حمام سخن وتديلها من الدوا ده، وتسيبيها تنام ومتحاوليش تتكلمى معاها في حاجة. قالت سمر في حيرة امتزجت بالقلق: -هي هاجر مالها ياحسن فيها إيه؟طمنى. قال حسن:.
-من فضلك إطمنى، هي بس تعبانة دلوقت بس هتبقى كويسة، اعملى بس اللى قلتلك عليه وأنا هروح مشوار وهرجع أحكيلك على كل حاجة. أومأت سمر برأسها وهي مازالت حائرة قلقة ولكن لديها شعور مؤكد بأن كل شيئ سيكون على مايرام، كما أخبرها حسن، إتجهت بسرعة إلى الحمام، ليحاول حسن ترك يد هاجر بعد أن أجلسها على الأريكة، لتنظر إليه بنظرات وجلة قائلة بصوت ضعيف: -رايح فين؟ ربت على يدها قائلا بحنان:.
-هروح مشوار لازم أعمله عشان أنهى المهزلة دى وهرجعلك تانى، اطمنى. تركت يده على مضض، ليميل عليها ناظرا مباشرة إلى عينيها قائلا بحزم: -هاجر إنتى بنت قوية ومش ضعيفة، تقدرى تتحملى أي حاجة واللى فات مش حاجة، ده ابتلاء من ربنا ونجاكى منه، متبصيش لورا وبصى لقدام، بصى للنعمة اللى انتى فيها، ياما بنات اتعرضوا للى حصلك وضاعوا بس انتى ربنا كان رءووف رحيم بيكى ونجاكى، نجاكى عشان خاطر أخوكى وسمر وعشان...
قطع كلماته وقد كاد أن ينطقها بكل قوة(لقد أنجاكى الله من أجلى، فلو أصابك مكروه لما سامحت نفسى قط)، يعترف الآن بكل وضوح أنه قد وقع أسيرا لها، وأن كل محاولاته لتجنب الوقوع في حبها باءت بالفشل، صمت للحظة قبل أن يستطرد: -عشان انتى بنت بستين راجل، وأنا واثق انك هتتخطى المحنة دى وهتكونى أقوى كمان، مش كدة؟ اومأت برأسها بعيون تغشاها الدموع، إقتربت منهم سمر في تلك اللحظة ليعتدل موجها حديثه اليها، قائلا:.
-خدى بالك منها، انا مش هتأخر. أومأت سمر برأسها، ليبتعد حسن مغادرا تتابعه عينا هاجر ليلتفت وينظر إليها يومئ برأسه مشجعا بإبتسامة، لتومئ له برأسها بدورها وهي تمسح دموعها بكفيها كالأطفال، قبل أن يغادر وتلك النظرة الحانية تختفى لتظهر فيهما برودة في قسوة الجليد.
قال حسن بقسوة: -إبنك فين ياحاج سالم؟ قال سالم بحيرة: -ابنى في بورسعيد ياحسن ياابنى بيجيب بضاعة وهييجى بكرة. قال حسن بسخرية: -ده الكلام اللى ضحك عليك بيه. قال سالم بإستنكار: -ضحك علية بيه؟عيب ياابنى الكلام اللى إنت بتقوله ده. قال حسن بقسوة:.
-بس ده اللى حصل ياحاج، ابنك مسافرش ولا حاجة، ابنك سلط شوية عيال، عشان يخطفوا هاجر ويجيبوهاله في شقة في الأزاريطة، كانت في الدور التالت، ولما لحقته هناك قبل ما يعمل عملته، ضربته علقة موت وسيبته عشان أرجع الغلبانة المصدومة للبيت وآجى هنا عشان أخده وأسلمه بإيدى للنيابة. كان سالم يستمع إلى حسن بصدمة، ليهتز العكاز في يديه ويكاد أن يسقط أرضا، أسرع حسن بإسناده ومساعدته للجلوس، بينما قال الشيخ سالم بصدمة:.
-مرتضى، ابنى أنا بيخطف بنات ويعتدى على شرفهم، أمال لو مكنش صعيده ودمه حامى، أمال لو مكنش أبوه عارف ربنا وبيخاف منه، وأمه الله يرحمها كانت ست أصيلة ومربياه كويس، ضاع شقاك ياسالم، ضاع تعبك على ابنك ياسالم، ياخسارة يامرتضى، ياخسارة ياابنى. ربت حسن على ظهره قائلا: -اهدى ياحاج متعملش في نفسك كدة. نظر سالم بعيون تغشاها الدموع ليقول بصوت مهزوز:.
-ابنى وطى راسى في الطين ياحسن، جابلى العار ياابنى، أعمل ايه دلوقتى، اروح فين واجى منين، الله يرحمك ياابا، قلتلى بلاش المدينة، هتضيع جواها ياولدى بس انا كابرت وآخرتها ابنى اللى ضاع ياحاج حمدان، ابنى اللى ضاع. قال حسن بشفقة:.
-العيب مش في المدينة ياحاج سالم، كل مكان فيه الوحش وفيه الحلو، ومرتضى كان كويس بس بقاله فترة مش مظبوط وشفته كذا مرة قاعد مع واحد مش تمام في القهوة اللى على الناصية، أنور، ما انت عارفه، ولما حذرته طلع فية وقالى ملكش دعوة، ومن ساعتها وانا في حالى وهو في حاله، العيب ياحاج في صحاب السوء. نظر إليه سالم قائلا في يأس: -طب والعمل ياحسن ياابنى، هعمل ايه دلوقتى، هسلمه للبوليس بايدية، قلبى مش هيطاوعنى.
قال حسن وهو ينظر مباشرة إلى عينيه قائلا: -ترجعه البلد ياحاج. قال الشيخ سالم بإستنكار: -البلد لأ ياولدى، اللى عمله كبير ورده عندنا الدم ياحسن. قال حسن بهدوء: -متقولش هناك هو عمل ايه، قولهم بس ان حاله مش عاجبك ومحتاجهم يقوموه ويعدلوه، خليه يخالط الرجالة اللى بجد، وجوزه ياحاج، اللى زي مرتضى، اللى أصله طيب وتربيته صح بس اتعوج، لو اتجوز واحدة كويسة وصاحب ناس كويسة هيرجع لأصله ياحاج. قال الشيخ سالم بلهفة:.
