رواية على الرقاب قدر نافذ للكاتبة شاهندة الفصل السادس والعشرون
الحياة مليئة بالمفاجآت، المتعودون على الرتابة عليهم معرفة أن القدر لن يترك حجرا ثابتا في حياتهم إلا ويقلبه، بعضها لطيف وبعضها مخيف، بعضها نتحمله والآخر نتداعى له، الصامدون هم من وجدوا ثغرات تمكنهم من الحياة بمرونة.. لاتكن تقليديا في مواجهة التحديات، تغيّر وستحيا!
لو أحدهم أخبر ميران قبل موسم فقط أنه سيعيش كل هذه الأحداث المعقدة، لن يصدقه! الآن وقد أصبح يتخبط في مشاكله التي لا ذنب له فيها سوى أنه رضي بها، لم يكن سببا في هروب (بدارة) فلما أرغم على الزواج منها؟ ولم يكن سببا في خطيئة (نوار) فلما أرغم على الزواج منها؟ و (فدوى) القريبة منه بمسافة كلمة والبعيدة عنه بذات مسافة كلمة لما هو مجبور على هجرها؟
أفاق من أفكاره على صوت يناديه فأوقف حصانه يرى هذا المهرول تجاهه توقف أمامه يلتقط أنفاسه المتقطعة قبل أن يقول: -كيفك ياسي مهران؟ قال (مهران): -الحمد لله يامحروس، كيفك إنت وكيف بتك، إن شاء الله بخير؟ أجابه (محروس) بامتنان: -بجت زينة الحمد لله، كله بفضل الحاج عسران لولا الداكتور اللي بعتني ليه وعلاجها على حسابه كان فاتها راحت مني. قال (مهران): -متجولش إكده ياراجل ياطيب الفضل لله من جبل ومن بعد. قال:.
-الحمد لله على كل حال. ثم طالعه بتردد، فسأله (مهران): -فيه حاجة يامحروس؟ قال (محروس) بإرتباك: - ولد عمي جالي إنه شاف الحاج عسران خارج من المركز موخر إمبارحة كنت عاوز أطمن عليه، هو فيه حاجة ياسي مهران؟ المركز! أثار دهشته هذا الخبر ومازاد حيرته تكتم والده وهذا يعني أن هناك مايحدث لايريد مشاركته معه.. أفاق على صوت (محروس) وهو يقول: -سي مهران سرحت فى إيه؟ ليكون في مشكلة؟! قال (مهران):.
-بخير يامحروس متجلجش، حاجة بسيطة إكده تنسيج وإدارة أمن بين بلدنا والبلاد المجاورة ليها لكنهم إتوخروا شوي على ماخلصوا. ظهر الإرتياح على وجه (محروس) وهو يقول: -طب الحمد لله إبجى سلملي عليه ياسي مهران. -يوصل يامحروس، الله معاك! نهر حصانه فركض به بإتجاه مخفر الشرطة حيث شعر (مهران) برغبة ملحة في معرفة ما أخفاه عنه والده.
عاد (عزام) إلى البيت بعد ليلة طويلة منهك ضيق البال فصاح ينادي: -يافضيلة!، إنتي ياولية! لم تجبه وهي التي كانت تهرع إليه فور دخوله البيت مرحبة مهللة فأعاد النداء مرة ثانية مستغربا أمرها: -يافضيلة! همي ياحرمة هفضل أنادم طول اليوم إياك؟! ظهرت (جمالات) تهرول تجاهه قائلة: -خير ياسي عزام؟ -فينها ستك فضيلة؟ قالت (جمالات) متوجسة: -راحت دوار الحاج همام الله يرحمه إمبارحة، إنت معنديكش خبر ولا إيه؟
إذا نفذت تهديدها وغادرت إلى بيت أبيها! حسنا لا يهم، سيريها أنها قامت بخطأ سيكلفها حياتها برفقته، سيتركها في دار والدها ولن يسأل عنها، أفاق من أفكاره على صوت الخادمة المتوتر وهي تنادي بإسمه قائلة: -سي عزام، ياسي عزام! طالعها بحدة قائلا: -خابر يا جمالات بس نسيت تعالي طلعيلي غيار عشان خارج، وحضريلي لجمة ع السريع، ماكلتش حاجة من امبارح. تقدمت تجاهه فقال يستحثها: -شهلي ياولية اليوم هيخلص عاد.
هرولت أمامه بإرتباك فآخر ماترغبه هو خدمة سيدها هذا ضيق الخلق، وحدها السيدة (فضيلة) من كانت تتحمل طبعه النزق ومزاجيته وتعرف كيف ترضيه.
غالبا ما تكون بعض الحقائق مؤلمة، اكتشافها ثقل يحطم القلوب، ما يحمينا منها لجم فضولنا للتنقيب عنها أو إنكارها حتى نستطيع الانتصاب ب-حيل- متماسك.. قال (مهران) بصدمة: -إنت بتجول إيه ياحضرة الظابط؟! قال الضابط بهدوء:.
-كيف ماسمعت يامهران بيه والدك كان إهنه هو وحماك يشهدوا على توفيج وولده بتهمة جتل السيدة حسنة الجبالي، والحجيجة طلبوا مني التكتم على الموضوع وإن الإجراءات تتم بسرية وبعيد عن البلد إهنه عشان متجومش حريجة من تاني بين الهوارية والجبالية، وأني بالفعل جمت النهاردة الصبح بترحيل المتهمين لمديرية أمن أسوان واتوصيت فيهم. قال (مهران): -وعيشهدوا على أساس إيه بالظبط؟ قال (الضابط):.
-المتهمين إعترفوا على نفسيهم ومعانا تسجيل بكلامهم، ده غير شهادة نجلة الضحية واللي شهدت بإنها سمعتهم يتحدتوا عن جتل والدتها في روما ونيتهم لجتلها وسرجة مالها هي كمان غير توريطها في صفقات مشبوهة وكل موثق في أوراق قدرت تاخد نسخ منها، عشان إكده هربت وجت على إهنه تتحامى في أهلها. استقام من جلسته وهو يحدق في الظابط بصدمة فواصل حديثه قائلا:.
-الحقيقة الآنسة فدوى إتصرفت صوح برجوعها البلد، فكرت بعقلانية وخلت خالها يسلم المجرمين رغم كانوا يقدرو ياخدوا تارهم بأديهم، ليها كل الاحترام والتقدير. هز (مهران) رأسه وهو يقول كما لو كانت الكلمات تخرج منه دون وعي: -وإيه الوضع دلوك ياحضرة الظابط؟ قال الضابط:.
-دلوك هما هيتعرضو على النيابة عشان تاخد أقوالهم وبكرة أكيد هيستدعوا والدك وحماك والآنسة فدوى عشان ياخدوا شهادتهم هما كمان في الجضية لكن ماتملوش إيدكم لأن الجريمة ماحصولتش إهنا بالبلد وهما التانين عندهم جنسية إيطالية عنشوف السفارة، لو مطلوبين اهناك يبجى نسلمهم بس لازم ترجع الانسة فدوى اهناك وتعمل بلاغ وتقدم الأدلة اللي معاها وإلا كنها ماعملتش حاجة، كل اللي أجدر أعمله إن أطول مسار الإجراءات على قد ماقدر عشان مايطلعوش من اهنه غير مترحالين على بلادهم.
أومأ (مهران) برأسه ثم غادر بسرعة بعد أن صافح الظابط وشكره فإرتطم بالمخبر (مصيلحي) الذي أعتذر منه بارتباك وكاد أن يغادر لولا أن لمح ذلك الخاتم بيده ليمسكه من تلابيبه قائلا: -تعالى إهنه يانطع أنت، جبت الخاتم بتاعي ده منين فى يومك الطين اللي زي وشك؟ أجابه (مصيلحي) بتوتر وهو يلتفت يمنة ويسره قائلا: -هملني بس ياسي مهران وأني عجولك.
