رواية على الرقاب قدر نافذ للكاتبة شاهندة الفصل الثالث والعشرون
يوم غريب الأجواء، مطر عاصف بالخارج كأنه ينعي آخر أيام الشتاء حتى يأتي الربيع فسيحا على النفوس المرهقة، لنستبشر أن تكون آخر عاصفة حتى تهدأ هذه المشاعر المتضاربة وتلتف الأيادي حول بعضها وتتشابك الأصابع، يتسلل منها الدفء إلى القلوب والأرواح فتشفيهما من كل بؤس سكن الوجدان كان سببه حب وقع أسير القدر وصدمات انخلع له رداء الراحة وأحلام غشيها واقع مرير يحمل بصمة قهر الزمن وظلم البشر...
لم تكن السعادة عنوان هذا اليوم طبعا، بل كانت المشاعر متناقضة و الحزن سيدها على الأرجح، تعلو الوجوه ملامح الغضب، إنه يوم تشارك أمطاره دموع القلوب الحزينة، رضي أصحابها عن أقدارهم، فكيف للرضى أن يكون ذنبا!؟
اليومين الماضييّن مرّا بثقل على( عسران )رغم تظاهره بالصمود، صحته تراجعت وهدّل الحزن كتفاه، يمضي وقته ساهيّا إما ساجدا و داعيّا، كان الجميع يظن أن حاله بسبب ماحدث لأخته زبيدة خاصة وقد أعلن قراره بزواج( مهران) من (نوار) أمام العائلة والآن لابد من حديث يجمعه مع صديقه (عويس) فاستدعاه إلى مكانهما بطرف القرية بينما ترك العائلة في صدمة من قراره..
ابتل جلبابه وعمامته فكان يرتجف ولم يكن له سعة صدر ليشعل نارا تقيه لسعات البرد، وصل( عويس) وقد وجده في تلك الحال فأسرع بإشعال النار وهو يلومه لكنه لم يجبه كما لو لم يسمعه فناداه مجددا: عسران! إنت زين ياخوي؟ نظر إليه و قد انكمشت ملامحه وانهمرت دموعه وأطرق برأسه يسند جبينه على عصاه مما زاد (عويس) قلقا فاقترب منه وأمسك كتفه وقال: باينه حمل كبير ياواد عمي!
سكت الروع عن( عسران) ثم قال بصوت خفيض مبحوح بالكاد يسمع: نوار..! نوار لازمن تجوز مهران! تجمدت ملامح (عويس )وجحظت عيناه وقد استأنف (عسران )كلامه: راجي طلع ابني ياعويس! عوالي حرجت جلبي وانتجمت مني إكمني سبتها وخدت ثريا، خدت ولدي فى بطنها وربته على الشر والحرام والجدر لف لف وحطه عند باب زبيدة خيتيّ، عشق نوار بتها واديك سمعت آخرته كيف كانت..
نوار حامل ياعويس! كيف أهملها وفى بطنها ولد ولدي، حتى لو كانت خاطية، الخطى جاي مني لول، بسببي عيلتي غرجانة فى الهم.. نوار ضاعت، وابني اتجتل، ومهران اتهد حيله، وبدارة!، بدارة هتتظلم تاني.. أحب على يدك ياخوي جولي أعمل إيه أنا خلاص مابجاش فيا عقل أفكر..
نزع (عويس) يده من بين يدي( عسران) واستقام ثم سار بضع خطوات كأنه يفكر، لفهما الصمت لدقائق اشتد فيهما صوت المطر مع طقطقة الحطب كأن غضبهما تمارسه الطبيعة عنهما.. عاد (عويس) ليجلس مكانه ثم قال: اعمل الصوح ياعسران!، لكن ماهغصبشي بتي على حاجة، لو جالت لاه يبجى لاه، وانت وجتها تختار. وبينما هما كذلك دخلت( بدارة )وهي توزع نظرها بينهما: بدارة؟
فقالت متعجبة من وجودهما معا في مكان كهذا فى حين أنها ظنت أن الحاج (عسران) من استدعاها لتوافيه في مكان ما.. أبوي!، أبا الحج؟ التفت (عسران) نحوها وقد وجه كلامه ل(كامل): روح انت ياكامل استنى في العربية! وإنتي يابتي تعالي يمتنا اهنه عاوزينك فى حاجة..
اقتربت( بدارة) بوجل وقد ولاها والدها ظهره بينما أمسك الحاج (عسران) يدها وبدون مقدمات أخبرها بما يجب عليها أن تعرفه بدون الخوض في حقيقته مع (عوالي) وأبُوته ل(راجي).. ابتسمت ثم بدأت تضحك وضحكاتها تعلو شيء فشيئا فأدرك (عسران) أنه أصابها في مقتل فلم تسعفه كلماته لقول المزيد فراحت عيناه تعبر عن ألمه. أو آلامه إن صح القول، صرخ (عويس) في إبنته فجعلها تتستفيق من صدمتها وتستعيد ثباتها.. صمتت قليلا فأردف:.
إنتي مش مغصوبة على حاجة يابتي، مش مجبورة توافجي تشاركك مرة تانية فى جوزك، لو قلتي لاه هاخدك ونرجع دوارنا وربنا يعوضك... تجاهلت (بدارة) كلام والدها واستدارت نحو (عسران) وقالت:.
أنا ماتغصبتش على مهران يا أبا الحج لكن هو اللي اتغصب يجوازني، هتغصبه تاني يجواز نوار؟ حياة ايه دي اللي عايشها ولدك كلها غصب، كيف ترضاها ليه؟ ولا اكمنك عارف أننا مافرجنشي معاه ولا عينه منينا، طب اشفق عليه هو كومان زي ما جلبك على نوار! مين هيشيل ذنبا لو رضينا؟ فأجابها (عسران) بحسرة: يعني أجتل نوار إكمنها غلطت؟ قالت بحسرة: واللي بتعمله دلوك مش موت يا أبا الحاج؟ قال:.
نوار طول عمرها عاشت بخطية أبوها ماهرضهاش لولدها يعيش كيف ماعاشت! انتصبت (بدارة) واقفة وربتت على كتفه وقالت: رضيت يا أبا، رضيت عشان ولدي أنا كومان! خطت إلى خارج لينطلق بها (كامل) إلى البيت الذي قضت الطريق إليه باكيّة بصوت عال أرهق قلب ( كامل).
لم يستطع (عزام)أن يقبل زواج (مهران)من إمرأة أخرى غير أخته وأقام الدنيا و أقعدها، رغم أنه كان يفكر في أن يفعل نفس الشيء ولكن ما نبيحه لأنفسنا قد نحرمه على غيرنا، رفض حضور ذلك الحفل الصغير الذي يقيمه( عسران) في دواره لعقد قران نجله على إبنة أخته، وتشاجر مع والده وإخوته لموافقتهم على تلك الزيجة وتصميمهم على حضور الحفل بدلا من وقوفهم ضده والحول دون ذلك.
بينما إلتمس (عويس)ل(عسران)و(مهران) العذر، يدرك دون كلام أن (عسران)لم يكن ليأمر إبنه بالزواج إلا قلة حيلة منه ومادامت( بدارة) قد رضيت فما عليه إلا مساندتها..
(محمد)أدرك أيضا من ملامح أخيه (ناجي)حين أخبره بالأمر أن هناك سرا وراء ذلك الهدوء الذي بدا على ملامح الأخير، وأنه كان ليتصرف تصرف( عزام) لو رأى أن تلك الزيجة أتت على عنق أخته بأي حال من الأحوال، فرغم هدوء (ناجي) الظاهري إلا أنه يصير ليثا مدافعا عن أحبته بكل قوته إن وجد ما يضرهم، لذا فقد تبع حدسه بدوره ووافق على تلك الزيجة.
بينما شعرت(زهرة) بالتعاطف مع (بدارة) والحزن لأجلها، كذلك فعلت (راوية)، ولكن شحوب (نوار)وحزنها الشديد وكذلك إنطوائها على نفسها جعلهما تدركان أن ربما زواج أخيهما منها قد يبدل حزنها هذا ويجعلها تصبر على مصيبتها في حبيبها المتوفى.