-تفتكر ياحسن؟تفتكر مرتضى هيرجع ابنى اللى ربيته بتاع زمان؟ قال حسن: -أنا متأكد ياحاج، ليتنهد مستطردا: -هسيبك دلوقتى وأروح اشوف الغلبانة اللى هناك، أهى هي دى اللى يتخاف عليها بجد بعد اللى شافته على ايد ابنك النهاردة. قال سالم بعيون دامعة: -سامحنى ياابنى وخليها تسامحنى وانا هاخد ابنى وارجع البلد النهاردة قبل بكرة ومبقتوش تشوفوا وشنا أبدا.
ربت حسن على يد سالم وهو يومئ برأسه دون ان ينطق، مغادرا تتبعه عيون الشيخ سالم الذي قال: -ابن حلال ياحسن، كلكم ولاد أصول وامكم عرفت تربيكم ياولاد محمود. ثم ظل يردد مستطردا: -لا حول ولا قوة الا بالله، لا اله الا انت سبحانك انى كنت من الظالمين، انى كنت من الظالمين.
رواية ضلع مكسور سينجبر للكاتبة شاهندة الفصل الخامس عشر
فتحت سمر الباب لتجد حسن يقف على عتبته، ينظر إليها قائلا بنبرات قلقة: -أخبارها إيه دلوقتى؟ أفسحت له سمر الطريق ليدلف إلى الداخل قائلة بحزن: -لسة زي ما هي ياأستاذ حسن، كل اما ادخل ألاقيها بتغمض عنيها، عايزة تفهمنى انها نايمة، بس الدموع اللى مغرقة وشها بتأكدلى انها مش نايمة، أنا قلتلها انى هكلم هادى أخوها بس هي رفضت وقالتلى هيقلق علية وهييجى اسكندرية بسرعة، خافت عليه يعمل حادثة في الطريق.
هل من الممكن أن يتضخم القلب؟لقد شعر حسن بقلبه يتضخم بالفعل، يزداد إعجابا بتلك الفتاة التي تعرضت لأسوأ ما قد تتعرض إليه فتاة ومازالت تفكر في الآخرين، أفاق من أفكاره، على صوت سمر وهي تقول: -مش عارفة، حاسة انى مش لازم أسمع كلامها، حاسة إنى لازم أتصل بهادى، الموضوع مش سهل وأكيد هيأثر فيها، ده انت من ساعة ما حكيتلى امبارح وأنا منمتش. قال حسن بهدوء:.
دلفت سمر الى حجرة هاجر، وظلت هناك لدقائق ثم خرجت تشير له بالدخول، ليدلف إلى الحجرة بهدوء، وجدها تجلس معتدلة على السرير، تستند بظهرها إلى الوسادة تنظر إلى الأمام بشرود، إقترب منها وجلس بذلك الكرسي بجوار السرير قائلا: -هاجر. نظرت إليه في صمت، ليستطرد بهدوء: -لسة برده مش قادرة تخرجى من الحالة اللى انتى فيها دى؟انا مش قلتلك انك أقوى من كل الظروف، انا مش قلتلك تحاولى تنسى اللى حصل.
أغروقت عيناها بالدموع قائلة بصوت مختنق: -مش قادرة أنسى ياحسن، مش قادرة، كل ما افتكر الحيوان ده كان عايز يعمل فية ايه، بحس بجسمى كله بيترعش، بيتنفض من جوة، كل أما أفكر انك كان ممكن متلحقنيش، قاطعها واضعا يده على فمها قائلا بحزم: -متفكريش بالشكل ده، مستحيل كنت هسيبك تضيعى، أنا، أنا...
تأملت عينيه بحيرة، ليبعد يده عن فمها وقد كاد أن يعترف بمشاعره، يشعر بكيانه يطالبه بالتصريح لها ولكن هناك حاجز يمنعه من البوح، ليقول بإرتباك: -أنا متأكد من ان كل حاجة حصلتلك هتعدى وهتنسيها، ومش هتبقى منها حتى ذكرى، أوعدك انى حتى الذكرى دى هنسيهالك. ظلت تنظر إليه في حيرة ليقول بإبتسامة: -إيه رأيك نقوم نخرج؟ ظهر الخوف في عيونها على الفور قائلة: -لأ، مستحيل طبعا، مش عايزة أخرج.
مد يده ليمسك يدها فنظرت إلى تشابك أيديهم بحيرة ثم نظرت إلى عيونه فوجدته يقول: -مش هتفضلى محبوسة جوة قفص خايفة من البشر، الحياة لازم تمشى، وبعدين انتى معايا، يعنى متخافيش من حاجة أبدا ياهاجر، أنا جنبك وايدى في ايدك، مش هسيبها، أبدا. تأملته للحظات تصلها ثقته فتغمرها براحة غريبة، لتشعر بثقتها تزداد، ظلا هكذا للحظات ثم قالت بحزم: -معاك حق، بس إنت هتسيب ايدى وحالا ياحسن. عقد حاجبيه لتلين ملامحها مستطردة:.
-هتسيبها عشان تخرج من الأوضة، عايزة أغير هدومى عشان أنزل معاك ياحسن. شعر بالإضطراب، ليترك يدها على الفور وهو ينهض يمرر يده في شعره قائلا: -آه، طيب، هستناكى برة، سلام. ثم غادر الحجرة بسرعة مغلقا الباب خلفه، لتزفر هاجر، قبل أن تنفض عنها غطاءها وتنهض لترتدى ملابسها، إستعدادا للخروج.
دلف مجد إلى المنزل، يحمل في يده بعض الأوراق، نظر إلى سمر الجالسة على الطاولة أمام اللاب توب الخاص بها تتابع شيئا ما بتركيز شديد، لتنتفض على صوت مجد وهو يقول: -سماح فين ياسمر؟ قالت سمر: -في الأوضة جوة، آخدة مراد في حضنها ونايمة، الحمد لله دراعها اتحسن، انا اول ما شفت دراعها قلت فيه كسر بس الحمد لله انه طلع التواء، الورم النهاردة خف كتير بس حاولت أخليها تاكل لقمة مرضيتش.
أومأ مجد برأسه متفهما حالتها لتنهض سمر قائلة: -وانت عملت إيه؟خلصت الإجراءات بتاعة طلاقها؟ قال مجد ببغض: -متفكرنيش، الباشا كان عايز يماطل ويقول ان يمين الطلاق وقع بالإكراه، بس أنا عملت زي سماح وهددته بانى هعمله فضايح قى شغله واتهمه بإحداث ضرر ليها نفسيا وجسديا، وخصوصا إنى عرفت من مراد انه ضربها قبل كدة. قالت سمر بحزن:.
-انا لما عرفت زيك والله إتقهرت، إزاي قبلت تكمل معاه بعد ما ضربها، إزاي هانت عليها نفسها بالشكل ده؟ قال مجد بمرارة:.