تركه (مهران) فأشار له (مصيلحي) أن يتقدم قليلا ثم خلع عنه الخاتم ومنحه إياه قائلا: -أني لجيته حدا حرمة إهنه في الكفر، بس أحب على يدك متسألنيش هي مين، أني مناجصش مصايب. أخذ الخاتم وهو يقول هادرا بغضب: -هتجول إسمها ولا ادخل للظابط بتاعك وأبلغ عنيك بتهمة سرجته ياحزين. قال (مصيلحي) بهلع:.
-لع أحب على يدك عجول أهه، لجيته حدا الشيخة عوالي، وجع منيها فخدته من غير ماتحس لو عرفت أني خدته هتجطع خبري زي ماعملت فى مرزوج. عقد (مهران) حاجبيه وهذا الإسم يتردد صداه بقوة في عقله، أليست (عوالي) تلك من إتهمت عمته (زبيدة) بقتل ولدها؟ماذا تريد منه تلك المرأة ومن عائلته، وكيف وصل خاتمه إليها؟ قطع حبل أفكاره صوت (مصيلحي) يقول:.
-أحب على يدك يامهران بيه متجيبش سيرتي وياها دي شيخة جادرة جوي وآني خايف منيها، هملني أمشي مش عرفتك اللي عايز تعرفه! قال (مهران) بصرامة: -غور من وشي الله يحرجك انتي واللي زيك!
غادر بسرعة وكأن شياطين الدنيا خلفه فغادر (مهران) بدوره يحمل بقلبه ثقل الحقيقة التي أخفتها (فدوى) عنه، سار هائما على وجهه لايدري أين يتجه، إمتطى حصانه متجها إلى كفر الجبالية لقد حان وقت المواجهة وكشف الحقائق، بداخله مزيج من المشاعر المتضاربة بين غضب وخيبة و، بعض الراحة.
أرقى شعور يحمله المرء هو التسامح فإنه يشفى الروح ويعيد إليها سجيتها النقيّة، يقولون أكتب الإساءة على الرمال عسى ريح التسامح تمحيها وإنحت المعروف على الصخر حيث لا يمكن لأشد العواصف أن تمحيه استعادت نفسها بعد أن أيقظتها صفعة القدر جزاء أخطاءها التي دفعت هي وإبنتها ثمنا باهظا لها، اقتربت من الله وتابت إليه توبة نصوح..
كانت تجلس في ردهة منزلها تمسك المصحف وترتل أياته حين طرق الباب فصدقت ثم توجهت نحوه وفتحته لتجد أمامها: -ثريا! قالتها بدهشة فإبتسمت (ثريا) وقالت بلطف: - سلام عليكم يازبيدة، هتهمليني واجفة إهنا عاد؟! أفسحت لها الطريق وهي ترد السلام ثم أردفت: - إتفضلي ياخيّتي، بيتك وموطرحك، أول مرة تاجي داري مش مصدجة عيوني. دلفت (ثريا) ووقفت أمامها قائلة:.
-غلطة مني وآن الأوان أصلحها، لازمن نخلي الماضي ورا ضهرنا وننساه عشان ترجع جلوبنا على بعض. أطرقت (زبيدة) برأسها قائلة:.
-يعني إنتي نسيتي كل اللي عمالته فيكي ياثريا؟ نسيتي إني كنت السبب في إن عسران يمد يده عليكي لأول مرة لما شافني برا البيت لابسة شالك ففكرك خرجتي من غير إذنه وأني أكدتله إنك إنتي عشان كنت بجابل عباس رغم أنه حذرني ومنعني اجابله، والمرات اللي بعدها واللي ضربك فيهم بسبب خناجتنا وأني بتبلى عليكي، نسيتي أذية عمر بحاله يابت عمي. قالت (ثريا):.
-جيت إهنه حاملة جلبي صافي يجولك إنى نسيت كل حاجة يازبيدة! أني عاوزة أبدأ معاكي صفحة جديدة، إمبارحة جيتيلي في المنام وكنتي واجعة في بير غويط مضلم ومجدرتش انجدك، وجفت متسمرة حداكي من غير مااعمل حاجة وفضل الصوت يصرخ في وداني مدي يدك ليها ياثريا متهمليهاش واصل، خليكي يمتها صحيت على آدان الفجر وأني جلبي واكلني عليكي، جررت أنسى وأمد يدي ليكي، إنتي بت عمي يازبيدة والدم عمره مايبجى ميه.
أغروقت عينا (زبيدة) بالدموع وهي تمسك يد (ثريا) قائلة: -سامحيني ياثريا برحمة أهلنا والدم اللي بيناتنا... عانقتها (ثريا) بحنان وهي تقول: - مسامحاكي ياخيتي احنا مالناش غير بعض حتى لو اختلفنا مش هنهون على بعض ياهبلة..
يلا همي بينا نروحوا لبتك اللي فرحتها مكسورة يانضري وأمها غايبة عنها يوم صباحيتها، همي نفرحوا نوار اللي نورت داري وصارت كنتي، واعملي حسابك من اليوم ورايح جعدتك هتكون معانا مش ههملك لوحدك بعد أكده..
أدركت (زبيدة) أن (ثريا) لاتعلم شيء مما فعلته في حقها وأذيتها للبنات و (مهران) فزاد بكائها وحدثتها نفسها أن تكون أنانية وتبقي الأمر سرا لاتستطيع أن تجازف باخبارها الآن وقد عادت المياه إلى مجاريها وصفيت القلوب، ربما يوما ما ستطلب صفحا آخر من أجل هذا.
وقف (مهران) على بعد بسيط من بيت الجبالي وقد ربط حصانه إلى جذع نخلة في الساحة الكبيرة للبيت، رفع هاتفه يحدث (ناتالي) وبعد قليل أتت للقائه فارتمى بين ذراعيها وقال: - أريد أن أراها، ساعديني رجاء ناتالي؟ ربتت على ظهره وهي تقول: -أتعلم؟ ما يسعدني حقا هو أنك قد عرفت الحقيقة أخيرا، فدوى تعذبت كثيرا وخافت كثيرا.. ابتعد عنها وسألها بتقرير: -كنت تعلمين إذا؟ فردت:.
-أخبرتني حين رأيتها في منزلكم بأسوان، كانت تحمل عبئا كبيرا بقلبها فأفضت به إلي وجعلتني أقسم ألا أخبرك، كل ما كان باستطاعتي فعله هو تحذيرك من ظلمها ولكنك لم تصغي وواصلت الشك بحبها لك. قال بحزن: - خيبتي كبيرة ناتالي، الحقيقة لم ترحني بقدر ما زادت جرح قلبي، كان بإمكانها أن تلجأ إلي لمساعدتها، كنت سأحميها من العالم كله، أ بهذا القدر لاتثق بي؟! ربتت على وجنته قائلة:.
- أنت عالمها ياصغيري، يكفيها أن تكون بخير حتى لو كنت بعيدا عنها، لو علم عمها بحبكما كان سيقتلك وكانت سترمي بنفسها من ذلك الجسر مجددا. جحظت عينا (مهران) وقال باستنكار: الجسر؟ مهلا! أتعلمين لمَ رمت بنفسها من الجسر ليلتها؟ أ كان السبب عمها؟ هل قاما بأذيتها هو وإبنه؟ توجهت ناتالي نحو الحصان تلاطفه تحاول أن تخفي نظرة الأسى بعينيها:.