أما (ثريا)فكانت تستشيط غضبا، فلطالما سعت لإبعاد (نوار) عن ابنها والآن هاهي ترى ولدها المجبور يساق إلى قدره مساق الشاه إلى المذبح يعزز حزنه من رفضها، ربما لو كانت العروس تلك المرأة الأخرى التي أدركت عشقه لها لكانت أصبحت أقل حزنا ورفضا وهي توقن من أن زواجه ذاك من أجل سعادته، ولكن أن يتزوج مرة أخرى ومن إمرأة لا يحبها هذا أمر لم تستسيغه أبدا وحين أبدت رفضها قوبلت بثورة من(عسران)لم ترى مثيل لها من قبل فخشيت على قلبه من ذلك الغضب وأظهرت الخضوع والإستسلام توقن بقلب المرأة قبل قلب الأم أن هناك أمر خاطئ في إجبار(عسران)لولدها على تلك الزيجة ولكنها بدورها مجبرة على قبولها وقبول (نوار)ككنة لها رغم علمها بحبها لرجل آخر حتى وإن وافته المنية.
جلست (عوالي) تقضم أظافرها في إنتظار (مصيلحي)لتشفي غليلها من قاتل ولدها حتى تستطيع شفاء روحها العالقة بين الحياة والموت، تنتظر قصاص عادل يريح قلبها المكلوم، حين دفع الباب فجأة نهضت بلهفة مالبثت أن أضحت صدمة وهي ترى زائرها الذي يرمقها بمقت، قالت بنبرات مهزوزة: -عسران! قال بصوت حاد النبرات تطاير منه رذاذ الغضب: -إيوة عسران، أبو ولدك، ولدك اللي جتلتيه بجلبك الإسود وضميرك الميت وحجدك وطمعك.
شعرت بالضعف خاصة وكلماته تنخر عظامها وقلبها حدثها منذ برهة بذات الكلمات ولكن سماعها منه كان قاسيا حتى على روح قوية كروحها، مزقتها إلى فتات، لتدرك أن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم فتمالكت نفسها وهي تقول بغضب:.
-دلوك بجى ولدك ياعسران؟ مش كنت بتجول إنه مش من صلبك وإن مهران ولدك هو اللي من صلبك وبس، مش كنت بتجول عليه بغل وعتحذره ميهوبش ناحية المحروسة بت أختك، أختك بت هوارة، بت كبير البلد اللي محدش يجدر يهوب يمتها واصل، أختك أم جلب إسود اللي كانت بتجيني عشان أسحر لبناتك وولدك، دلوكيت بجيت آني رأس الفساد، وانتوا إيه؟من أولياء الله الصالحين إياك؟
ضربة موجعة أخرى وخنجر بالظهر ولكن لن يكون الوجع أبدا كوجع الفقدان ولن يكون الألم كألم رحيل ولد أشعره بالذنب والصغر وكأنه لا شيء مطلقا أمام قضاء الله وقدره، لذا طالعها بهدوء وهو يقول:.
-تعرفى ياعوالي، اللي خفف من وجعي إن ولدي إرتاح منيكي، إرتاح من شرك اللي بيفط من عيونك وجلبك عيعشش ويلبد، عترمي ذنب ولدك علي وعلى خيتي مش إكده؟ بصي جواة جلبك عتشوفي إن ولدك كان ضحيتك إنتي، ضحية حجدك وزرعك جواه الغلط وأهو إنتي حصدتيه ويل وموت وخراب الجلب، من جواتك عارفة إنك لو كنتي جلتيلي ع اللي في بطنك مكنتش ههملك واصل وكنت هتجوزك حتى لو في السر عشان خاطر طفل ملوش ذنب في غلطنا، بس غرورك وطمعك غلبوكي وفضلتي إنك ترمي اللوم علية وتربي جواتكوا الكره على إنك تيجي على نفسك وتكوني زوجة تانية مش إكده؟فضلتي إنك تشعللي جمر الحجد في جلبك وتزيدي نار الكره والإنتجام جواتك وجواة ولدك، تحرميه مني وتحرمينى منيه على إنك تجاسميني مع حدا غيرك، عوزتي الكل يا إما تغفلجيها على الكل مش إكده؟بس ربك كبير وإنتجامه كان أكبر، بديتي بالشر ياعوالي والشر في الآخر طالك ومبجاش جدامك غير الحسرة والندم.
كانت تدرك أن الحق معه في كل كلمة فلم تستطع مجادلته، لتقول بوجه شاحب وعينان طفرت الدموع منهما فلم تستطع كبح زمامهما لتظهر ضعيفة كما لم تكن يوما وهي تقول: -عتشمت فية ياعسران؟هو مش ولدك اللي مات مجتول ده؟معتحزنش عليه ولو هبابة؟ قال(عسران)بمرارة:.
-ربك اللي عالم أد إيه جلبى جايد نار وكنى ربيته العمر في حضني واتاخد مني غدر، عينزف جرح فراجه كنه بحر من دم معيبطلش نزيف واصل، ألف حاجة دارت بعجلي وألف لو، عجلي كان عيشط بس إيماني رجعني لحالي، ورضيت بالجدر، رضيت بجضا ربنا وبدعيه يخفف الوجع ويرحم الولد في جبره، ويغفرله، وبدعي يسامحني ولدي اني كمان على غلطي، وبوعده أعوضه في ولده وعسميه على إسمه، هربيه في حضني زي ماكان نفسي اربيه وعخليه يكون له ولد صالح يدعيله، يمكن أكفر عن ذنبي اللي تبت عنه من كل جلبي، لكن انتي ياعوالى مظنش إنك ناوية تتوبي عن ذنبك ولا تفوجي من اللي انتي فيه، لكن بحذرك يابت الناس، بعدي عني وعن أهلي، لإني مش عرحمك لو جيتي يمتهم، هجتلك بيدي وأشرب من دمك كماني.
كادت أن تقول شيئا ولكن قاطعها دلوف سيدة تحمل حقيبة بيدها قائلة: -جيبتلك طلباتك ياستنا. وماإن رأت (عسران)حتى وضعت شالها على وجهها قائلة: -وه وه، راجل غريب. نقل (عسران)بصره بين (عوالي)وتلك المرأة قبل ان يستقر بنظراته الساخرة على الأخيرة، مغادرا بخطوات هادئة، لتقول المرأة بفضول: -مين الراجل ده؟كني عارفاه. لتهدر فيها (عوالي)قائلة: -إمشى ياولية إطلعي برة وهمليني لحالي، منجصاش في ليلتك الطين ديه..
قالت المراة وهي ترفع أمامها الحقيبة بصدمة: - والحاجة... قاطعتها( عوالي )بدفع الحقيبة من يدها بقوة لتقع أرضا وتتناثر محتوياتها قائلة بغضب هادر: -جلتلك غوري من وشي، جبر يلمك. أسرعت المرأة تغادر بخطوات وجلة بينما كانت (عوالى)تصرخ بقوة وهي تكسر كل ماتطاله يديها قبل أن تجلس مكانها أرضا وقد خارت قواها وبح صوتها، تلعن تلك الحياة التي عاشتها وذلك الألم الذي قبع بقلبها يزداد قوة، في كل لحظة.
دلف (عسران)إلى حجرتها، كانت تجلس على كرسي بجوار النافذة تقرأ ماتيسر من آيات القرآن الكريم، صدقت ثم نظرت إليه لتدرك من تلك النظرة التي يرمقها بها أنه لازال يضمر لها نفورا، تركت المصحف الشريف على جنب وأسرعت إليه تركع على ركبتيها وتقبل يده قائلة: -أحب على يدك يا أخوي... قاطعها قائلا: إنتي راس الخراب اللي حل على بيتي! بتسحري لولادي يازبيدة! بتطعنيني فى جلبي يابت ابوي؟! سحب يده بسرعة فأردفت وهي تبكي:.
-سامحني ياعسران، أني غلطت ومعترفة بغلطتي، كنت ماشية ورا الشيطان بس ربك عاجبني، وخلاني بعجابه أفوج، فوجت بعد فوات الأوان صوح بس المهم إني فوجت، اني مش عايزة حاجة من الدنيا غير إنك تسامحني، وبتي تتستر، وجتها لو جتلتني هكون راضية وأموت وأني مرتاحة في تربتي. طالعها (عسران)قائلا:.
-ليه يازبيدة؟عملت فيكي إيه عشان تسحريلنا، وولادي عملولك إيه عشان يشوفوا اللي شافوه بسببك، عمري ما كنت أتخيل لمن جالي الشيخ وهدان إن اللي عمل العملة دى جريب مني ومن اهلي يكون إنتي! زاد عويلها وهي تقول:.