-ساعات الحب بيخليكى عامية، ماشية وراه من غير ماتفكرى، وتستحملى اللى مش ممكن حد يستحمله، يخليكى تضحى بسعادتك نفسها على أمل ان اللى بتحبيه هيتغير، ساعات الحب بيضيع حياتك كلها وانتى مش حاسة، لغاية ما في يوم تفوقى وتعرفى ان اللى انتى بتضحى بيه ده هي روحك اللى بتموت حبة بحبة، هي كيانك اللى بيضعف وبتبهت ملامحه، بس للأسف غالبا يوم ما بتفوقى بيكون بعد فوات الأوان.
أدركت سمر أنه يتحدث عن حبيبته زوزا، تلك التي تحملته بكل حالاته، كانت تذبل معه رويدا رويدا، ولكنه لم يشعر ولم يستفق، سوى بعد فوات الأوان، هكذا هم الرجال يحتاجون لصفعة قوية ليدركوا قيمة ما تجاهلوه واعتبروه أمرا مسلما به، يحتاجون لفقدان نعمة أسبغها الله عليهم، ليدركوا قيمتها. أطل وجه هادى في مخيلتها لتنفضه مرددة بداخلها:.
فقط إنسيه يافتاة، وكأنه لم يكن قط، فأنتى بخير طالما تبعدين عنك كل ما يحمل لقب، مذكر تنهدت ثم قالت: -يعنى كدة خلاص، نقدر نسافر بكرة اسكندرية، أنا اتخنقت من المكان ده وعايزة أرجع هناك، لبيتنا، وخلاص اتفقت مع دكتور عزت صاحب المستشفى اللى كنت بشتغل فيها انى أمسك قسم الجراحة في فرع المستشفى اللى في اسكندرية. قال مجد بهدوء:.
-حسام خلاص مضى على أوراق الطلاق واتحولت للمحكمة عشان تراجع الأوراق ويتم تسجيل الطلاق، فاضل بس أروح بكرة أسحب أوراق مراد عشان نقدمله في المدرسة اللى جنبنا في اسكندرية، وساعتها هنقدر نسافر. اومأت سمر برأسها، ليقول مجد: -على فكرة هادى كلمنى... قاطعته سمر قائلة في حزم: -لو سمحت مش عايزة أسمع إسمه تانى، دى صفحة واتقفلت وياريت منفتحش سيرتها خالص من هنا ورايح. رأى مجد جمود ملامحها ليقول بهدوء: -براحتك ياسمر.
ثم استطرد داخل نفسه قائلا: هسيبه هو يحل مشاكله بنفسه، أدها وأدود يادكترة كاد أن يبتسم ولكنه أخفى إبتسامته بسرعة تحت تفحصها الدقيق لملامحه الهادئة، وكأنها لا تصدق قبوله لرغبتها بعدم الحديث عنه، ليقول متهربا وهو يشعر بأنه على وشك الخضوع لإستجواب: -أنا هدخل لأختك، أطمن عليها وبعدين هخرج أطمن على اللى في اسكندرية، حسن مكلمنيش من ساعة ما جيت وانا بدأت أتوغوش.
أومأت برأسها ليتجه إلى حجرة أخته سماح، بينما تركها تتساءل رغما عنها عما أخبر به هادى أخاها مجد.
بكت تهانى بدموع التماسيح قائلة: -حضرتك ظالمنى يادكتور هادى، أنا مستحيل أعمل حاجة زي دى، أكيد الدكتورة سمر هي اللى ملت ودانك من ناحيتى. هدر هادى قائلا: -لسة بتظلميها، ونفسك تإذيها زي ما شوهتى سمعتها قبل كدة بالفيديو اللى نشرتيه، مش كدة ياتهانى؟ إتسعت عينا تهانى بإستنكار قائلة: -أنا، طب إن شاالله يفرمنى... قاطعها قائلا بحدة: -متجيبيش سيرة ربنا في كلامك ياتهانى، عشان ربنا برئ منك ومن أفعالك،.
ليوجه شاشة اللاب بإتجاهها قائلا: -كل اللى عملتيه متسجل في الكاميرات ياهانم، وبالتسجيل ده أنا ممكن أوديكى في ستين داهية. إتسعت عيناها برعب وهي تطالع ذلك التسجيل الذي يدينها بإقتحام غرفة الطبيب هادى وسرقة مستنداته، لتنظر إلى هادى الذي عقد حاجبيه في صرامة لتقول بدموع حقيقية: -أبوس إيدك يادكتور هادى، أنا غلطانة وأستاهل كل اللى يجرالى بس متإذنيش وتودى الشرايط للبوليس، أنا عندى عيال ولو اتسجنت هيتشردوا.
قال هادى بغضب: -وكانوا فين عيالك دول لما فكرتى تإذينى وتإذى الدكتورة سمر؟ اقتربت منه تقبل يده قائلة بتوسل: -أبوس إيدك سامحنى. نفض يده عنها لتستطرد قائلة: -اعمل فية اللى انت عايزه، عاقبنى، اقتلنى حتى بس متسجنيش، أنا مش هقدر استحمل يوم واحد في السجن ولا اولادى هيقدروا يبعدوا عني كمان، طب مش عشانى، عشان خاطرهم، عشان مستقبلهم، بلاش مستقبلهم يضيع بسببى.
رغما عنه شعر بالضعف تجاه أبنائها الذين ستتركهم بلا عائل ان هي سجنت بالفعل، ولكنه أيضا يشعر بالشفقة عليهم لاضطرارهم أن يعيشوا مع أم بتلك الأخلاق، ليقول بصرامة: -عشان خاطر ولادك بس، مش هقدم الفيديو ده للبوليس، وهكتفى برفدك مع توصية لكل المستشفيات الخاصة بإنها متشغلش واحدة زيك، وياريت تغيرى مهنتك لإنك متستاهليش لقب ملاك الرحمة، وامشى ياتهانى، امشى من وشى دلوقتى بدل ما أغير رأيي.
نظرت إليه وملامح الندم تكسو وجهها، تدرك أنها من جلبت كل هذا لنفسها، لتمشى بإنكسار مغادرة الحجرة يتابعها هادى بعيون جامدة، وما ان اختفت عن ناظريه حتى تغيرت ملامحه وهو يقول بمرارة: -منك لله ياتهانى، هديتى كل اللى حاولت أبنيه مع سمر وياعالم هعرف ابنيه من تانى ولا حكايتنا كدة خلصت خلاص.