سمعتهما يتحدثان عن مقتل والدتها وتخطيطهما لقتلها بعد زواجها من رحمان ونقلها جميع ممتلكاتها له، انهارت تماما، شعرت أنه لا أمان لها سوى بقرب والدتها فأرادت أن تذهب إليها.. شعر (مهران) أنه مع كل المعاناة التي كانت تكتمها كان يزيد من تعاستها وألامها.. جلس على الأرض الرطبة بثقل وهو يردد: مش هتسامحني، عمرها ماهتسامحني. أمسكت (ناتالي) وجنتيه وقالت وهي تنظر في عينيه:.
ستفعل! إنها عاشقة ياصغيري! تحدثا وأزيحا كل العوائق بينكما، لقد عشتما الكثير تستحقان بعض الهدنة! أرجوك إمنح نفسك مساحة لحبك الحقيقيّ، أعلم أنك رجل لإمرأتين كما أعلم أن ذلك لايشكل عائقا لحبكما الكبير، إن كانت قد استحملت كل شيء لتبقى بخير ستتحمل واجباتك وظروفك وتساعدك على حل مشاكلك.. اطلب منها الوقوف إلى جانبك، أطلب منها حبها ليصبح جزء من حياتك، اطلب صفحها وتسامحها..
هز رأسه وفي قلبه يزداد الأمل في أن يجتمع مع محبوبته و لايكاد يهنأ بهذه الراحة حتى تتبادر في ذهنه صورة (بدارة)، لما يشعر أن حبه لها بدأ يتساوى مع حبه ل (فدوى)؟ أيعقل أن يقف رجل على ذات القدر من الحب لإمرأتيّن؟ كلما شعر بانجذاب تجاه (فدوى) انتابه ضيق كأنه يتنزع ذلك من حق (بدارة) عليه.
عادت (ثريا) إلى البيت برفقة (زبيدة) التي يقتلها الندم من أفعالها السابقة تخجل من النظر في وجه أخيها وعائلته، كانت تدفع ساقيها إلى الداخل دفعا فظنت (ثريا) أن الأشياء التي تحملها بين يديها ثقيلة وجعلتها تبطيء الحركة فمدت يدها تسحب منها بعض الأكياس وهي تقول: هاتي عندك يازبيدة هنادم على راوية تطلعهم فوج..
وأخذت تنادي على (راوية) التي خرجت من المطبخ رفقة الخالة (حورية) التي ما أن رأت (زبيدة) حتى أطلقت عدة زغاريد ردد البيت صداها واخذت تقول: يامرحب يامرحب بستنا، جيتي فى وجتك، الفطور جاهز وكنت هطلعه لنوار وبما انك جيتي تعالي افطري وياها.. فقالت (ثريا تحث (زبيدة): روحي مع راوية وحورية يازبيدة وأنا هجهز أوضتك بنفسي وهخلي كامل وعواد ينقلوا كل اغراضك إهنه.. أومأت (زبيدة) ي (برأسها وسارت بصمت إلى الأعلى..
إستبدلت فستانها الأبيض بفستان الحداد الأسود، ضفائرها الطويلة بالكاد أصبحت خصلات تصل إلى مستوى دقنها ووجهها شاحب وعيناها محتقنتان منتفختان.. كانت مستلقية على الأرض منكمشة على نفسها، فتحت (راوية) الباب ولمحتها فعادت مرتبكة وقالت: هاتي الوكل عنك ياخالة حورية وانزلي شوفي أمي عتعمل إيه هلحجك طوالي، لازم نسيب العروسة مع امها اكيد وحشتها..
لم يرق ذلك (حورية) كثيرا لكنها ابتسمت بلطف وغادرتهما بينما دخلت (راوية) و (زبيدة) إلى غرفة (نوار) واقتربا منها بفزع لأمرها.. نوار اااا، نوااار! اخذت (راوية) تنادي باسم (نوار) بقلق بينما أمها تطالعها بشفقه وهي تمرر يدها على رأسها ثم قالت تخاطب (راوية): هملينا بروحنا ياراوية! فقالت (راوية) بحيرة: كيف أهملكم ياعمتي، إنتي مش شايفة حالتها و كيف عملت فى روحها؟ قالت (زبيدة):.
اسمعي كلامي ياراوية من غير مناهدة عاد، انزلي وماتجبيش سيرة لحد. امتثلت (راوية) لطلب عمتها بقلة حيلة بينما رفعت (زبيدة) رأس (نوار) على ركبتها وأخذت تقول وهي تربت على شعرها: ماتعمليش فى روحك إكده يابتي! الميت الله يرحمه ويغفر له الحزن معيرجعوش ولا الحداد، لازمن تبجي جوية لأجل ضناكي، جومي يانوارتي، جومي يابت جلبي ماتحسرنيش عليكي..
قالت (زبيدة) الكثير ولازالت تقول لكن (نوار) كانت جامدة ربما كانت تستمع لكنها لم تصغ، فقدت كل مايربطها بالحياة لم تعد تستطيع المقاومة لم تعد تقو على الحركة ولم تعد تقو على لفظ الكلمات، إنها تركن إلى نفسها المحطمة التي ذبحتها الخيانة وأحرقها الفقد.
وهناك أشياء لانقدر قيمتها بالقرب منا إلا عندما نفقدها.. عاد (عزام) عصرا يشعر بإرهاق شديد رمى بنفسه على سريره دون أن يبدل ملابسه، ابتسم ونفسه تحدثه أن لو كانت (فضيلة) هنا لما سمحت له بالإستلقاء هكذا وستسمعه تذمرات كثيرة تجعله يفقد صوابه , أغمض عينيه وراح يتقلب بتعب اثقل اجفانه لكن النوم جفاه، رمى بغطاءه أرضا وهو يزفر بقوة.. الله ااا وبعدين بجى فى النوم الرخم ده؟
ثم عاد ليستلقي من جديد لكن تفكيره في (فضيلة) أقلق مضجعه.. وبعدين في الولية دي، لا هي حدي ولا هي بعيدة؟
ثم عاد ليستلقي مجددا وأغمض عينيه وشد الغطاء على رأسه فتذكرها وهي تنهره عن فعل ذلك أنت بتشخر ياعزام ماتغطيش راسك عتختنج واترمل على صغري فابتسم مجددا رغما عنه وأزاح الغطاء عن رأسه وواصل التحديق في السقف وهو يتذكر كلامها خد اشرب ينسون بعسل صوتك مبحوح شكلك واخد برد دوا وجع راس إيه اللي أجبهولك كل شوية ده، وخر راسك لورا هدلكه وتبجى زين، مارضاش جوزي يبجى مدمن دوا الناس تاكل وشي اجلع الجزمة برا ياعزام ماتخليش الضو والع ياعزام اجفل باب الدولاب ياعزام.
نهض كالملسوع من سريره يطالع مكانها وهو يشعر بالضيق قائلا: يامحروجة يافضيلة مش عتهنى بالنومة بسببك. شعر كما لو أن صوتها يتردد في كل مكان، فراغ مفزع يبتلعه.. يفتقد إهتمامها به وبكل مايفعل.. نظراتها تجاهه، ولمساتها الحانية وهي تمسد جيده حين يعود مرهقا من أعمال الأرض، كاليوم مثلا.. عجز عن التلذذ بطعامه..
هناك نوع من الغربة يشعر به داخل هذه الغرفة، جلس يسند رأسه بيده وكلمات فدوى تتقافز بباله فكر كويس عشان متخسرش ياعزام، مراتك ست طيبة وجميلة وبتحبك زي مابتقول، عصبية شويتين ومش واثقة من نفسها بس ده لإنها مش حاسة معاك بالأمان، جرب تديها الإحساس ده وهتلاقي واحدة تانية خالص، هتلاقي فيها اللي شدك لية جنب اللي أكيد حبيته فيها...