-سامحني يااخوي، الشيطان صورلي إنك عتسرج حجي وورثي، غيب عجلي وخلاني أطاوعه بحجة إني برجع حجي منك، ولما عرفت إنك كنت خايف على مالي من عباس، يمين الله ضربت روحي بألف بلغة إني غلطت في حجك وضريتك ياأخوي، آني راضية بأي عجاب تشوفه بس المهم إنك تسامحني بعديه وأني عوعدك إني أكفر عن ذنبي طول عمري.
طالعها صامتا تتنازع روحه رغبتان إحداهما الصفح والعفو عما كان وكما قالت لقد ظنت السوء وإتبعت الشيطان فهيأ لها أنه يسرق حقها وهي ترده حتى وإن كان بالخطأ وقد نالت عقابها بالفعل، والرغبة الأخرى هي فراقه عنها ولكن لمظهرها الضعيف و دموعها رق قلبه الذي يدرك أن كل إبن آدم خطاء وخير الخطائين من يتوب عن خطأه وقد تابت عن خطأها فأصبح الغفران واجبا.
إندفعت تغمره وهي لا تصدق نفسها، لقد سامحها بالفعل، تبكي بحرقة وهي تدرك كم طيب القلب هذا الذي إعتبرته عدوها يوما وهو من دمها، تدرك كم كانت مذنبة في حق أخيها ونفسها، تشكر الله على صفعة أفاقتها من وهمها وأعادتها للطريق الصحيح، بينما ربت (عسران)على ظهرها بحنان وهو يشكر الله بدوره على كل حال.
إن كان الجسد للقسمة قابل، فماذا عن الروح والقلب أيخضعان لذات القسمة أيضا!؟ انشغل (مهران) عن كتب كتابه والكل مجتمع ينتظر وصوله لا يعلمون أن( فدوى) لها رأي آخر من هذا الزواج.. بينما كان( مهران) يستعد لهذا الزواج انقضت عليه (فدوى) كلبؤة جريحة، شدت عمامته التي كان يحاول وضعها على رأسه وهي تتطلع في عينيه قائلة:.
أنا بتخنق كل ماتخيل بدارة قريبة منك، كابوس بشع وأنا بشوفك بتخطي لاوضتك اللي مشاركاك فيها، حتى وأنا عارفة انك مش بتحبها بس بموت، الغيرة هتموتني يامهران! دفعته بعيدا عنها ليرتطم بالجدار وبدأت تلف حول نفسها كالمجانين وتمسك جبينها ثم تنحني لتمسك ركبتيها بكلتيا يديها وهي تئن أنين قهرا.. فدوى... ناداها (مهران )فنظرت إليه بعتاب فأردف: إنت مش عارفة ظروفي أنا... فقاطعته قائلة:.
أنا بحبك يامهران بس عزت عليا نفسي إني أنافس بدارة عليك، أنا، أنا مش قادرة اتحمل، تحت قناع البرود اللي لبساه نار بتغلي بتحرق في روحي وقلبي، إنت مش حاسس! كان (مهران) ليقول شيء وهو يقترب منها لكن رنين هاتفه قاطعه فأجاب وقد كان والده يستعجله للنزول فأقفل الخط وهو يقول: انا نازل ياأبوي! طالعته( فدوى )بغضب وقالت: مستحيل..
لم يكن ليفهم عن أي مستحيل تتحدث إلا بعد أن أسرعت إلى الخارج وقد أقفلت باب الحمام عليه وتركته حبيسه كي تضمن عدم نزوله.. شعر (مهران )بألم يجتاح كيانه قلبه يحترق أيضا يعلم أن مايفعله فوق طاقة تحمل امرأة عاشقة لكن واجبه يحثه على إنكار مشاعره الآن، واصل دفع الباب لينخلع لكنه فشل ليقف بتعب يتطلع إليه ثم مالبث أن فتح وكانت وراءه، (بدارة)! بدارة! قالت بسرعة: مش وجته الناس مستعوجاك تحت، روح!
لم يستطع (مهران )تخطيها والمرور على مشاعرها وقد علمت ذلك فخرجت دون أن تنطق بشيء فتبعها هو الآخر بصمت.
إنتهى كتب الكتاب وتقدم الحضور القليل يهنئ العروسيّن بينما وقفت (زهرة) تمسك بيد (بدارة)التي وقفت تطالع مايحدث بقلب تصدعت جدرانه ولكنها كانت من القوة بحيث اظهرت صمودا رائعا ووجها لا يعبر عن روح ممزقة يجبرها القدر على مشاركة من تحب مع أخرى وكأنه مصير محتوم لا مهرب منه. بينما كانت هي هناك تقف إلى جوار (ناتالي)تراه يعقد على غيرها، يصبح لأخرى مجددا والمؤلم أنها لا تستطيع الصراخ، أنا أعترض!
أسرعت بخطواتها إلى حجرة (ناتالي)تتبعها الأخيرة بإرتباك والعيون تتركز عليهما، يتعجبون من تلك الدموع التي رأوها في عيون (فدوى)، بينما هناك اعين تدرك تماما ماخطبها، خاصة ذلك الذي لم يرفع عينيه عنها طيلة عقد القران وكأنه يحاول التأكد من شيء ما - عدم رحيلها مجددا- أو ربما هو فقط، يشاركها الوجع.
هناك وخلف تلك الأبواب المغلقة، جلست (فدوى)على أرضية حجرة (ناتالي)تبكي بقهر بين أحضانها تقول بصوت متهدج ألما: -بقى أنا مرضيتش أتجوزه عشان مجيش على مراته وأخرب بيته، يقوم يتجوز بنت عمته وينقهر قلبي بالشكل ده، أنا معملتش حاجة في دنيتي عشان أتعذب كدة، ده حرام والله العظيم حرااام. ربتت (ناتالي)على ظهرها وقالت..
-لا أفهم كلماتك عزيزتي ولكنى أدرك ألمك وأتفهم وجعك، ورغم ذلك أثق بقلبي الذي يخبرني بأن هناك سر وراء تلك الزيجة، هو مجبر لا شك على زواجه من نوار، فلو خيروه كان إختارك بلا شك. خرجت(فدوى)من حضنها قائلة في مرارة: -تزوج بإختياره أم رغما عنه ناتالي، الأمر سيان، إبتعادي عنه أضحى صار لازما، فلوعة الفراق أهون من ذلك الألم الذي يجتاحني قربه. عقدت (ناتالي)حاجبيها قائلة: -ماذا تقصدين؟ نهضت (فدوى)ببطئ وقالت:.
- سأعود لروما. نهضت (ناتالي) بدورها قائلة بصدمة: -ستعودين لروما؟وماذا عن عمك وولده، سيجدونك بكل تأكيد. قالت بمرارة: -فليفعلوا وليأخذوا روحي حتى، فلم أعد أهتم.
فتح الباب في تلك اللحظة وظهر (مهران) على عتبته، يطالعها بنظرات معاتبة، بينما تأملته هي بعيون عجزت عن إخفاء مشاعرها التي إمتزج فيها الحب بالحزن وهي تراه متأنقا في جلباب صعيدي وعمة تناسبه وكأنه خلق ليكون على تلك الصورة ملكا للصعيد تثق بأن صورته تلك ستقبع في خيالها، أبد الدهر.
إقترب منها يطالعها بصمت، فأشاحت ببصرها عنه كي لا تضعفها تلك النظرات، فلغة عيونه لا يفهمها سوى إمرأة عشقته بجنون وقد قرأت بين طيات عيونه عشق يذبح بسكين الفراق مجددا ولن تقوى على منحه الخلاص من ذلك العذاب الذي يؤلمه، وجد صوته ليقول بمرارة: -هتهربي تاني؟ رغما عنها عادت بعينيها إليه تقول بألم:.
-أنا وإنت عارفين إن اللي هعملوا ده هو الصح، مبقاش ينفع أبقى في حياتك أكتر من كدة، ولا إنت ينفع تكون في حياتي دلوقت. توقف أمامها يتأمل ملامحها الجميلة بمرارة قائلا بعيون زائغة: -هتروحيله؟! خرج صوتها مختنقا وهي تقول: -إبن عمي وهو أولى بية، مش ده قانونكم وعرفكم؟ أمسك ذراعها بقوة قائلا: -فدوى اااا! هزت رأسها دون صوت فإشتدت قبضته على ذراعها وهو يقول:.