الخيانة تقتل، تبيد الروح وتهدر دماء الوفاء، تكشف عن زيف شاع بالمشاعر وآفة سكنت الأحاسيس، فما أبشع أن تمنح روحك لإنسان وحين تشعر بطعنة في الظهر، تلتفت فتجده هو من يطعنك ولا أحد غيره، وما أصعب على النفس من طعنة ظننتها من أحدهم مستحيلة، فصارت، بالإمكان.
كانت تتأمل مراد النائم بجوارها كالملاك، يتمزق قلبها حزنا عليه، كم تمنت لو منحته مايستحق من عائلة محبة تحتويه، كم تمنت لو لم تستسلم لقلبها وتتبعه، فلربما وقتها ما عانى مراد من العذاب ولا عانت هي من الإحتراق...
نعم تحترق، تحترق بنيران الغدر والخيانة، تنزف نبضاتها كمدا على عمر ضاع سدى، تشعر بروحها تختنق ألما، تبغى ملاذا لكيانها المهترئ، تعيد فيه لملمة جروحها ونسيان أحزانها، تبغى أن تبدأ من جديد في مكان بعيد لا يحمل لها ذكريات مقيتة تود لو محتها من ذاكرتها للأبد... طرقات خفيفة ثم الباب يفتح ببطئ ويطل أخاها بوجهه المحبوب، يطالعها بإبتسامة ما ان رآها مستيقظة، فبادلته ابتسامته قائلة: -ادخل يامجد، أنا صاحية.
دلف مجد واقترب منها يتجه إلى طرفها من السرير يجلس في مقابلتها قائلا: -إزيك دلوقتى ياسماح؟ قالت بإبتسامة على شفتيها: -انا كويسة يامجد، متقلقش علية. نظر إلى مقلتيها قائلا: -لما انتى كويسة ياسماح، ليه الابتسامة مش واصلة لعنيكى، ليه ابتسامتك برعشة وعنيكى مدمعين؟ نزلت دموعها قائلة بمرارة:.
-عشان لو قدرت أخبى عن الناس كلها مشاعرى مش هقدر أخبيهم عنك انت يامجد، طول عمرك بتفهمنى من نظرة عينية، طول عمرك بتحس باللى في قلبى، لتشير إلى قلبها قائلة بألم:.
-وقلبى ده موجوع أوى، موجوع أوى يامجد، أد إيه صعب على الواحدة تدى كل حاجة ويكون جزاءها الخيانة والغدر، أد إيه بتقتل انك تشوف في عيون شريكك انك مش مالى عينه ومقدرتش تكون كامل في نظره، أد إيه بتدبح انك تعرف انه دور على اللى ناقصك مع حد تانى، ورغم انك واثق في انك مبخلتش عليه بكل كيانك إلا إن عملته بتفقدك كل ثقتك بنفسك، بتخليك بتحس انك ولا حاجة، أد إيه صعبة الخيانة وأد إيه الخاين غدار بيطعنك في ضهرك بدم بارد ويقول مكنش قصدى، مكنش قصدى الجرح، مكنش قصدى القتل،.
وأنا بجد اتقتلت يامجد، كل حاجة فية اتقتلت، مشاعرى، أحاسيسى، كرامتى، قلبى، روحى، اتقتلت يامجد واللى قتلنى اقرب الناس لية، ياريتنى ماشفته، ياريتنى ماعرفته، ياريتنى مت قب... وضع يده على فمها يقول بعيون دامعة: -بعيد الشر عنك ياسماح، متقوليش الكلمة دى تانى، مش عشان خاطرى ولا عشان خاطر اخواتك اللى بيحبوكى، لأ، عشان خاطر إبنك مراد، انت عارفة مراد متعلق بيكى إزاي، شوفى ضمته لإيدك، شوفى دمعته اللى على خده.
-من النهاردة هتنسى حسام، مش هيكون له أي وجود في حياتك، من النهاردة هتكونى أقوى، مش هتكونى سماح اللى ضعفها حبها لحسام، مش هتكونى سماح اللى قبلت بإنها تتنازل عن كيانها ورغباتها عشان خاطر حبها، مش هتكونى سماح اللى دبلت ضحكتها وضاعت آمالها جوة قفص دهبى، هتكونى سماح اللى مفيش حاجة هتقف قصاد طموحها في إنها تحقق أحلامها وتربى ابنها صح، ربنا قال في كتابه الحكيم.
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم واللى حصل ده أكيد فيه خير ليكى ولمراد ياسماح. قالت سماح: -ونعم بالله، ونعم بالله يامجد. قال مجد: -يعنى اتفقنا ياسماح؟مفيش حزن تانى؟مفيش دموع تانية؟ اومأت برأسها بإبتسامة باهتة ليمد يديه يمسح دموع وجنتيها قائلا: -طب يلا قومى عشان تاكلى معايا لقمة، من الصبح بجرى من هنا لهنا، وميت من الجوع. قالت بحنان: -طيب روح غير هدومك وأنا هجهزلك الأكل... أشار بسبابته قائلا: -وهتاكلى معايا؟
ابتسمت قائلة: -وهاكل معاك يامجد. ابتسم مجد وهو ينهض يقبلها في رأسها قبل أن يغادر الحجرة لتهمس سماح قائلة: -مش عارفة من غيرك كنا هنعمل إيه يامجد، ربنا يجبرك زي مابتجبرنا.
الإشتياق، شعور يهز الوجدان، يجبرك على التفكير الدائم بمن تشتاق إليه، الفراغ القاتل هو ماتشعر به في غيابه، تملأ دواخلك فقط ذكرياتك لمن تشتاق إليه، تتمنى أن يصلك منه كلمة، خبرا، أو رسالة، تشبع بعض مشاعر الشوق إليه، تتمنى لو رأيته للحظة فأشبعت عيونك بمرآه... تتمنى وتتمنى وتظل كل أمنياتك أحلاما، لن تتحقق سوى عندما يعود الغائب. تأملت سمر هاتفها للمرة العاشرة، وكالمعتاد، لا كلمة، لا رسالة، لا خبر،.
هل إشتاقت لرسائله حقا؟هل إفتقدته؟أم أنها إفتقدت ما يمنحها كلماته من شعور بالإهتمام؟أو ربما إفتقدت شخص آخر، شخص كان يعيد لكيانها هذا الأمان المفقود، تنهدت بقوة...