كانت ترى دواخله التي لم يراها هو، كانت تعرف أنه يحب زوجته دون أن يدري وأنه إن خسرها سيخسر ذلك الدفء والحنان اللذان غمرته بهما دوما، كان يحسد أخاه على علاقته بزوجته التي يظهر جمالها للجميع، أدرك أن من يزرع الحب والدفء يحصد جمال تلك الرابطة الأبدية، لم يزرع سوى قسوة ذهبت بكل المشاعر الجميلة أدراج الرياح، فأتى وقت الحصاد وإذا ثمار الحب غير ناضجة، افسدتها البرودة وأتلفها الصقيع، ولكن لم يفت الأوان بعد ربما ببعض الرعاية قد يصلح ماقد أفسده بسبب أنانيته و إهماله، لن ينام الليلة كما يبدو عليه ان يراجع حساباته ويدرك أخطاءه كي يصلحها.
رواية على الرقاب قدر نافذ للكاتبة شاهندة الفصل السابع والعشرون
أكداس الكآبة تجثم على صدري بقسوة، والحزن يسترخي في ممرات روحي، والليل يرسم لشحوبته ألف وطن تبدأ حدوده من عيناي، والحياة همست في مسامعي وأوصتني ألا أعوّل على الآخرين، وأن لا أعقد خط آمالي على سبل السراب. فمن نحاول الاحتفاظ بهم قدر استطاعتنا في حياتنا يتسربون منها ويتساقطون كقطرات الماء، كحبات المطر، مهما نحاول جمعها لا نستطيع! نتبلل بها ونزكم فحسب.
والآن! بعد أن خسرت كل شيء لم أعد أحلم بأي شيء، الهدوء هو كل ما أطمح إليه بعد أن انشطرت روحي بضياع كل شيء..
بينما كان (عزام) يحاول تفسير الفراغ الذي شكله غياب (فضيلة) كانت هي الأخرى تحاول إقناع نفسها أن مافعلته كان لابد منه للفت إنتباهه إليها ومع ذلك لم يطب لها البقاء في بيت والدها كأنه غريب عنها لاتنتمي إليه وراحت الظنون والتساؤلات تتناطح بخاطرها، نفضت عنها غطاءها ونهضت من سريرها تزفر بقوة لم يغمض لها جفن طوال الليل وهي تفكر بما يفعله (عزام) في غيابها..
شعرت بأنفاسها تضيق وهي تتساءل عن حاله وإن كان يشعر بالراحة، إن كان قد أكل وشرب، إن وجد ملابسه التي دائما ما لا يجدها وهي أمامه؟! وأهم سؤال كان يراودها هل أخطأت حين أخذت بنصيحة (فدوى) وستتسبب بخراب بيتها؟
تنهدت بحزن يعتصر قلبها ثم اقتربت من النافذة وفتحتها على مصرعيها فلطمتها على وجهها نسمة الفجر المنعشة علها تبرد قلبها المجروح، أجفلت لدقيقة وهي تحدق في طيف أسود يقف بجانب المدخل يرفع رأسه إلى نافذتها على ضوء الساحة الشحيح.. ضربت رأسها بخفة وتمتمت: - بجيتي تحلمي وانتي صاحية يابت همام، ادعي عليك بايه ياعزام وانت فيك كل العبر , عجبك أكده اهو اختليت وبجيت اتوهم.
فركت عينيها بقوة ثم نظرت مجددا لتجده يشق الساحة إلى باب البيت فقالت بدهشة: عزام! هرولت خارج غرفتها وفتحت الباب إلى الخارج فوجدته يقف هناك يرتجف من البرد فبصقت ما بفمها من أسئلة بوجهه وهي تلف حوله شالها الصوفي الثقيل: بتعمل إهنه الفجرية إيه عاد؟ لابس خفيف إكده ليه، عتمرض ياعزام وتفضل تئن زي العيل الصغير وتفضل تجول يافضيلة. يافضيلة، يافضيلة لحدن ماتفجع مرارتي؟
وبعدين واجف عندك ليه مبلم في الشباك ماكنت دخلت ده بردك بيت عمك؟ أما هو فبقي صامتا يطالعها بنصف ابتسامة لقد اشتاق فعلا لثرثرتها بدون فائدة، اشتاق إلى لهفتها عليه واهتمامها به، اشتاق إلى تذمرها، إشتاق إليها بكل تفاصيلها، انتفض على صوتها وهي تقول: هم بينا جوة اعملك سحلب تدفى، انت بتترجف من البرد، وشك ازرج ويديك اتجمدوا.. سحبته إلى الداخل فشد على يدها وقال:.
الدفى إنتي يافضيلة، أنا بدفى بيكي وما كنتش حاسس.. توقفت عن المسير والتفتت إليه كأنها لاتصدق ما تسمعه فأردف: هملتك كاتير حجك على راسي من فوج يابت عمي، غبتي يوم عني حياتي اتجمدت، كل حاجة حواليا مالهاشي جيمة ولا طعم أتاريكي إنتي اللي محلية دنيتي... أشارت بإصبعها إليها وقالت بدهشة واستنكار: أنى! إنت، تجصد، الحديث ده عني أنى ياعزام؟! سحبها نحوه وقال:.
أومال مين يعني؟أنى بجول الكلام ده لفضيلة بت عمي ومرتي وأم ولدي يجي بالسلامة بإذن الله.. أنى معرفشي كيف يتجال الكلام الحلو ولا الغزل، أنى بجول اللي فى جلبي واللي حاسه، طلعتي أغلى حاجة فى دنيتي يافضيلة.. كان منظر (فضيلة) يدعو للضحك وهي تحدق في وجهه ببلاهة كأنها لاتسمع مايقوله فأردف وهو يهزها: أباي عليكي ولية! جاية تنامي دلوك لما اتحلت عجدة لساني ياحرمة! رفعت يديها وكأنها تولول:.
ياختااااي وانا اللي جلت الراجل اتعدل، مالت على بختك يافضيلة.. دفعها (عزام) إلى داخل وهو يبتسم قائلا: جدامي على جوة، السحلب ماله، كنت شربت سحلب بلا وجع جلب، أنى اللي مالت على بختي يافضيلة وكلمة تاني هجعد بجلب الدار والطم واولول منك، جدامي! كانت (فضيلة) تمشي باتجاه المطبخ لاتسعها فرحة وهي تدعو ل (فدوى) في سرها لا تصدق أن زوجها بدأ يشعر بقيمة وجودها في حياته وهذا أكثر ما كانت تتمناه.
تنفس الصباح وتسللت أشعة الشمس الباهتة تنشر بعض الدفء، يبدو أن ربيع يحاول إثبات وجوده..
خرج (مهران) باكرا بالرغم من أنه لم ينم بعد ليلة تفكير طويلة خاصة بعد أن أخبرته (ناتالي) أن (فدوى) قد سافرت إلى روما برفقة (ناجي) من أجل الإدعاء على عمها وإبنه في قضية مقتل والدتها والجرائم الأخرى، لا يدري لما إنتابه الهلع من فكرة أنها ربما تستقر هناك ولن تعود مجددا، كان لابد أن يتحدثا قبل أن تسافر ولم يفعلا وهذا ما زاد من إنزعاجه، مكالمات كثيرة جرت بينه وبين (ناجي) يستفسر فيها عن تحركاتهما منذ أن وصلا روما وأخبره (ناجي) أنهما استقرا في فندق للراحة ثم يستأنفان ما جاءا من أجله..