-لما انتي هتهربي؟ قلتيلي بحبك ليه؟واللي عملتيه من شوية كان إيه؟ ظهر الألم على وجهها بينما أمسكت(ناتالي)بيده التي تقبض على ذراعها بقوة تؤلمها، تحاول تخليصها منه قائلة: -إهدأ ميران، فدوى... قاطعتها (فدوى)قائلة: -هو على حق ناتالي، كنت المخطئة على الدوام وحان أوان تصحيح الخطأ، آسفة إن كان في أسفي عزاء لك، سأودعك الآن آملة أن تسامحني من كل قلبك يوما ما.
ترك ذراعها فجأة، وملامحه تتجمد وتصبح باردة كالصقيع، لتسير (فدوى)بخطوات بطيئة بإتجاه الباب قبل أن تستدير وتلقي نظرة أخيرة طويلة عليهما، ثم تغادر بسرعة، بينما أمسكت (ناتالي)بذراعه قائلة بوجل: -إمنعها من الرحيل، أقسم لك أنها مظلومة، هي تحبك ولكنها خوفها عليك يعميها، إلحق بها ميران وإلا ستندم.
ظهر صراعه على وجهه للحظات قبل أن يحسم قراره ويتبع قلبه، يغادر بخطوات مسرعة خلفها، وجدها تحادث (عويس)وهو يرفض بشدة كلماتها قبل أن تتسع عيونها بصدمة ويظهر على ملامحها خوف شديد وهي تتراجع حتى أصبحت خلف خالها تماما، تتبع بصرها فوجد على عتبة منزلهم رجل كبير وشاب في مثل سنه يقفان هناك وينقلان بصرهما بين الحضور، يبحثان عن أحدهم، حتى وقع بصرهم على (عسران) فتقدما منه ليقابلهما والده بترحاب بدا طبيعيا ولكنه يعرف أباه جيدا ليدرك زيف مشاعره، بينما سمع صوت والده يقول بوضوح:.
-نورتوا بلدكم وأرضكم يا توفيج انت وولدك. ليشعر بالصدمة وهو يعود بناظريه إلى هذا الشاب الذي يقف نافخا أوداجه وكأنه يملك الدنيا ومافيها، يرى غريمه لاول مرة، وكما توقع تماما، كرهه منذ اللحظة الأولى.
رواية على الرقاب قدر نافذ للكاتبة شاهندة الفصل الرابع والعشرون
دعنا نؤمن بالوقت! لنفترض أن يعود إلى الوراء قليلا حيث نتقابل لأول مرة، المرة التي تكون كفيلة أن نبقى معا إلى الأبد.. ليعود إلى الوراء قليلا حيث نفكر بعقلانية ونتغلب على أطماعنا، ليعود إلى الوراء قليلا حتى ندرك أن لكل خطأ ثمن!
ولم هذا الوقت تحديدا، حين اتضحت المشاعر، هاهو الحائل بينها يقف على بعد خطوات منه، مجرد النظر إلى( رحمان) جعل (مهران )يود لو يخفيه من على وجه الأرض وهو يراه يتفرس في ملامح( فدوى) الواقفة بجانب خالها. رآهم (عويس) بدوره، فأدرك سبب وقوف (فدوى)خلفه وظهور الخوف على ملامحها، فأمسك بيدها التي ترتعش وقال بحنان: -متخافيش يابتي، مَشِّي معايا دلوك، وإتصرفي كنك متعرفيش حاجة ووعد مني هخدلك بحقك من حباب عنيهم..
هزت رأسها وهي تزدرد لعابها بصعوبة وقتها نادى(عسران) (عويس)قائلا: -تعالى ياأخوي شوف مين جانا الليلة دي ونور بلدنا... إلتفت (توفيق)وولده إلى حيث ينظر (عسران) فوجداه يتقدم تجاههما يمسك بيد (فدوى)التي حاولت رسم إبتسامة على شفتيها فجاءت مهزوزة رغما عنها وحده (مهران)من أدرك زيفها وإستشعر ذبذبات خوفها وتعجب من ذلك. توقف (عويس)أمامهم وهو يمد يده ل(توفيق ) يقبض على كفه بقوة وهو يقول:.
-حمد الله على السلامة ياتوفيج، نورت البلد، فينك ياراجل من زمان؟ إقترب (مهران) منهم بينما قال (توفيق): -ماإنت عارف ياحاج عويس هربنا من التار اللي علقنا فيه بسبب حافظ الله يسامحه، بس لما فدوى رجعت البلد فقلنا يمكن النفوس صفيت وجينالكم.. قال(عويس) بسخرية:.
-خيك حافظ مات وهمام كمان مات من سنين، ومات معاهم التار وإنت لسة فاكر تسأل ياتوفيج؟والله بت أخوك فيها الخير وسبجتك، وجيتها جابتك على ملا وشك، وخلتك تعاود لأهلك وأرضك. طالع(توفيق)(فدوى)قائلا: -ومين يشهد للعروسة، الخال طبعا. إكتفى (عويس )بإبتسامة لم تصل لعينيه بينما قال(عسران): -صحيح، مبارك يارحمان! فدوى جالتلنا إنها مخطوبالك، واكيد هنفرحوا بيكم جريب. قال (رحمان)وهو يمسك بيد (فدوى):.
-لما تبطل العروسة تهرب مني الأول ياعمي. أمسك (مهران)يد(رحمان)ينزعها من يد (فدوى) قائلا من بين أسنانه: -مايصحش إكده لما تبجى مرتك إمسك يدها كيف ماتحب، بلاش مسخرة. طالعه (رحمان)بإستنكار بينما تأمل(توفيق)(مهران)بنظرة فاحصة وهو يقول: -معلش، هما واخدين على بعض من زمان و رحمان متربي برة ولسة مخدش على عادات البلد وتقاليدها، بس مين حضرتك؟! قال (عسران)بفخر: -ولدي مهران. شابت لهجة (رحمان)بعض السخرية وهو يقول:.
-عريس الليلة، مبارك الجوازة التانية يامهران. ضم (مهران)قبضته وكاد يلكم هذا المتبجح في وجهه وكلمة واخدين على بعض جعلت دمائه تغلي ولكن (عويس)أسرع يقول: -ماتيجوا ناكل لجمة ويا بعضينا، تلاجيكوا جيتوا من المطار على إهنه طوالي واحنا لازمن نضايفوك ياتوفيج. قال (توفيق): -إحنا مش ضيوف ياحاج وفي الحقيقة ملناش نفس، خلينا هنا نحضر الفرح، من زمان محضرناش أفراح البلد ولا حسينا بجمالها. قال(عويس):.
-ومستعجل على إيه إياك؟لسة الأفراح جاية كتير، فرح ولدي ناجي وفرح ولدك رحمان، هم بينا خلينا ناكلوا عيش وملح ونصفي النفوس ياولد العم. هز (توفيق)رأسه بينما أردف (عويس)قائلا: -خليك مع ضيوفك يا عسران، هناكلوا لجمة ونعاودوا بسرعة. أومأ (عسران)برأسه ليتقدمهم (عويس) بينما سار (توفيق)إلى جوار(رحمان)هامسا له:.
-أنا مش مرتاح يارحمان، إستقبالهم فيه حاجة مش طبيعية، أقولك على حاجة خلينا هنا الليلة والصبح نسافر على روما بسرعة. قال(رحمان)بإستنكار: -نسافر؟! طب وفدوى؟ قال(توفيق)بغضب: -مش وجته الحديت ده عاد إسمع كلامي وبعدين عفهمك. هز (رحمان)رأسه موافقا رغما عنه، فعند لجوء والده للهجته الصعيديةيدرك أنه لا فائدة مطلقا من النقاش معه.
كانت النسوة تلتف حول العروس الشاردة يرقصون ويغنون بينما يتقبل (عسران) وولده (مهران)التهاني من الرجال، حتى إنفض الحفل وبدأ المدعوون القليلون في المغادرة ولم يبقى سوى أفراد العائلة، إقترب (محمد)من (بدارة)قائلا: -كيفك ياخيتي؟ ربتت (بدارة)على صدره قائلة: -أني زينة متجلجش ياأخوي! قال(محمد) بشك: -وشك أصفر يابدارة متأكدة إنك زينة؟ إبتسمت وهي تربت على بطنها قائلة:.