نعم، إفتقدت مجد، إفتقدته بشدة، تطاردها نظراته التي لا تفهمها ولكن رغم ذلك تمنحها شعور غريب بالإرتياح، بالحياة، نعم، تبعثها نظراته حية من جديد، أغمضت عيناها، تشعر بالذنب مجددا، في حق زوجها الذي لا تعلم عنه شيئا، وماض تجهله ولا ترغبه ولكنها تريده فقط من أجل أن تريح نفسها الغارقة بالذنب، تريد أن تحيا بحرية، أن تترك لمشاعرها العنان، فلقد ملت كبحها، وأرهقها الذنب.
تبا لهذا الصداع الذي أصبح ملازما لها في الفترة الأخيرة، نتيجة لتفكيرها المتزايد، تتمنى من كل قلبها لو لم ترفض دعوة حسن لها للإنضمام لهما، ولكن ما منعها هو شعورها بأن حسن يكن لهاجر بعض المشاعر وهاجر تبادله إياها، ربما في خروجتهما سويا إستطاع حسن أن ينسي هاجر مصابها، وأن يمحو بحيويته ومشاعره، ذكرى بغيضة تحزنها، فإن كانت تتمنى شيئا، فهو أن تحظى هاجر بما حرمت منه.
هاجر، تلك الفتاة التي لم تكن تقربها ولا تمت لها بصلة دم، فأصبحت لها أكثر من اخت، تتمنى لها من كل قلبها أن تحظى بالعشق، لإنها تستحق.
رواية ضلع مكسور سينجبر للكاتبة شاهندة الفصل السادس عشر
كانت تلمع الأثاث، تحاول أن تشغل عقلها عن التفكير، ليتعالى رنين هاتف هاجر، إبتسمت قائلة: -نسيتى تليفونك ياهاجر اللى مبتقدريش تستغنى عنه أبدا، كل ده عشان خارجة مع أبو على، اقتربت من الهاتف تنظر إلى شاشته التي تألقت بإسمه. تسارعت خفقاتها... هو من يتصل... ذلك الذي افتقدته دهرا، نعم تشعر بأنه قد مر دهر منذ ان رأته لآخر مرة،.
مدت يد مرتعشة وتناولت بها الهاتف، ترددت في الإجابة ولكن هذا الشوق لسماع صوته جعلها تحسم أمرها وتجيبه على الفور قائلة بهمس: -السلام عليكم. هل هذا صوتها؟بالطبع نعم، وهل يتوه عن نبراته؟ آه كم إشتاق لسماع هذا الصوت الذي يطرب قلبه وتعزف على أوتاره نغماته، إستمع إلى صوتها مجددا وهي تقول: -السلام عليكم. تنحنح قائلا: -احمم، وعليكم السلام، ازيك يامدام سمر.
لقد تعرف على صوتها، نعم، لقد فعل، هل يرقص قلبها الآن فرحا؟ابتلعت ريقها قائلة: -بخير ياأستاذ مجد. قال مجد بإرتباك: -أنا كنت يعنى، حابب أطمن عليكم، أصل حسن مبيردش علية من امبارح، فابتديت أقلق واضطريت يعنى انى أتصل بالآنسة هاجر.
شعرت بالإحباط، أيتصل فقط من أجل الاطمئنان عليهم، ألم يشتاق إليها، تبا كم إشتاقت هي إليه؟أو ربما إشتاق بالفعل، ولكن اشتياقه كان لهاجر لذلك تحدث معها هاتفيا، أصابتها تلك الفكرة بطعنة نجلاء في قلبها الذي تعلق بهذا الرجل دون وجه حق، ودون أن تسأل عن مشاعره هو، فربما تعلقت مشاعره بهاجر أو سماح، سماح، تلك التي سافر من أجلها، اعتصرت قلبها برودة قاسية، لتظهر تلك البرودة في صوتها وهي تقول:.
-احنا كويسين وللأسف هاجر خرجت ونست التليفون، لو حابب تكلمها يبقى هتستناها لما ترجع... قاطعها قائلا: -بس انا عايز أكلمك انتى. إزدادت خفقات قلبها، واضطربت بشدة من لهجته الحانية لتجلى صوتها الذي اختفى بداخلها قائلة باضطراب: -احمم، عايزنى أنا؟ قال مجد بهدوء: -سمر، قصدى مدام سمر، أنا كنت حابب بس أطمن على حالتك النفسية، يعنى حد ضايقك تانى برسايله أو يعنى...
صمت لا يدرى كيف يكمل جملته، يشعر بنار تحرق كيانه، ليستمع إلى صوتها وهي تقول: -الحقيقة أنا كويسة ومبقتش فيه رسايل بتيجى خلاص، الوضع تقريبا عادى، مفيش جديد.
هل يستشعر حنينا في صوتها، هل تفتقد تلك الرسائل، أم ربما تفتقد صاحبها؟سيجن قريبا من تساؤلاته المضنية، لاشك في ذلك، طال صمته ليشعر بتوترها الذي يصله عبر أنفاسها، تمنى لو ضم تلك الأنفاس بين ثنايا ثغره يحتويها بداخله، فروحه قد أرهقها الحنين، أفاق على صوتها وهي تقول: -أستاذ مجد. قال مجد في نفسه، (روحه)... ولكنه أجابها قائلا: -أيوة يامدام سمر، أنا معاكى. قالت في ارتباك: -فيه حاجة تانية عايز تسأل عنها؟
هي تريد أن تنهى المكالمة اذا، ليقول بهدوء حزين: -فاضل حاجة واحدة بس، تخلى بالك من نفسك، لا إله إلا الله. أجابته كالمغيبة: -محمد رسول الله. ثم كادت أن تغلق الهاتف، ولكن قبل أن تضغط بإصبعها على زر الإنهاء، وجدت نفسها تتوقف ثم تعيد السماعة إلى أذنها، لتسمع لهفته بداخل نبرات صوته وهو يقول: -سمر، مقفلتيش ليه؟ وجدت نفسها تردد بلا وعي: -مش هقفل قبل ما تقوللى. شعرت بنبراته تتهدج وهو يقول: -أقولك إيه؟
مازالت تردد دون وعي: -بحبك ياقلبى، بحبك ياعمرى، بحبك يادنيتى كلها. أفاقت من تلك الذكرى التي تملكتها لتتسع عيونها بصدمة وهي تقول: -أنا إيه اللى قلته ده، أستاذ مجد أنا آسفة، الظاهر انى كنت بعيش ذكرى حية من الماضى بتاعى. وجد صوته أخيرا ليقول: -ولا يهمك يامدام سمر، حصل خير. سمع نبراتها تتهدج بالبكاء وهي تقول: -لأ محصلش خير، أنا آسفة، آسفة بجد، سامحنى.