قام (مهران) باتصالاته ودلهما على محام جيد يمكنه مساعدتهما كما دلهما على شخص في السفارة سيساعدهما أيضا، كما ألح على ضرورة عودتهما بسرعة إلى البلدة ومع ذلك بقي باله منشغلا وها قد أتى الصباح فوجد. شيء يشغله عن أمر (فدوى) إلى حين عودتها مساءا أو غدا... بطرقات سريعة على الباب جعلتها تهرول تجاهه قائلة وهي تفتحه: -عتخبط كدة ليه ياحزي... تجمدت في مكانها وهي تطالعه ثم أردفت بحذر: -إنت تبجى مين ياجدع إنت؟
أجابها بسخرية: -معجولة معتعرفيش الراجل اللي سرجتي الخاتم بتاعه؟ قالت بصدمة: -مهران! قال (مهران) وإبتسامته تتسع بسخرية: -عرفتيني أهه، جوليلي بجى سرجتي الخاتم ليه؟ تمالكت نفسها وعيناها تعكس مشاعر الحقد بداخلها وهي تقول: -أني مسرجتش حاجة. بضحكة مصطنعة قال (مهران): - لا ياشيخة! ده أنى يادوب جلت خاتم، جلتي مهران طوالى. ردت عليه بنفاذ صبر: -بجولك إيه ياإبن ثريا اني مفايجاش للعب العيال ده إحنا لسة الصبح والسمس...
قاطعها قائلا بغضب: -إتكلمي عدل يا ست و صحصحي أكده معايا وهاتي م الآخر، الخاتم بيعمل معاكي ايه وجبتيه كيف! هتجولي ههملك لحالك، تلفي ودوري وتكدبي هجيبلك الشرطة تاخدك بتهمة الشعوذة والدجل وفي بدل الشاهد مليون، هااا جلتي ايه؟ طالعته بغضب وقالت: -وياترى عتتهم عمتك كومان وياي ولا عتسيبها تفلت منيها؟ عقد (مهران) حاجبيه قائلا: -عمتي! صالحها إيه إياك؟ أخذت (عوالي) تدور حوله وهي تجيبه:.
-ماهي اللي جابتهولي، كانت رايداك تتجوز بتها وأهو حوصل. غضن حاجبه وقد شك في صدق كلامها فواصلت: -مش عارفة فيك إيه زيادة عن ولدي؟كانت رايداك لبتها ومرايداش ولدي مع إنكوا التانين ولاد عسران. احمر وجهه غضبا وقال: - بتتبلي على عمتي وأبوي ياولية ياجليلة ذمة... قاطعته قائلة:.
-إنت وولدي راجي الله يرحمه خوات، الفرج إنك إبن ثريا وهو إبن عوالي، جدك الله يجحمه موطرح ماراح غصب عليه يتجوز ثريا فهملني آني، أصل أبوك كان ناجص وجتها ما تغركش هيبته دلوك، بس معلاش! الأيام بينا وزي ما إتحرج جلبي على ولدي عحرج قلب أبوك عليك وعتشوف يامهران. أمسكها من ذراعها وراح يهزها كخرقة بالية وهو يقول: ده أنا لو جتلتك دلوك محدش عيجول حرام كانك حشرة واداست تحت الرجلين.. دفعته عنها بقوة وهي تقول:.
الحجيجة بتوجع لكن اسال ابوك عيجولك أن مش كدابة، راجي خيّك، أبوك خلاك تكتب على نوار عشان ولدها من ريحة راجي كأنه بيكفر عن ذنبه، اسال ابوك ياولد ثريا عن عوالي، العيلة اللي هملها ومحدش رحمها، اسال عمتك عن وجف حال خواتك وعن اللي حصل لبدارة وزهرة.. ماحدش احسن من حد ياولد الهوارة، أنا عوالي بنت خضرة مرة شينة وبجولها جدام الخلج مابدعيش الأصالة بس انتو... دوت ضحتها الساخرة وأردفت:.
انتو شياطين بحد ذاتها ياهوارة! السمس لو مهما غطاها الغيم هياجي يوم وتطلع حجيجتكم، عتظهر وبعدها ماحدش عيبص يمتكم وتطلع ريحتكم النتنة اللى عتخلي الخلج ينفرو منيكم.. غادر (مهران) بيتها الكريه تتملكه شياطين الغضب لا يكاد يرى أمامه وكلمات (عوالي) تنخر في رأسه كما تنخر الأرضّة الخشب..
إمتطى حصانه وانطلق بسرعة الريح فجأة صهل بقوة وإنتفض وكأنه يشعر بغضب صاحبه الذي نهره بركلة قوية تستحثه على الإسراع اكثر، ثم تمهل وقد شعر أنه قد أذاه في فورة غضبه هذه.. توقف و أمسك لجامه بقوة فهاج الحصان فبدأ (مهران) يلاطفه بحنان حتى هدأ ليملس على جيده قائلا:.
- كلاتهم بيطعنو فيا ياصاحبي، أصدج مين ولا مين؟ نفسي اصرخ بعلو صوتي وأجول الرحمة ياناس، أنى بني ادم من لحم ودم مش حديد أتحمل الخبط ده كلاتو على جلبي ودماغي، أحزن عليهم ولا على نفسي، أنا رجعت اهنه ليه كان بكفياني اتحمل وجع الجلب اهناك لكن دلوك كيف عتحمل كل المصايب دي! أنا شيلت شيلة موش جدي، ظهري انحنى ولسه بعافر، أجف على حيلي أجع بدفشة حجيجة ابوي وعمتي، طب هجوم كيف عاد! دلوك أشد يد مين تنجدني ولا اتسند على مين؟ أبص فى خلجتهم كيف؟
لازمن أروح من اهنه مابجاليش موطرح وسط الغش ده كلاته! ماعشيلش شيلة حد تاني هعيش لنفسي وكفاياني! يالا ياصاحبي، لازم نعاود الدار! انطلق الحصان عائدا إلى بيت الهوارة وبعد أن وصل (مهران) وضعه في الإسطبل ثم توجه إلى الداخل نحو غرفته مباشرة لكنه انحرف عن وجهته وقد رأى عمته تدخل إلى غرفة (نوار) فهجم على الغرفة بغضب وقال بدون مقدمات:.
عشان بتك تجعد في الاوضة دي كنتي هتجتلي زهرة وبدارة إنتي مابتخافيش من ربنا ياست انتي.. طالعته (زبيدة) بعيون منكسرة ولم تستطع التفوه بكلمة فأردف هو يطالع (نوار) الساهمة فأردف قائلا: أن شاء الله تكوني شريكتها انتي كومان! أعوذ بالله منيكم معندكومش ضمير ولا خوف من ربنا حسبي الله ونعم الوكيل فيكم.. بتك طالج. طالج، طالج! مهراان!!
صاحت (زبيده) بإسمه لكنه صفع الباب وراءه بغضب وغادر الغرفة دون أن ينظر إليهما فتوجه نحو غرفته حيث كانت (بدارة) مستلقية بتعب شديد يبدو واضحا على ملامحها ومع ذلك اعتدلت بصعوبة في جلستها وهي تقول: مالك يامهران داخل كيف العاصفة اكده! حمل حقيبة السفر وحقيبة ظهره ووضعهما على السرير وراح يأخذ ثيابه من الخزانة ويضعها بداخلهما بصمت فسألته من جديد: هتعمل ايه بالهدوم والشنطة دول؟ فأجابها باقتضاب: مسافر! مسافر؟!
رددت كلمته بتعجب، ثم أردفت: وأنى، أنى هاجي معاك؟ بقي سؤالها معلق فأدركت أن به خطب ما وبينما هما كذلك دخل والده وبرفقته (زبيدة) التي تتخفى وراءه، ليقول والده: اللي عملته غلط يامهران انت اتخطيتني وطلعت عن طوعي! ما إن لمح (مهران) عمته حتى صرخ بغضب: اطلعي برا جبل ماجتلك! مهراان! صرخ به والده بينما (بدارة) بقيت متسمرة مكانها فاقترب منها (مهران) وقال:.