-أني حبلى يامحمد وده طبيعي ياخوي، هو أني اللي عجولك برديك، متجلجش علي، أمي ثريا واخدة بالها مني ومعتفوتنيش واصل. قال(محمد) وهو يطالع (مهران)الذي يقف متجهما بجوار عروسه: -ومهران؟! طالعته (بدارة)بدورها وقد رقت ملامحها: -سي مهران حنين جوي وواخد باله مني هو كمان، صدجني هو مغصوب ع اللي عمله، وهي كماني زي ما انت واعى إكده، ومادام عارفة أنه عيحبني فآني راضية. طالعها (محمد)قائلا: -بتكدبي على خيّك يابدر دارنا؟
نظرت إليه بوجل فأردف قائلا: -إحنا التانين عارفين بيحب مين. طالعته للحظات قبل أن تقول بثبات: -جلتله يتجوزها ويسيبني على ذمته وأني راضية وهو رفض يامحمد، لإنه عارف إن جلبه هيميل يمتها ومش عيعدل بيناتنا، تفتكر اللي عيرفض يتجوز اللي بيحبها عشان ميظلمش مرته يتخاف منيه! لع، انى خابرة إن جوازته دي فيها خير لبنت عمته وصديجتي و معجفش في طريج الخير ياخوي وراضية أعيش مع جوزي ع الحلوة والمرة.
مد (محمد)يده وأحاط بذراع أخته يضمها لجانبه قائلا: -انتي مفيش منيكي يابدارة واصل، ربنا يباركلنا فيكي ياخيتي. قالت بصوت متهدج: -بس بجي لأعيط ويجولوا مجهورة ويشمتوا فيّا.. مال يقبل رأسها ثم إستقام فإلتقت عيناه بعيني زوجته (زهرة)التي طالعته بحب فإبتسم لها بحنان فاستبشرت ملامحها وتوهجت فرحا وقد إطمئن قلبها بعد أن خشيت أن يصبح زواج أخيها سببا في نزاع بينهما، ولكن حمدا لله لم يحدث.
إقترب (عويس)من (عسران)وولده (مهران) الذي قال بحيرة: -عاودت وحديك ليه ياعمي؟ أمال فين رحمان والحاج توفيج؟ طالع (عويس)(عسران)بنظرة ذات مغزى قبل أن يقول: -سافروا ياولدي جالهم مكالمة مهمة وعاودوا البلد اللي جو منيها، اتفجنا يعاودو وجت تاني عشان الفرح إن شاء الله. لم يغفل (مهران)عن نظرة الحاج (عويس) لأبيه وملامح الإرتياح التي إعتلت وجه (فدوى)لينوي في الصباح التحدث إلى أبيه دون تأخير.
إستأذن (عويس)ليغادر مع عائلته رغم إصرار (عسران)عليه بالمبيت لتغادر (فدوى)معهم بعد أن ودعت( ناتالي)وألقت نظرة حزينة على (مهران)بينما توجه العروسان إلى حجرتهما بعد ذلك في جو أبعد مايكون عن الفرح.
كان(مهران)يقف في شرفة تلك الحجرة التي جمعته ب(نوار) والمجاورة لغرفة (بدارة)، يطالع تلك الأمطار الغزيرة بعيون شاردة، يعيش عاصفة بداخله أقوى.
عاصفة المشاعر تجتاح روحه تجرده من الفرح وتجمد عقلانيته، يتوق إلى الحبيب كي يعيد إليه الدفء ولكن دموع الفراق كالأمطار تطفئ النيران وتشيع البرودة في الأوصال، يلفظ الجسد أنفاسه الاخيرة وهو يحاول التغلب على قسوة العاصفة ولكنه في النهاية يستسلم لقدره ويرحب بالموت لعله ينهي عذابه.
فكر (مهران) ماأغرب قدره وماأقساه، يعيش زوجا لإمرأتيّن ولا يحمل مشاعر لأيّهما بينما تبقى من سلبت قلبه محرمة عليه حتى يقضي الله أمره، مايمزق القلب هو إدراكه بأن حبيبته قد تصير لغيره وقد رأى خطيبها عن قرب فإشتعلت نيران غيرته، ومايثلج قلبه قليلا افصاحها عن حبها له لحظة ضعفها، وما شعره منها من خوف تجاه هذا ال(رحمان)..
سفر غريمه وإبتعاده حتى وإن كان لبعض الوقت يترك الخوف والقلق من عودته بعيدا عن تفكيره الآن، فلديه من المشاكل ما يكفي، ولكنه بالتأكيد سيبحث في لغز (شذاه) بالغد، أما الآن فسيذهب ل(بدارة) ليطمئن عليها، فقد كانت شاحبة اليوم بشدة، تظهر ثباتا ينم عن قلب طيب وشجاع، لديها من العطاء مايكفي العالم كله، يؤسفه عشقها الذي تحمله له بينما قلبه لا يستطيع عشق غيرها هي، (فدوى) أو (شذا)، لا فرق بين الإثنتين في عقله و قلبه.
أما (نوار )فكانت تجلس على الأرض بفستانها الأبيض لا تشعر بشيء، مستسلمة لألمها، محتقنة الوجه تضم رجليها إلى صدرها وتحدق في اللاشيء، اقترب منها (مهران) ونادى باسمها عدة مرات لكنها لم تسمعه، فانسلّ إلى الخارج تاركا إياها تغرق في مأساتها بصمت.
تحول الحلم الأبيض إلى فاجعة، ارتدت على إثرها فستانا كان يظنها الجميع حمامة بيضاء حرة، وحدها من كانت تلتف فيه كأنه كفنها، تلك الزفة التي طالما حلمت بها لما شعرت كأنها تشيّيع إلى قبرها؟ لما كانت نبضاتها أقوى من صوت إطلاق البارود؟ لما شعرت أن الرجل الذي يمسك بيدها الباردة يحمل روحا تفوق روحها برودة؟ إنها الناجيّة التي تحمل ندبات قدرها.
لا تنظر إلى مايرتسم على الوجوه ولا تستمع إلى ماتقوله الألسن.. فقط إنظر إلى القلوب لترى ماتحمله من مشاعر لن تظهر سوى حين يخلوا صاحبها إلى نفسه.. حينها ستظهر حقا مشاعره الحقيقية... ستجده يبكي بحرقة، أو يقفز من الفرح.
كانت تنام على سريرها متخذة وضع الجنين، تبكي بقهر، فقد آن لقناع الثبات أن يتصدع وتظهر كما هي بالداخل أضعف مما يتخيلون، تخيل وجوده مع أخرى يحرق فؤادها ويتركها تتلظى بنيران الغيرة، لا تستطيع أن تتظاهر بالرضى وقد بات في القلب بركان الغيرة ثائرا..
سمعت باب غرفتها يفتح، فوضعت كفها على فاهها تكتم شهقاتها بينما إقتربت خطواته التي تحفظها عن ظهر قلب ثم شعرت بجانبه من السرير يهبط وتسلل دفئه إليها، أغمضت عينيها كما لو كانت تتخيّل قربه، سحبها إليه و أسند جبينه إلى جبينها وقد وضع يده على وجنتها الملتهبة وقال بهمس:.
- من يوم ماعرفتيني وإنتي بتبكي، مازرعتش في جلبك غير الوجع، مالياش عين حتى أجولك حجك في رجبتي سامحيني، ياريت لو أجدر أخدك من إهنه لمكان بعيد يليج بجلبك الطيب.. إهتز جسدها وتعالت شهقاتها فأردف وهو يضمها إليه: - بكفياكي يابدري، الله في سماه إنى ماستاهلش حرجت جلبك عليّا، جدرك يابنت الناس علقك براجل مجسوم نصين بين جلبه وواجبه، لكن وحياة ولدنا اللي جاي إنتي بجيتي فى جلبي ووجعك بيجتلني.
لتضمه (بدارة)بقوة قائلة بلهفة: -بعيد الشر عنك ياسيدي وتاج راسي، ربنا يباركلي فيك ويخليك لية ولضناك، أهي بدري دي اللي جلتها نستني هم الدنيا كولاتها.
قبل قمة رأسها بحنان ينوى بالفعل نسيان عشقه وإلقاءه خلف ظهره فلن يتحدث مع والده عما يقلقه ولن يبحث في أمر(فدوى) أكثر، سينسى أمرها بالكامل داعيا الله أن يعينه على ذلك من أجل تلك المرأة التي يشعر بأنين قلبها المحطم ويتنازل عن عشقه من أجلها كما تتنازل من أجله دوما.. أغمض عينيه بإرتياح واستسلم لنوم عميق بعد ليلة عصيبة يتمنى مع إنبلاج فجرها أن ينتهي الحزن الذي قبع في القلوب و سكانها.