ثم أغلقت الهاتف بسرعة لينظر مجد إلى هاتفه يعتصره بين يديه، يشعر بقلبه يتمزق ألما، وبأنفاسه تخرج بصعوبة، ليأخذ نفسا عميقا قبل أن يطلق سراحه ويطلق السراح أيضا لدموعه تلك التي تقبع حبيسة مقلتيه، تإن للخروج.
كان يطالع ضحكتها الرنانة بنظرات هائمة، نعم، لقد عادت إليها ضحكاتها، وظهرت غمازتيها من جديد، هنا في أرض الملاهى وهي تلهو كالأطفال، وجد نفسه يبتسم رغما عنه، يشعر بقلبه يطير فرحا، لقد استطاع أن ينسيها ماحدث، إستطاع ان يمحو ذلك الألم من ملامحها وتلك العبرات من عيونها التي في لون العسل النقي، لم يعد يخشى الوقوع في الحب فهي تختلف، تستحق ذلك القلب الذي أحاطه بالأسوار ليحميه، يثق بأنها ليست كهؤلاء الفتيات المدعيات للفضيلة ثم يكتشف في نهاية الأمر أنهن حيات مخادعات، ما إن تأمن لهم حتى يلدغن في مقتل...
وجدها تسرع إلى هذا السور الحديدى تستند عليه بكلتا يديها، ترفع رأسها للوراء وتأخذ نفسا عميقا، تقول بسعادة: -يااه، مبسوطة أوى، ملعبتش بالشكل ده من سنين. اقترب منها يقف بجوارها لتلتفت إليه بوجهها قائلة: -تقريبا من تانية إعدادى، بعدها ركزت في دراستى عشان أجيب مجموع عالى يدخلنى ثانوية عامة وبعدين ركزت أكتر عشان أجيب مجموع كلية الطب، وهكذا، إبتسم قائلا: -أنا كمان. إبتسمت وهي تميل بوجهها قائلة:.
-إيه، ملعبتش برده من زمان؟ هز رأسه نفيا وهو يقول: -لأ، لعبت، بس أول مرة احس إنى مبسوط بالشكل ده. نظرت إلى عينيه، تغرق في سحرهما، ويغرق بدوره في سحر مقلتيها، كان هو أول من أشاح بوجهه ناظرا إلى محيطه بإرتباك، قائلا: -الحياة حلوة للى يفهمها. قالت بإبتسامة مازحة: -يعنى بتحب فريد الأطرش ويوسف السباعى؟، كدة كتير على قلبى، إرحمنى ياحسن. مزاحها يغمر قلبه بسعادة لا توصف، ليقول بإبتسامة واسعة وهو ينظر إلى الأمام:.
إحتبست أنفاسها وتسارعت دقات قلبها مع إرتفاع حرارة جسدها بالكامل، وهو يستند بدوره بيديه على السور فوضع يده اليمنى على يدها اليسرى دون قصد، ليسرى تيارا كهربيا في جسده بالكامل، إلتفت ناظرا إليها، لتنظر إليها بدوره ويتوقف الزمن، في تلك اللحظة، ليظلا هكذا، كل منها يغوص في مشاعر الآخر، يتعمق بها، ففى عيونهم ربضت مشاعرهم وظهرت واضحة، أفاق حسن من مشاعره، يدرك بكل كيانه أنه إن لم يبتعد عنها الآن فسيميل ويقبل شفتيها دون تردد، فمشاعره تقوده الآن إليها وبكل قوة، أبعد يده عنها وهو ينظر إلى ساعته قائلا:.
-إحمم، مش هنروح بقى. أخفت إرتباكها وخجلها وهي تقول: -لسة فاضل حاجة. عقد حاجبيه قائلا: -فاضل إيه بس؟ إبتسمت وهي تسرع صائحة: -لعبة الديسكفرى. إبتسم رغما عنه فمحبوبته طفلة تهوى المخاطر، حسنا، هو لا يخشى المخاطر، بل يعشقها.
نشتاق لأحبتنا، لمن أبعدهم القدر عنا، نشتاق لضحكاتهم، لأنفاسهم، لتلك الأوقات التي كنا فيها سعداء فقط بوجودهم إلى جوارنا، حين يختفى طيفهم رويدا رويدا من حياتنا، نصاب بغصة في حلوقنا، وتجثم المرارة على صدورنا، وتفرغ قلوبنا، لنشعر فقط بالألم والخواء حين نشتاق لأحبتنا، نحن إلى الماضى، يمزقنا الفراق ونسقط صرعى الأمنيات المستحيلة.
فقط نتمنى لو يعود الزمن فيعودون لأحضاننا، نتمنى لو نغير الماضى ونرسم حاضر جديد ومستقبل هم كيانه نتمنى المستحيل، ونعلم بإستحالته ولكن ما باليد حيلة، فقلوبنا تشتاق رغما عنا.
تردد للحظة وهو يمسك مفتاح شقته، يخشى الدلوف إليها، فمنذ هذا اليوم الحزين وهو لم يطأها بقدمه، أغمض عينيه وأخذ نفسا عميقا ثم فتح الباب، والجا إليها بخطوات بطيئة، أنارها يتأمل جنباتها ببطئ، إنها كما يتذكرها تماما، منظمة، رقيقة كصاحبتها، مغبرة قليلا ولكنها تبدو كما لو لم يتركها أبدا، كم كانت حبيبته ربة منزل من الطراز الأول وكم إشتاق لرائحة طعامها الشهي، والتي كان المنزل يعبق بها عند عودته من العمل، كم كان غافلا عن أبسط الأمور التي تفعلها فلم يشعر بها، فقط حين رحلت، إفتقدها وإفتقد كل تلك النعم التي أسبغها عليه وجودها في حياته،.
إتجه إلى حجرتهما معا، دلف إليها، تراءت له صورتها وهي متمددة على السرير، ترتدى نظارتها وتستند إلى وسادتها تطالع كتابها المفضل في إنتظاره كعادتها، وما إن رأته حتى إبتسمت لتخلع عنها نظارتها وتترك كتابها من يدها هارعة إليه تحتضنه، فتح ذراعيه يتلقفها بينهما، فاحتضن الفراغ وضاعت الذكرى، غشيت عيونه الدموع، حقا كم هو صعب أن تشتاق إلى ماض لن يعود، مجبرون على النسيان ولكن شوقنا يمنعنا بكل ما أوتي من قوة.