كل اللي حصلك يابدارة بسبب الست اللي اهناك دى، اوعاكى تسامحيها، كل ماتشوفي شيبتك في المرايا حسبني عليها وادعي من كل جلبك ربنا يجحمها فى جهنم أبدا الآبدين! ضربت (بدارة) على صدرها وسألته بدهشة: السبب كيف!؟ قال بغضب: ساحرة! سحرتلك عشان بتها تاخد مكانك، بتها اللي عملت مصيبة مع ولد الحاج عسران فشيلني مصيبتهم اللي ماليش ذنب فيها مش إكده ولا لاه ياحاج عسران، ياكبير هوارة؟
لم يدر (مهران) الا والصفعة تدوي على خده ووالده يطالعه بشرر قائلا: لولا اني مجدر صدمتك كنت غضبت عليك دنيا وآخرة، عايز تغور من اهنا، غور بس اوعاك تحلم تاخد بدارة معاك هي كنتي ومكانها اهنه! أمسك (مهران) بحقيبته واتجه إلى الخارج ونار الخذلان تلتهب في روحه لكنه توقف وعاد باتجاه (بدارة) بعدما سمعها تترجى والده أن تذهب برفقته، وقف أمامها وأمسك يدها وقال:.
لو رجعت هرجع عشانك يابدري، هكلمك كل يوم واطمن عليكي كل يوم ماتزعليش أرجوكي، وعد مني ارجعلك! فقالت من بين دموعها: خد بالك من نفسك يامهران! قبل جبينها وغادر المكان دون أن يودع أمه حتى، غادر مكسور الخاطر مبعثر النفس لم يطلب تفسيرا للحقيقة التي اكتشفها ببساطة لم تكن اي كلمات بقوة كافية تجعل أمله يبقى.
رواية على الرقاب قدر نافذ للكاتبة شاهندة الفصل الثامن والعشرون
الألم يستحيل أن يقاس بكلمة حين تفقد الأم ولدها، اللون الأسود لايكون في لباسها فحسب وإنما سيتشح به قلبها وأيامها وذكرياتها وكل تفاصيلها..
الأم أم مهما كانت سيئة وهكذا كانت (عوالي) بالرغم من أنها فقدت انسانيتها بسبب الحقد إلا أن موت وحيدها جعل أيامها جحيما لا ينتهي، يحترق كبدها على غيابه، أصبحت أكثر هوسا من ذي قبل حتى بعدما قتلت (مرزوق) لم يهنأ لها عيش فأرادت أن تلوع عائلة الهوارة نفس لوعتها، عزمت أنت تحاول أذية (نوار) كي تبتز (عسران) بسلامتها مقابل الطفل الذي تحمله، طفل (راجي) الذي سيسكن ألامها، و الذي سيرد على قلبها ويكون خلف والده ومؤنسها..
نامت على هذه الفكرة لتراه في منامها.. كان يقف وسط لهيب مستعر يتصبب عرقا وجلده يتشقق كأنه حطب تآكل من النار، صرخت بأعلى صوتها وقد لفحتها الحرارة: -بعد ياراجي بعد ياولدي، النار عتحرجك! سمعت صوته الواهن يردد: - مجادرش يا أما حاولت كتير بس مجادرش. تطلعت حولها كأنها تبحث عن مساعدة فوجدت المكان مظلم مخيف فقالت: -عنجدك ياضنايا متجلجش عنخرج من اهناه! قال بألم:.
-مش عتجدري يا أما ده موطرحنا اللي بنيناه طول عمرنا مالناش موطرح غيره.. قالت بهلع: - ولدي ارجعلي ياراجي ونروح موكان تاني ماحدش يعرفنا فيه، ارجعلي ياراجي!
كان يذوب أمامها تبتلعه النيران بينما يتردد صراخها بإسمه لتفتح عينيها وقد جف حلقها وثقل لسانها وجسدها ينتفض وهو يتصبب عرقا غزيرا وكأن حلمها حقيقة، نهضت من سريرها متعثرة ترتعد وترغب في شربة ماء، فتسللت إلى أنفها رائحة الدخان، فتحت باب غرفتها لترى ألسنة النار تتصاعد في كل مكان، تشتعل لحالها، هوت على الأرض فزعة وشياطينها تحوم حولها لا تستطع الحراك كأنها تسمرت بمكانها، تنظر إلى ما حولها زائغة وقد أدركت أنها النهاية، تذوق من جنس عملها.
أطلقت صرخات مدوية وجسدها يتحرر من سكانه ثم تراخت على الأرض جثة هامدة تبتلعها نيران الدنيا قبل الآخرة... جمع غفير تكوّن أمام بيتها الطوبي يشاهدون نهايتها المخزيّة لايستطيعون حتى الترحم عليها.
لقد استحقت (عوالي) لوعة الفقد قبل أن تذوق وبال أمرها، أما (ثريا) لم تتقبل فراق ولدها مرة أخرى بعدما اطمأنت مؤخرا أنه عاد واستقر بين أهله وناسه، لم يخبرها (عسران) حقيقة سفره كل ما أخبرها به أنه اضطر على الرحيل من أجل دراسته وسيعود قريبا فزوجته متعبة وتحتاجه بجانبها.. هاتفته عدة مرات متواصلة فتجد هاتفه مغلقا لتستشيط غضبا مرددة: كنت حتى جول انك مسافر بجيت بارد كيف بتوع برا، الغربة جلبتك يامهران...
ولم يسلم (عسران) أيضا من لومها، لتردف: ماجلتلك من لول متوافجش يتغرب انت اللي فتحت عينه وخليتو يمشي على هواه، اهه بجى بيمشي من غير ما يطلب الرضى! فقال لها بنفاذ صبر وقد أصابه الصداع من تذمرها طوال المساء: جومي من وشي جلبتي نافوخي! انزلي تحت لنفيسة وحورية وولولي لحدن ماتريحي جلبك، المهم همليني مع روحي الله يرضى عنيكي!
استقامت متجهمة وقد همت لتقول شيء بينما رن هاتفها لتجده مهران فحملته إلى أذنها بلهفة وقالت: مهران! كيف تسافر اكده من غير ماتجول لأمك؟ فأجابها: حجك عليا يا اما! أنى كنت مستعجل يادوب خدت كام غرض وطلعت بسرعة، ماتجلجيش هعاود طوالي، هحل أموري اهناه وأعاود، المهم تاخدي بالك من نفسك و من بدارة لحد ماأعاودلكم! شعرت ببعض الراحة من سماع صوته المحبب إلى قلبها، فقالت:.
ماشي ياولدي دامك راجع طوالي يبجى اجضي شغلك ربنا معاك، ماتخافش على بدارة دي بتي وفى حباب عيني مش مرات الغالي وأم الغالي ربنا يجومها بالسلامة! فأتاها صوته من جديد يقول: ربنا يمد بعمرك ياست الحبايب ويديمك نعمة علينا، ادعيلي يا أمي محتاج دوعاكي يونس غربتي ويفرج همي، أنا هجفل دلوك أنام هبابة عشان طيارتي كمان ساعتين.. أشوف وشك بخير يا أمي!
شعرت (ثريا) برغبة في البكاء فلم تستطع توديعه وأنهت المكالمة مباشرة وجلست تنوح في مكانها فقال (عسران) وهو ينهض من مكانه: من شوية كنتي بتنوحي عشان ماكلمكيش ودلوك بتنوحي لما كلمك حيرتيني معاكي، خليكي موطرحك وخدي راحتك أنا هروح أشوف عويس. أشارت له بيدها أن يخرج بينما تواصل بكاءها الذي لا طائل منه. تقاطعت طريقه مع زبيدة فقالت له بهمس:.
دلوك هعمل ايه انا وبتي ياخوي بعد مهران ما طلجها، ده يادوب بجالهم سبوع من كتب الكتاب! ربت على كتفها وقال: ربك هيفرجها من عنده، بس ماتجوليش لحد أنه طلجها! نصبر هبابة ونعرف الناس أنها حامل وبعد اكده نشوف عنعمل ايه! قال كلماته تلك ثم غادرها بينما قصدت غرفة (بدارة) التي تجلس على الكرسي المتأرجح بشرفتها منكمشة على نفسها، اقتربت منها بوجل حتى وقفت أمامها وقالت بصوت باكي:.