أفاق (توفيق)على ماء صفع وجهه فشهق ناظرا إلى محيطه فوجد نفسه في مكان أشبه بغرفة تبريد الخضروات والفواكه مقيد إلى كرسي يرتعد من البرد يجاوره ولده الذي استفاق بدوره وحدق فيه بهلع بينما يقف أمامهما كل من (عويس) و (عسران) يطالعانهما بغضب، ليزدرد (توفيق ) ريقه بصعوبة قائلا: -هو فيه إيه؟ عاملين فينا كدة ليه؟ هنموت من البرد، فكنا، فكنا ياعسران! قال (عويس)بغضب: -يعني مش خابر ياتوفيج؟!
قال(توفيق) الذي ازرقت شفتاه من البرد: -خابر إيه بس؟ ماتقول ياحاج عويس، حطيتلنا إيه في الأكل وجبتنا هنا ليه؟حابسني أنا وإبني ليه؟!انت مش قلت بنفسك إن همام مات وحافظ مات و والتار اندفن معاهم، وبعدين اخويا حافظ هو اللي إتجوز اختك، ذنبي إيه أنا وإبني؟ قال(عسران)بغضب: -إحنا مبناخدش تارنا غير من اللي أذونا وبس ياتوفيج. قال(توفيق):.
-وأني اذيتك في إيه؟ وتار إيه اللي ليك عندي؟ده أنا دمك ولحمك، ماتنطج ياعسران، ضاج خلجي عاد! قال(عسران): -دلوكك عتتحدت بلهجة ولاد بلدك يا توفيج؟ دلوكيت إفتكرت أهلك؟من ناحية أذيتني فأنت أذيتني كيف ماذيت خيك والحاج عويس، لمن جتلت مرت حافظ، الست حسنة وكنت عاوز تسرج مال بتها وتجتلها هي كماني. قال(رحمان) بغباء من الصدمة: -وإنت عرفت منين؟ قال(توفيق)بغضب: -إخرس يارحمان! ثم نظر إلى (عويس)قائلا:.
-اللي جالك الكلام ده ياحاج كداب وبيفتري علي أني وولدي، هاته كدامي وأنا أحط صباعي في عنيه. إبتسم (عويس)بسخريةثم ذهب إلى الباب وفتحه لتدخل هي وتتسع عينا (توفيق) بصدمةيعجز عن التفوه بحرف بينما تقدمت منهما( فدوى) تطالعهما بعينين اختلطت فيهما المشاعر حتى توقفت أمامهما ليقول (توفيق) بوجل: -فدوى! قالت(فدوى):.
-أيوة ياعمي فدوى! فدوى اللي يتمتوها، قتلتوا أمها وحرمتوها منها وكنتوا عايزين تقتلوها هي كمان، سمعتكوا بوداني فمتحاولش تنكر لإن الإنكار مش هيفيدك. أطرق (توفيق)برأسه وقد أدرك نهايته ومصيره يعلم أن الموت ماينتظره نتيجة فعلته الشنعاء، ليرفع رأسه قائلا:.
-أنا خلاص راجل كبير يابنتي وراضي بعقابي لإني أجرمت في حق أخويا لما قتلت مراته و كنت عايز أقتلك، أجرمت لما الطمع عما عينيا وحبيت أكوش على كل الفلوس لنفسي ومعملتش حساب اليوم ده ولا عملت حساب انك من لحمي ودمي، هدفع التمن كيف ماكان بس أبوس إيدك خليهم يسيبوا رحمان هو ملوش ذنب خلوه يمشي هيرجع روما ومش هييجي هنا تاني. هزت (فدوى)رأسها نفيا وهي تقول:.
-مش هينفع ياعمي لإنه ذنبه كبير زي ماحضرتك عارف ولا نسيت إنى سمعت كل كلامكم مع بعض، يعني عارفة إنه شريك معاك في الجريمة، ده غير توريطكم ليا ببضايع مستوردة تحت المواصفات القانونية، معايا كل الورق اللي يثبت أعمالكم القذرة. قال(توفيق)بإنكسار: -صغير وسمع كلامي، أنا طالب الرحمة ليه واعملوا فية اللي إنتوا عايزينه. قال(عسران):.
-مرحمتش عشان نرحمك ياتوفيج، الموت مش رحمة لأمثالك وأمثاله، السجن بين أربع حيطان ومواجهة أفعالك كل يوم في الزنزانة هو عجابكم اللي عيكون أجسى ميت مرة من الموت إتفضل ياحضرة الظابط. دلفت ضابط شرطة مع بعض العساكر في تلك اللحظة ليقول (عويس)بإرتياح: -المتهمين جدامك ياحضرة الظابط شوف شغلك وحجج العدالة، خلي الحكومة تاخد بتارنا وتار حافظ وحسنة كيف ما رادت بتهم.
ليطالع(فدوى) التي نظرت إليه بإمتنان إمتزج بحب وفخر بينما كان رجال الشرطة يفكون قيود (توفيق) و(رحمان) و يقودانهما للمركز لتأخذ العدالة، مجراها.
رواية على الرقاب قدر نافذ للكاتبة شاهندة الفصل الخامس والعشرون
مثل قطع الأحجية التي تتراص جنبا إلى جنب لتكمل الصورة، إكتملت بك، وبعد كل هذا الوقت أدركت أن ماينقصنا هو ما نمتلكه ونهمله، من الخطأ أن نعتقد أن ما لا نملكه هو ما ينقصنا في حين أنه ما نحتاجه فحسب لنظهر بصورة أجمل لا أوضح.. فنظرت إلى ما أملكه و اعتنيّت به، وقتها فقط شعرت بالاكتمال.
بعد منتصف هذا الليل الطويل وفي خضم مطره وبرودته كان (عزام) يسير جنبا إلى جنب مع (فدوى) بعد أن أمره والده بإيصالها إلى المنزل بينما ذهب كل من (عويس) و (عسران) إلى مخفر الشرطة لإستكمال التحقيق وقد حصلا على إعتراف مسجل من المجرمان بإرتكابهما جريمة قتل (حسنة الجبالي) مع سبق الإصرار والترصد. لاح المنزل أمامهما فقال (عزام) بهدوء: -إنتى زينة يابنت عمتي؟
هزت رأسها بصمت فأدرك أنها ماتزال تحمل في قلبها غضبا لتصرفه السابق معها ليردف بخجل: -أني كنت عاوز أتأسفلك على اللي حوصل مني جبل سابج معرفش إتصرفت إكده كيف، لكن وعهد الله مكنتش هأذيكي.. قالت (فدوى) بهدوء: -خلاص ياعزام اللي فات مات أنا نسيت.. توقف قائلا بلهفة: -يعني سامحتيني؟! هزت رأسها بإبتسامة هادئة ليقول مردفا: -وعتفكري ف عرض الجواز؟ إختفت إبتسامتها وهي تزفر بقوة واستأنفت السير مجددا قائلة: -تاني ياعزام؟!
جذبها من ذراعها وقال: - اصبري عليا أكده وفهميني! مش رايداني ليه، أتعاب يعني؟ في للول جلت إنك رايدة ابن عمك وعشان إكده زمآنة و معتجبليش، لكن دلوك مايمنعشي... قاطعته قائلة: -أنا رايدة حد زي ماقلت، وبحبه ومش هجوز غيره لو استنيته عمري كله. ظهر الإحباط على ملامح (عزام) وأطرق برأسه أرضا، شعرت (فدوى) بالشفقة عليه ومع ذلك حاولت تغيير مجرى الحديث فقالت:.
- ممكن أعرف ياعزام فضيلة عيبها إيه يخليك تحب عليها واحدة تانية؟ واصل (عزام) سيره وهو يعقد يديه وراء ظهره كما لو كان يفكر بإجابة يقنع بها نفسها قبل أن يقنعها ثم قال بملل: -مفيهاش عيب واصل، فضيلة بت عمي مرة زينة وعتحبني بس أنا محبتهاش ولجيت نفسي ميّال ليكي يافدوى. سألته باستنكار وقد رسمت على وجهها ابتسامة شك: - متأكد ياعزام؟ توقف ونظر إليها بحيرة وهو يقول: -متأكد من إيه؟ قالت: -من إنك مبتحبهاش.
كاد أن يتحدث فأشارت إليه وأردفت: - فكر قبل ما تجاوب، فكر كويس عشان متخسرش ياعزام مراتك ست طيبة وجميلة وبتحبك زي مابتقول، أينعم عصبية شويتين ومش واثقة من نفسها بس ده لإنها مش حاسة معاك بالأمان، جرب تديها الإحساس ده وهتلاقي واحدة تانية خالص، هتلاقي فيها اللي شدك لية جنب اللي أكيد حبيته فيها، فكر في كلامي كويس ياعزام وصدقني مش هتندم.