إقترب من خزانة الملابس، يفتحها، يتنقل بين فساتينها، أمسك فستانها الأحمر، يضمه إلى صدره، يستنشق عطرها الذي مازال رابضا به، هذا الفستان الذي إرتدته له في آخر عيد زواج لهما وظلت تنتظره كثيرا فتأخر كعادته، وعندما عاد، وجد آثار الإحتفال في طاولة رومانسية، وشموع أطفأها الإهمال، وإمرأة تنام وحدها في سريرها، بفستانها ومظهرها الرائع، تنام وهي تحضن صورته، يفسد هذا المشهد الخلاب آثار دموعها الباقية على وجنتيها وبين أهدابها، يفسد مظهرها إهمال زوج نسي عيد زواجهما كما نسي عيد ميلادها بالسابق ونسي أيضا في خضم إنشغاله كيف يسعد إمرأة وعدها بأن لا تنام عيونها دامعة أبد الدهر، فنامت ليال كثر بدموع تنهمر كالمطر...
إتجه إلى السرير ينام عليه في وضع الجنين، ويضم الفستان إلى صدره، يتمنى لو كانت هي من يضم، ولكن هيهات، فأمانيه مستحيلة ورغباته إلى زوال. لتنزل دموعه قائلا بندم: -سامحينى ياحبيبتى، سامحينى على كل لحظة مكنتش معاكى فيها، على كل لحظة مقدرتش نعمة ربنا علية لما هدانى بيكى، سامحينى لإنى قصرت كتير في حقك، بس وعد منى،.
وعد منى مكررش غلطتى دى تانى، وعد منى أحط حبيبتى في عينى وأعمل بوصية رسولى لما قال رفقا بالقوارير. ليغمض عينيه ويستسلم لسبات عميق، ربما جاءته حبيبته في أحلامه تماما كما كانت، عاشقة محبة ورائعة التفاصيل، إنها زوجته التي ستظل في قلبه إلى الأبد، حبيبته زوزا.
كانت تجلس في سريرها، تتفحص الانترنت بملل، لقد عادت هاجر منذ قليل، وكأنها فتاة أخرى، مليئة بالحيوية والسعادة، ظلت تدور بها بمرح، حتى أصابهما الإنهاك سويا، لتحكى لها عن لحظات رائعة قضتها بصحبة حسن بالملاهى، ثم إنسحبت لغرفتها بهدوء، بعد أن إنتابها النعاس، بينما سمر مازالت متيقظة...
لم تدرى ماذا تفعل لتدلف إلى حجرتها، تتصفح الإنترنت تأمل في أن تنام بدورها وتتوقف عن التفكير، فإكتشافها اليوم كان معقدا للغاية ومؤلما في الوقت ذاته، فكلماتها التي وجهتها لمجد دون وعي منها أثبتت لها أنها كانت تعشق زوجها بجنون، فهل مازالت تعشقه، هل هذا القلب بداخلها مازالت تخصه به؟
ربما مشاعرها تجاه ذلك الغريب الذي يبعث لها الرسائل باتت مفهومة لديها فهي موقنة من أنه زوجها الذي تكن له المشاعر ويكن لها بدوره مشاعره، رغم أنها تتساءل بحيرة عن سبب بعده عنها، وعدم اقترابه منها، يكتفى فقط برسائل يبعثها يبثها فيها حبه، لماذا يخشى الإقتراب منها إلى هذه الدرجة، ماذا فعل بها؟
وفي نفس الوقت، بماذا تفسر هذا الشعور بداخلها تجاه مجد؟والذي ينمو كل يوم؟بم تفسر توقها إليه رغم أنها بالكاد تعرف عنه شيئا، بعض سماته لا غير، انتفضت على صوت رسالة وصلت إليها، أسرعت بفتحها، لتجدها بالفعل منه، جرت عيناها على سطورها، تبعث فيها كلماتها شعور غريب بالإشتياق، الإشتياق لطيف، لشبح، لا تعرف ملامحه ولكنها فقط تدرك كلماته التي يصلها فيها عشقه الكامن بين الأحرف، كان في رسالته يقول،.
وتيني، نبضي الساكن فيه، دمائي التي تسرى في شراييني، ربما تدركين الآن أننى لست بغريب عنك مطلقا، بل أنا أقرب الناس إليك، لطالما امتزجت أرواحنا وأنفاسنا سويا، ربما تدركين أننى زوجك العاشق لك حتى الموت، ربما تدركين الآن أنك من تحتلين وجدانى، وربما تتساءلين أيضا... إن كنت عاشقا فما يبعد العاشق عن معشوقته؟ إن كنتى روحى فلماذا فارقت الروح الجسد؟ ان كنتى نبضى فكيف فقدت الحياة طواعية؟ إجابتى لكل أسئلتك واحدة...
من أجلك أنت... من أجلك فارقتك ومن أجلى عدت، ربما لم أشعر أنى قربك كما أشعر الآن وربما لم تشعرين أنى حدك كما تشعرين الآن دعينى أذكرك بما كان بيننا... لم أكن بجوارك قط، سامحيني، جسدا ربما لكن غاب تكويني، لم أسمعك وكم ظللتى تحاكيني، تطلبين اهتمامي، تبغيني، شغلتنى امور الحياة عنك ولم تشتكيني، لم اظن يوما انك قد تتركيني، اتخذتك امرا مسلما به، وها انا ذا أعض الأنامل ندما، أتمنى لو عاد بي الزمن...
فأصلح أخطائي معك ولكن الزمن لايعود وماحدث لاينسى ولكن من فضل الله نسيتيه ولكن ياللأسف نسيتينى، ما حدث بيننا كان ذنبى، وحقا الذنب يضنينى، ربما منحنى الله فرصة أخرى لأكفر عن ذنبى، ولكن حتى تصفحين عني، حتى تمنحينى الإذن بالدخول إلى حياتك مجددا، سأظل القريب البعيد، سأظل أنا ها هنا يامولاتى، في إنتظار عفوك المطلق عن عاشق متعبد في محرابك، لن ييأس او يمل حتى يحصل على الغفران...
فقط عندما تجدينه في قلبك، ابعثى لى برسالة وستجديننى أمامك على الفور، ليضمنا واقع خلاب بعد أن ظللتى حلم يراودنى طويلا، طويلا جدا. فيا سيِّدتي لا تَضطربي مثلَ الطّائرِ في زَمَن الأعياد لَن يتغيّرَ شيءٌ منّي لن يتوقّفَ نهرُ الحبِّ عن الجريان لن يتوقّف نَبضُ القلبِ عن الخفقان لن يتوقّف خجَلُ الشعرِ عن الطيرانْ حين يكون الحبُ كبيراً و المحبوبة قمراً لن يتحوّل هذا الحُبُّ لحزمَة قَشٍّ تأكلها النيران ز ا م.