وجتها كنت غضبانة من عسران، سنين طويلة عباس كان بيسم فيها جلبي ناحية أخوي، حملت عسران موت عباس اكمنه ماعطانيش فلوس عشان يجضي دينه فاتجتل، لعب شيطاني بعجلي جلت ماهخدشي حجي منه وباس لاه هاخد كل حاجة يملكها حتى هناه وفرحته وراحة باله كيف ما اني خسرت كل حاجة..
مالجيتش حاجة تأذيه أكتر من أنه يشوف وجع أولاده ومايجدرشي يعملهم حاجة، وجفت حال بناته، وعملت عمل لمهران يخليه يمرض وواحد يخليه يجواز بتي نوار وواحد يبعده عنك وعملت لزبيده كمان عشان تخرف وعجلها يخف..
صرفت كل دهبي على الشر اللي فى جلبي ناحية خوي وعيلته، حتى انتي ماسلمتيش مني وكنتي عتموتي انتي وزهرة، وجتها بس فجت وبديت احاسب نفسي لما تردي اللي عمالته فى بتي، حمدت ربنا أن اللي عملته اتجلب عليا وماكنش سبب في موت حدا فيكم..
طالعتها (بدارة) باشمئزاز وبرود وقالت: ارتحتي! أهو مهران طفش من الدنيا كلاتها لا عيهمه بتك ولا ولده ولا عيلته كومان، أبوه غضب عليه وضربه بسببك، وأمه بتبكيه لما راح وماخبرهاش حتى... وأني..! ماعصعبش على حدا فيكم! استقامت (بدارة) فبدأت تسير نحو (زبيدة) و (زبيدة) تعود إلى الخلف، مردفة:.
أني كومان من حجي اتهنى زي بناتكم، أفكر فى نفسي وراحتي ومستجبل ولدي، من حجي أعيش فى أمان مع جوزي مش أعيش خايفة من اللي هتاجي تشاركني فيه النوبة الجاية.. لازمن تعرفي مش هسكت من اهنا وجاي لو حدا جرب منيكم علي ولا على مهران مش هيحصل طايب، لحد دلوك ماشفتوش غير بدارة الطيبة اللي جلبها على جوزها وبترضى بكل حاجة لأني كنت فاكرة إن العيلة تستاهل نضحي عشانها بس طلع كدب، كلكم كدابين!
وصلت (زبيدة) طرف الباب فدفعتها (بدارة) خارجا وصفعت الباب في وجهها ثم جلست على طرف سريرها وقد أمسكت هاتفها تتصل بوالدها وقالت: كيفك يا بوي، ان شاء الله زين؟ فأتاها صوته يقول: الحمد لله يابدر داري زين لمن سمعت صوتك، انتي كيفك يا جلب أبوكي؟ فقالت بثبات تحاول ألا تبكي:.
الحمد لله نعمة وفضل، اتصلت عشان عاوزة أجي أجعد حداك كام يوم، وحشتوني ووحشني البيت وأوضتي، مهران سافر عشان دراسته جلت أجضي كام يوم معاكم بين مايعاود! فقال مرحبا: تنوري يانن عيني، هبعت محمد ياجي ياخدك... قاطعته قائلة بسرعة: لاه يابوي! أبا الحاج عسران مش هيسمحلي ياريت تكلمه وتاجي بنفسك تاخدني، ماهو مهران وصاهم علي فخابرة أنهم مش عيسمحولي آروح مع محمد! ضحك (عويس) ضحكته المعتادة التي تحبها (بدارة) ثم قال:.
هكلمه وهيرضى باذن الله انتي جهزي نفسك وهاجي على الضهر اكده اروح بيكي! فقالت: مااتحرمش منك يابوي! تصبح على خير يا حبيبي! تمنى لها ليلة هنيئة بدوره وأغلقت الخط ثم استقامت تضع بعض ثيابها ولوازمها في حقيبة كبيرة استعدادا لرجوعها لبيت والدها لقد اكتفت مرارة وحان الوقت لتستعيد نفسها بعد أن أدركت أن كل ماتفعله هباء لن يقابل بشكر أو عرفان.
توجه (مهران) إلى المطار وجلس ينتظر موعد إقلاع طائرته وفي هذا الوقت المتأخر والساعة تقارب الواحدة بعد منتصف الليل شعر برغبة في محادثة (ناتالي) إنها أمه الثانية التي تجيد مواساته والتخفيف من آلامه، أجابت على اتصاله قائلة بقلق: ميران؟ عزيزي، هل هناك خطب؟ فرد عليها: اشتقت إليك فحسب! ضحكتها الخافتة التي وصلته جعلته يشعر ببعض السكينة، وقالت: أيها المشاكس، خرعتني! فقال بصدمة:.
خرعتني! واو، لقد فاجأتني أنت تتعلمين لهجتنا على اصولها! قالت بابتسامة: سمعت السيد أويس يقولها لفتيلة! صدحت ضحكته وهو يردد: أويس وفتيلة! يا إلهي، لا تقولي أويس أمامه! كان يجب أن آخذك معي الآن بعد أويس وفتيلة أشعر بالقلق من تركك هناك! من المؤكد أنها لم تفهم لما يضحك فقالت: مهلا! تأخذني إلى أين؟ هل أنت مسافر؟ فأجابها بصوت متهدج: بلى! سأعود إلى روما.
أعلنت المذيعة نداء للمسافرين بضرورة التوجه إلى البوابات الرئيسية للتوجه نحو الطائرة.. فقالت ناتالي بقلق: لمَ أحدث شيء مع فدوى؟ ماذا هناك، أخبرني الحقيقة ارجوك ميران! فأجابها بثبات: هي بخير، لا يتعلق الأمر بفدوى! لقد سافرت لأنني أريد أن أبتعد قليلا، عن كل شيء! زفرت بارتياح فأردف: -علي الذهاب جميلتي سأتصل بك حين أصل!
أرسل لها قبلات واقفل الخط دون أن ينتظر وداعها له، هم ليعيد الهاتف إلى جيبه لكنه تذكر (بدارة) فكتب لها رسالة لأنه لايستطيع مكالمتها وسماع صوتها المتألم كي لا يأنبه ضميره ولا يستطيع السفر فاكتفى بالرسالة.. وصلتها رسالته بينما كانت مستلقية على سريرها تحاول النوم وقد ضاقت بها الدنيا في تلك الغرفة اللعينة، تفقدت هاتفها لتجدها منه وقد كتب فيها:.
وحشتيني يابدري! لازم أبعد عشان أجدر أفكر زين في اللي جاي وأحل كل المشاكل اللي غرجتنا.. خدي بالك من روحك ومن ولدنا، هكلمك لمن أوصل، هطلع الطيارة دلوك. وضعت هاتفها جانبا دون أن تبدي أي رد فعل ثم أغمضت عينيها لتغرق في نوم عميق.
ساعات طويلة قبل أن تحط الطائرة بمطار روما الدولي، بعد أن أجرى (مهران) إجراءات دخوله إلى روما واستلم حقيبته كانت الساعة تشير إلى السابعة صباحا وكما جرت العادة الجو باردا جدا ولا تزال الثلوج تحتل القمم والمرتفعات، أمسك هاتفه مجددا وطلب (ناجي) يريد معرفة بأي فندق هما فيه ليتوجه إليهما لكن (ناجي) فاجأه بقوله أنهما بالمطار يستعدان للعودة إلى مصر، تبعثرت الكلمات في حنجرته لكنه استجمع نفسه وأخبره أنه وصل بدوره إلى روما ويريد مقابلتهما قبل مغادرتهما وكما كان الحال التقيا بكفتيريا داخل المطار..