لم ينطق بحرف وبدا شاردا فتقدمته ودلفت إلى المنزل بينما تبعها هو بعد لحظات غافلا عن عيون إشتعلت بنيران الغضب وهي ترى من شرفتها زوجها يعود متأخرا مع غريمتها.
وفي مكان آخر تفوح منه الأحقاد كجيفة مغدور مهملة.. طرقات قوية على الباب جعلتها تسرع لتفتحه وما أن رأت زائرها حتى توهجت ملامحها: -جبت جطره يامصيلحي؟! أجابها وهو يتلفت يمنة ويسره كأنه يتأكد أن لا أحد يراه أو يتبعه وقال: -جبته ياستنا، اسمحيلي أدخل الدار للول لحدا ينضرنا.
تنحت جانبا فدلف بسرعة وأغلقت الباب و توجهت نحوه فأخرج حزمة صغيرة من معطفه ووضعها بين يديها، فتحتها بلهفة وهي تحدق ما بداخلها بمقت وهي تقول بحقد: -دي خلجاته يامصيلحي؟متأكد ياواد؟ فأجابها (مصيلحي): - هي بذات نفسيها، بعرجه كيف ماجلتي عاطيت الواد سويلم فلوس كاتير عشان ميغسلهاش ويجيبهالي طوالي.
وضعت يدها بين صدرها وعباءتها وأخرجت بعض مئات الجنيهات وقذفتها نحوه وعيناها تلمع شرا كما لمعت عيناه جشعا و هو يلتقط ماكسبه من خدمتها فلمح خاتم قد وقع منها سهوا وهي تخرج له النقود فخطفه خطفة سريعة ودسه بين أوراقه النقدية وهو يقول: - بركاتك ياستنا! رفعت يدها تشير له بالذهاب قائلة: - روح يامصيلحي دلوك، دامك خدوم وعتفرحني، بركاتي معاك وين ماتروح..
غادر بسرعة بينما أغلقت الباب و تقدمت تجاه الأريكة تسحب شالها وعلبة من الكرتون أعدت فيها مايلزمها من أجل إنتقامها ثم خرجت تسير بخطوات مسرعة تجاه المقبرة تتمنى أن يتوقف المطر حتى تنهي عملها بسرعة و تنال من قاتل ولدها، ثم تتفرغ ل (عسران) وابنة أخته لتدبر مكيدة تمكنها الحصول على حفيدها الذي سيعوضها فقدان ولدها وقد عزمت أن لن تتركه ل (عسران) مهما كلفها الأمر وتحرق قلبه عليه كما يحترق قلبها بلهيب لا ينطفئ.
وكما هناك لهيب يحرق القلوب التي تعاني الفقد هناك لهيبه مثله يحرق القلوب التي تعاني غيرة الحب... دخل غرفته فوجدها تقف وسطها مترقبة تضع يدا على خصرها والأخرى تضعها على بطنها وباغتته قائلة: -كنت فين ياعزام؟ أجابها بضيق وهو يتجه إلى خزانته يبحث عن شيء ما: -ملكيش صالح يافضيلة! اقتربت بغضب و رمت سؤالها في وجهه بتحقيق: -كنت وياها لحد دلوك فين ياعزام؟ طالعها ببرود ثم عاد لنبش أغراضه وهو يجيبها:.
-جلتلك ملكيش صالح يافضيلة! إتسعت عيناها بإستنكار قائلة: -يعني جوزي يرجع موخر مع مرة غريبة عنيه وتجولي ملكيش صالح يافضيلة، أومال ليا صالح فى إيه عاد؟ توقف عن البحث وهو يطالعها بصرامة قائلا: - إنتي مخلولة ياولية!كنك بتحاسبينى.. قالت بإندفاع: -ومحاسبكش ليه؟ أني مرتك... قاطعها وهو يمسك ذراعها بقسوة هادرا:.
-الله ف سماه لولا إنك حبلى ولدي في بطنك لكنتي عتشوفي مني اللي عمرك ماتتخيليه، مبجاش غير الولايا يحاسبوا الرجالة ويعلو صوتهم كمان، مشي من كدامي بدل ماأعمل حاجة تزعلك يابت سعدة. قالت بألم: -وإن ممشيتش عتعمل إيه؟ إشتعلت عيونه بالغضب قائلا: -لا عيهمني جرابة ولا عشرة ولا ولد وعضربك لمن أشفي غليلي وأرتاح يافضيلة، ومحدش هيلومني كمان. طالعته بصدمة قائلة: -كل ده لأجل الخواجاية ياعزام؟
نفض ذراعها وهو يعود لبحثه في خزانته، متجاهلا إياها فتقدمت بإتجاه سريرها وجلست عليه مطرقة الرأس تبكي بحرقة وهي تقول: -أني مبجاليش موطرح في جلبك ودارك وهعاود دار أبوي. وجد الأوراق التي يبحث عنها فزفر بإرتياح وهو يضعها في جلبابه قائلا: -تبجى جت منيكي يافضيلة! ثم خرج من الغرفة مسرعا بينما هي تنظر في إثره بصدمة قبل أن تعاود البكاء بمرارة إنتفضت على صوتها وهي تقول: -البكى غلط عليكي وعلى البيبي على فكرة.
طالعتها بحقد قائلة: -ملكيش صالح بية غوري من وشي ياوش المصايب. إقتربت منها (فدوى) وجلست جوارها قائلة: -مش هعاتبك ولا هزعل منك أنا جاية أقولك كلمتين وماشية علطول. طالعتها (فضيلة) بغضب فأردفت فدوى: - غصب عني سمعت خناقتكم ما أنا في الأوضة اللي جنبكم وسمعتك بتعيطي فقلت... قاطعتها (فضيلة) وقد نفذ صبرها: -جلتلك ملكيش صالح، غوري من إهنه وهمليني لحالي! حاولت فدوى أن تكون هادئة حتى تستطيع امتصاص غضب (فضيلة) فقالت:.
-يافضيلة إفهمي أنا مكنتش مع جوزك لوحدنا كان معانا خالي والعم عسران، كنا في القسم، عمي توفيق وابنه رحمان رجعوا البلد كانوا فاكرين يقدروا يخدوني معاهم بس اللي مايعرفوهش إني اكتشفت كل جرايمهم ومنها قتلهم أمي، الحمد لله اتقبض عليهم والشرطة بتحقق معاهم.. إتسعت عينا (فضيلة) بصدمة فأردفت (فدوى) بحزن:.
- عزام راجع ياخد لباباه ورق مهم أنا كنت اديته لخالي وهو أمن عزام عليه يدين المجرمين دول ويكشف عمايلهم السودا جوة وبرا مصر وأكيد راحله القسم دلوقتي، يعني الطبيعي يكون متعصب ومش فايق لغيرتك اللي ملهاش أي داعي لإن اللي بيني وبينه مش أكتر من رابطة دم حتى لو كان مشدود ليا فده لإنه شايفني مختلفة وبعد شوية وقت هيشوف إني مش مختلفة ولا حاجة وهيرجع لعقله ولمراته، هيرجع ليكي يافضيلة.
طالعتها (فضيلة) بعدم إقتناع لتواصل حديثها: -وبعدين البكى والعصبية و الغيرة مش هم الحل مش هم اللي هيرجعوا عزام لبيته وحضن مراته، فين شخصيتك وفين ثقتك بنفسك؟ طالعتها (فضيلة) بحنق قائلة: -جلتلك جبل سابج بلاش كلام المتعلمين ده، معفهمش منه حاجة واصل. استقامت (فدوى) تقترب منها أمسكت يدها وقالت:.
-غيرتك الزايدة عليه وخناقكم كل شوية بسببها هتخنقه مش هتسعده وتبينله أد إيه بتحبيه، خليه بطريقتك هو اللي يغير عليكي ويحاول يسعدك بكل وسيلة، اديله مساحة يشتاقلك و يفتقدك، وكمان بلاش كلامك الدبش فى وشه كل مرة، خليكي ناعمة ورقيقة. قالت (فضيلة) بمرارة: - يغير عليا مين؟، عزام! اللي عيغير على حدا عيكون بيحبه وأني عزام ميحبنيش. قالت (فدوى):.