تنهدت، هو زوجها نعم، تفوح رسالته بالعشق، تحمل في نهايتها اقتباسا من شاعرها المفضل نزار قبانى، نعم هو، من يعرف ادق تفاصيلها ويدرك أعمق اسرارها، تدرك أن ابتعاده لسبب جلل، ولكنها ستسامحه، ربما يجب ان تسامحه، ربما اخطأ بحقها في الماضى ولكن من منا لا يخطئ، ربما يجب أن تترك الماضى وشأنه، فيبدو أنه قد أدرك أخطاءه وقرر إصلاحها، ربما وجب أن تمنحه تلك الفرصة وتترك كل الآلام منسية، ولكن ماذا عن مجد؟
يجب أن تنساه وكأنه طيف جميل مر بحياتها وآن له أن يختفى، للأبد، ورغم الغصة في حلقها والألم الناتج عن تلك الفكرة إلا أنها توقن في اعماقها أنه القرار الصحيح، تماما.
كان يوسف يدلف إلى المنزل حين إستمع إلى صوت زوجته ماجى وهي تقول بحدة: -انا لما أقول لأ ياياسمين، يبقى لأ، إتجه إلى حجرة المكتب بسرعة وهو يسمع صوت ابنته التي قالت بحدة بدورها: -لأ ليه يامامى، ادينى سبب واحد لرفضك. تدخل يوسف قائلا: -جيسى، اعتذرى من مامى حالا على صوتك العالى ده أدامها. نظرت إليه ياسمين بغضب لثانية قبل أن تلين ملامحها قائلة بندم: -آسفة يامامى،.
رمقتها ماجى بحنق دون ان تتحدث، ليقف يوسف بالنصف قائلا: -ممكن افهم فيه إيه بالظبط وإيه الحاجة اللى رافضاها ياماجى ومعصباكى بالشكل ده؟ قالت ماجى بعصبية: -الهانم عايزة تروح مع بيرى الكامب بتاع المدرسة، وانا رفضت. قالت ياسمين: -طب اشمعنى عمى رائف وافق على ان بيرى تروح؟ قالت ماجى بحدة: -أنا مليش دعوة بحد، مفهوم. قال يوسف بهدوء:.
-خلاص ياجيسى، سيبى الموضوع ده نتناقش فيه أنا ومامى وأوعدك بإن قرارنا يكون في مصلحتك بإذن الله. ظهرت الفرحة على ملامح ياسمين، لترسل له قبلة هوائية قبل ان تقول: -ميرسيه يابابى، هروح اكلم بيرى واقولها انى هروح معاها. ثم أسرعت مغادرة لتقول ماجى بحدة: -شايف بنتك؟ اقترب يوسف منها يتطلع إلى عينيها قائلا: -ممكن تهدى شوية عشان نتفاهم. رمقته بحنق دون ان تنطق بكلمة، ليستطرد قائلا:.
-ايه اللى معصبك بالشكل ده؟مش معقول موضوع الكامب هو اللى معصبك كدة، دى مش أول مرة بنتنا تروح الكامب، ولا هتكون آخر مرة. تنهدت ماجى وهي تواليه ظهرها قائلة: -معاك حق. إقترب منها يوسف يضمها إليه، يضم خصرها بذراعيه، ويستند على كتفها بذقنه قائلا: -طب ليه حاسس إن ورا عصبيتك دى سماح صاحبتك والأزمة اللى بتمر بيها. أغمضت عيونها قائلة:.
-لإن دى الحقيقة يايوسف، سماح في أزمة وأنا مش قادرة أكون جنبها بسبب شغلك، وانك مش قادر تسيبه وتسافر معايا ولا راضى كمان أسافر لوحدى. قبل جيدها بنعومة قائلا: -لإنى بخاف عليكى من الهوا الطاير مش هقدر أسيبك تسافرى لوحدك، هكون قلقان عليكى ياماجى، إلتفتت تواجهه قائلة: -بس انا مش طفلة يايوسف، بطل تعاملنى على انى طفلة. نظر إلى عمق عينيها قائلا: -بس انتى طفلة ياماجى، طفلتى أنا، اللى بخاف عليها حتى من نفسى.
تركت يده وتعلقت برقبته قائلة: -بجد يايوسف؟ إبتسم يوسف مقبلا اياها قبلة خفيفة على فمها قائلا: -بجد ياقلب يوسف. ظهر الخجل على وجهها وهي تضغط على شفتها السفلى، لتبتعد عنه قائلة: -أنا، هروح بقى عشان أصالح جيسى. أمسك ذراعها يعيدها إلى مكانها بين محيط ذراعيه قائلا: -مش وقت جيسى خالص على فكرة، الوقت ده وقتى أنا، وقت يوسف حبيبك وبس. ليميل مقبلا شفتيها بنعومة لتستسلم لمشاعرها التي تتوق إليه، بقوة.
وقفت سماح تطالع تلك البناية التي شهدت على ربيع عمرها، ريعان شبابها، تلك البناية التي بدأت فيها قصة حب وبها انتهت إلى الأبد، وقفت سماح تطالع كل ما ترمز إليه تلك البناية بعيون تغشاها الدموع، تطالع ضعفها، قلة حيلتها، امتهانها، وهدر كرامتها، تطالع آمالا قضي عليها، وأحلاما أضحت كابوسا، وقلب انفطر بقوة تطالع ماضيها لآخر مرة، وتنظر إلى حاضرها بتمهل...
تدرك أنها منذ تلك اللحظة لن تفكر بالماضى بل ستتمسك بالحاضر وتسعى للمستقبل بكل قوة، لن تضعف مجددا، لن تستسلم للحزن، ستصنع من ضعفها قوة ومن آلامها إيمانا، نعم إنها تؤمن، تؤمن بأن القادم أفضل وأن الآتى في صالحها، فما خلقها الله إلا لتكرم وماكتب عليها الجرح، بل انه من صنع البشر، والبشر زائلون، وكما تشعر بإنكسارها الآن، يجعلها إيمانها تدرك أنها بعون الله وعطفه عليها، سَتُجْبَر.
وضعت يدها على قلبها المكسور تغمض عيناها مبتهلة بهمس: -أجبر قلبى يارب. ثم فتحت عيونها، لتضع نظارتها الشمسية وتدلف إلى السيارة بثقة، ليقود مجد سيارته بإتجاه الإسكندرية، بإتجاه فرصتهم الأخرى بالحياة.