تفاجأت (فدوى) من تواجده أمامها بينما أخذ هو و (ناجي) يتبادلان أطراف الحديث عن القضية فعرفت أنه اكتشف الحقيقة وبعد لحظات من الحديث استأذن (مهران) من (ناجي) ليتحدث مع (فدوى) بمفردهما فشعرت باحراج كبير بينما ظهر التوتر على (مهران)، طالعها قائلا: مش عارف أعاتبك ولا أعذرك، لو كنتي استنيتي لحد ما جيت وقلتيلي ان ذاكرتك رجعت وحكيتيلي على كل حاجة ما كناش وصلنا لهنا، عملتي فينا كده ليه يافدوى؟
أجابته بارتباك: الوضع اللي كنت فيه ماكنش يسمحلي أفكر كويس، كنت مصدومة وخايفة، قلت أبعد فكرة أن عمي ممكن يأذيك كانت بترهبني.. قال بحب: للدرجة دي بتحبيني؟ قالت على الفور: جدا! قال بأمل: طب أنا هنا، عشانك! عشانا، خلينا نبدا صفحة جديدة ونرمي كل حاجة ورانا يافدوى، نعيش حياتنا زي ماعايزينها وزي مابنختارها من غير خوف ولا غصب ولا مسؤوليات مالناش ذنب فيها.. ظهر التردد على ملامح (فدوى) وقالت: وبدارة يامهران؟ فقال:.
ما قدرش أسيب بدارة يافدوى! فقالت بسخرية: عايزنا احنا الاتنين؟ لا قصدي احنا التلاتة ما أنا نسيت نوار! فقال: أنا طلقت نوار! استقامت متجهمة وقالت: والله! إنت بتهزر حضرتك؟ إنت مش عارف عايز إيه، اقعد مع نفسك وفكر لما تعرف هنكلم وقتها! عن اذنك الطيارة هتفوتني.. سارت بضعة خطوات ليوقفها صوته: عيزاني أختار بينك وبين بدارة مش كده؟ تعرفي غلطتي أن حبيتك كإنك معجزة حصلت فى حياتي بس انتي حبتيني.
كإني حاجة عادي بتحصل، إنتي أنانية! دلوقتي بس شفتك على حقيقتك، أربع شهور معيش بدارة فى هم معايا بسبب حبي ليكي، هي مع انها عارفة أن قلبي معاكي ومقصر معاها عمرها ما اشتكت لا وكمان راضية انك تشاركيني معاها، هي اللي حبتني وبتحسني معجزة فى حياتها مش انتي، أنا غبي بجد، بدارة شيفاني بالدنيا كلها وأنا سبت دنيتي كلها عشانك، معقول أنا أعمى للدرجة دي!. شعرت (فدوى) بإهانة كبيرة، اقتربت منه وقالت بغضب:.
لو الحب إن أشاركك مع غيري يبقى مش بحبك، لو الحب إني اخدك من مراتك وابنك يبقى مش حب، لو الحب إني أرضى أعيش معاك وانت مقسوم على تلاتة يبقى أنا مش بحب وأنانية! دفعها بغضب وغادر إلى الخارج بعد أن قال لها: -غوري من اهنا وماتورينيش وشك تاني! تسمرت (فدوى) مكانها وقد انهمرت دموعها بينما (ناجي) يطالع ماحدث باستغراب، اقترب منها وحاول الاستفسار منها لكنها تماسكت وسبقته إلى بوابة الخروج بعد أن قالت:.
مافيش ياناجي، سوء تفاهم مع مهران بس يمكن يفهم ويستوعب فى يوم!
مرّ أسبوع برتابة ثقيلة، عادت (بدارة) إلى منزل والدها بعدما ألح على (عسران) كثيرا حتى سمح له بأخذها، كانت (ناتالي) تعتني بها كثيرا رغم أنها أصبحت قليلة الكلام وكثيرة النوم إلا أنها تحب رفقة (ناتالي) التي بدأت تتعلم العربية وتتحدث بها فتثير ضحكاتهم عليها، كان (مهران) دائم التواصل معهم خاصة (بدارة) يحادثها كل يوم، كانت من تملأ غربته أنسا رغم أنها لاتقول الكثير هو من يتحدث طوال المكالمة، لقد بهتت مشاعرها و زال شغفها به وأحيانا لا تجيب على مكالماته فيلجأ إلى (ناتالي) لتنبهها أنه يتصل بها، لا تخرج من غرفتها إلا قليلا.
أما (نوار) تدهورت صحتها كثيرا قضت اليومين الماضيين في المستشفى جراء إصابتها بألام في بطنها نتج عنها نزيف حاد فقدت من خلالها جنينها.. صدمة أخرى تقضي على ما تبقى من صمودها، فقدت الآن مايربطها بالحياة، تناوبت (ثريا وزبيدة) على رعايتها بعد أن نصحهما الطبيب بضرورة مراقبتها فهي في حالة نفسية متدهورة ولا يستبشرون خيرا من صمتها وابتلاعها لمشاعرها في وضع كهذا..
قرر (عسران) خروجها من المشفى ظنا منه أنها في بيته ستحصل على رعاية أفضل من بقاءها في المشفى وينتشر خبر جنونها في البلدة كلها، ذهب (عويس) وعائلته لزيارتها فخلى بيته إلا من (بدارة) التي وجدت في غياب الجميع راحة تمكنها من الجلوس بهدوء تحت أشعة شمس الربيع في الحديقة لكنها لم تدر أن (فدوى) لم تذهب معهم حتى لا تبقى وحيدة وتلبي حاجتها إن أرادت شيئا..
اقتربت (فدوى) من (بدارة) الجالسة على الأريكة المتأرجحة توزع نظرها على الورود بمختلف ألوانها وتستنشق عبيرها، جلست بجانبها وقالت: إزيك يابدارة؟ نظرت نحوها بدارة وقالت باقتضاب: الحمد لله فأردفت (فدوى): إنت حابسة نفسك في اوضتك عشان أنا عايشة هنا ومش عايزة تشوفيني مش كده! ابتسمت (بدارة) وقالت:.
أجولك وماتضحكيش أنا من كتر ما بتخيلك وبتاجي على بالي بحس إن بنتي هتطلع شبهك، وغيرتي على بتي منك أكبر مليون مرة من غيرتي منك على مهران. ابتسمت (فدوى) بدورها وقالت: يارب يطلع ولد وكده مش هيكون شبهي وهيكون شبه أبوه وأنا هبقى بعيده عنكم حتى فى الشبه. ربتت (بدارة) على يدها وقالت: تعرفي يافدوى اللي مخليني مش شايله منك إنك كنتي جبلي، حبتيه جبلي، وجابلتيه جبلي، أني اللي خدته منك مش إنتي.
قالت (فدوى) بصوت باكي: هو عامل إيه؟ سحبت بدارة يدها وقالت: زين، أهو بيعافر يكون زين! وحشك مش اكده؟ وأني كمان وحشني بس جلبي شايل منه... قالت (فدوى) وهي تمسك يد (بدارة): والله بيحبك! استقامت (بدارة) من مجلسها وقالت: اعمل ايه بحب من دون تجدير يابت عمتي، حب الكلام مامنوش فايدة.
توجهت (بدارة) نحو غرفتها مجددا وقد قررت أن تمكث فيها ماتبقي من اليوم بينما أخذت (فدوى) تفكر في جملتها الأخيرة وقد أدركت أنها لم تقدر مشاعر (مهران) أبدا وكانت دائما متملكة وتتصرف بأنانية تماما مثلما قال وهاهي (بدارة) تعلمهما هما الاثنين كيف يكون الحب نبيلا معطاءا.