-مين قالك بس الكلام العبيط ده؟أنا متأكدة انه بيحبك، انتي ست جميلة و طيبة وبتحبيه وبتتمنيله الرضا يرضى زي مابيقولوا، وأكيد بيحبك، فاضل بس إنك تهتمى بنفسك شوية زيادة، وتحاولي تشاركيه اهتماماته وتفاصيل حياته، أنا ممكن أنزلك تطبيق على تليفونك حلو أوى يخليكي تفهمي إزاي تسعدي جوزك وتقربيه منك. طالعتها ببلاهة فإبتسمت (فدوى) مردفة:.
-هفهمك بطريقة عملية بس خلينا الاول نتفق إنك لازم تمشي من البيت وترجعي بيت أهلك زي ماقلتيله. إتسعت عيون (فضيلة) قائلة: -عاوزاني أسيب البيت ويخلالك الجو معاه، شايفاني هابلة إياك؟ إتسعت إبتسامة (فدوى) لتصبح ضحكة مجلجلة وقالت:.
-لأ طبعا مش هابلة، بس عزام لازم يحس بإن فيه حاجة ناقصاه بعدم وجودك، لازم يعرف كمان إنك مش وحدة ضعيفة بتهدد وتقول أي كلام وخلاص، لازم يعرف إنك جبتي آخرك ويقف مع نفسه يحاسبها ويشوف قصر في إيه؟ولازم يجيلك ويعتذر ويطلب السماح كمان. شع الأمل في قلب (فضيلة) ولكنه مالبث أن خبا وهي تطرق براسها قائلة بحزن: -وإفرضي مجاش وهملني في دار أبويا الله يرحمه. قالت (فدوى):.
-معتقدش تحصل، أكيد هيروحلك ويعتذر كمان، ومتقلقيش لو عاند هخلي خالي يؤمره يروح يجيبك ويحب على راسك كمان، مش بتقولوها كدة برده؟ طالعتها (فضيلة) للحظة قبل أن ينفرج ثغرها عن إبتسامة رقيقة، لتقول (فدوى): -قومي بقى إغسلي وشك وتعالي عشان أوريكى تفتحي التطبيق إزاي.
وهناك من هذه الليلة جزء جميل، لحظات دافئة تجعل من برودة المطر أكثر شاعرية، شعر (محمد) أنه أهمل (زهرة) في اليومين الماضيين فعزم بينه وبين نفسه أن يعوضها بشيء يدخل السرور إلى قلبها.. بعد انتهاء حفل الزفاف الثقيل على قلوب الجميع أخذ (محمد) زوجته إلى المدينة، أخبرها أنه يريد قضاء بعض الوقت معها بعيدا عن العائلة فتوجها نحو الفندق...
كانت الغرفة رائعة وعطرة تفوح منها رائحة ورود البنفسج والشموع المعطرة بالفانيليا خطفت قلب (زهرة) وهي توزع نظرها حولها كأنها تكتشف العالم لأول مرة، ابتسامتها واسعة وعيناها تلمعان سعادة بينما (محمد) يستند على الجدار يطالعها بوجد.. استدارت نحوه وقالت: شكلها هي دي السعادة اللي كل الناس بتدور عليها.. اقترب منها وهو يناولها وردة حمراء بيد ويده الأخرى تزيح خمارها ليتناثر شعرها المخملي على كتفها وقال:.
وأنا لجيتها معاكي يازهرتي، شفتي قد إيه أنى محظوظ! أنى بحس وياكي إن ربنا عطاني وفضل عليا بنعم كاتير، أنعم عليا بالحب، أنعم عليا بالعيلة، وبالولد، وبالسعادة، الحمد لله أحمده ليل نهار. نزلت عبراتها على وجنتيها المتوردتين وقد أسندت رأسها إليه وقالت: كنت خايفة جلبك يشيل مني بسبب جوازة مهران على بدارة، لكنك كل مادى بتثبتلي إنك راجل زين، سندي وعزوتي..
أنا بحبك جوي يامحمد، بحبك وروحي متعلجة بيك، أنت عوض ربنا ليا، ربنا ما يحرمني منك ولا يختبرني فيك.. لفها بين ذراعيه وهو يشعر بالاكتمال لايريد من الدنيا شيء غير أن تبقى زهرته بين يديه يرويها بحنانه وتعبق بودها على حياته.
وكما يأتي الصباح على عجالة أتت معه أحداثه على ذات العجالة.. دلف (مهران) إلى غرفة والده بعد أن إستدعته والدته في تلك الساعة المبكرة، ليقول بقلق ما إن رآها: -خير يا أما، لسه ضو النهار ماطلعش؟! أجابته (ثريا) بلهفة: -جلجانة ياولدي، أبوك خرج بالليل ومعاودش لحد دلوك فرشته باردة يعني منامش إهنه. عقد (مهران) حاجبيه بحيرة قائلا: -عيكون راح فين يعني؟ أكيد راح الجامع يصلي وقعد هناك يستنى يصلي الضحى ويعاود..
فردت عليه أمه بمرارة: -مخابراش وجلبي جايد نار، هو لو كان عاود بالليل كنت حسيت عليه وبعدين هو كل مايجوم الصبح يصلي يجومني أصلي، اليوم ماجومنيش يبجى مارجعش من امبارحة لمن طلع مع عمك عويس. قال (مهران): -عكلم كامل وأشوفه جايز يكون خده على أي موطرح. قالت بحسرة: -كلمته وجالي إنه مشافوش، خايفه يكون طلع يتمشى وتعب هو لساه تعبان وعلى العلاج.. إزداد (مهران) قلقا ولكنه حاول تهدئتها قائلا:.
-متجلجيش ياأما، اني عخرج ويا كامل وعندوروا عليه ومش هنعاودوا غير وياه... قاطعهما صوته الغاضب وهو يقول: -عتدوروا علي، ليه؟عيل إصغير إياك؟ إلتفتا نحوه سويا فأسرعت (ثريا) تقول براحة: -حمد الله على السلامة ياحاج، جلجتنا عليك. قال (عسران): -وتجلجي ليه ياثريا؟ أني مش طفل مهعرفش طريجي، خرجت أشم شوية هوا، محوصلش حاجة يعني. طالعه (مهران) بشك، فملامح والده المرهقة تدل على أنه قضى ليلة عصيبة بالخارج، ليقول بهدوء:.
-كان فيه عاصفة بالليل ياأبوي وإنت عتخرج تشم هوا؟غريبة دي. قال (عسران): -المطر وجف والجو كان زين ياولدي، جلت أخرج أمشي رجلى هبابة، وأفكر في أموري، مفيهاش حاجة دي، هملوني بجى دلوك عشان أريح جتتي هبابة، مجادرش اصلب طولي وكبس النوم عليا. قالت (ثريا) بلهفة: -هجيبلك لجمة تاكلها جبل ما تنام ياحاج. قال (عسران) وهو يخلع عبائته ثم يتسطح على السرير: -ماليش نفس ياثريا، سيبوني أنام ومحدش يصحيني هصحى لوحدي.
دثرته (ثريا) قائلة: -وماله ياحاج نام وإرتاح يا خوي. ثم جذبت يد (مهران) ليخرجا من الغرفة وبداخل تتناطح الشكوك لينوى التأكد منها جميعا ضاربا بعزمه - المضي قدما - وما قرره بالبارحة عرض الحائط.
كان يجلس مع زملائه المساجين يتناول إفطاره لم يستطع أن يتناول سوى بضع لقيمات يسد بها جوعه يدرك أنه قد يخرج من السجن بعقاب يسير لجريمته إن أثبت المحامي أنها جريمة شرف ولكنه يدرك أيضا أنه ميت دون شك وقد علمت (عوالي) الآن أنه من قتل ولدها، إنتفض على صوت زميله الذي يجاوره قائلا: -مبتاكلش ليه يامرزوج؟ قال (مرزوق): -مليش نفس، كلت اللي كلته الحمد لله. ربت زميله على يده قائلا:.
-كل ياصاحبي وإنسى همك وبإذن الله ربك يفرجها.
هز (مرزوق) رأسه وفجأة تجمدت أوصاله وغامت عيناه ونهض متجها إلى حائط الزنزانة بخطوات بطيئة خالية من الحياة قبل أن يبدأ بضرب رأسه بالحائط بقوة وسط هلع رفقائه، إقترب أحدهم منه يحاول منعه فدفعه بقوة شديدة ليقع أرضا بينما ارتفع نداء البقية على الحارس ليأتي بسرعة لنجدته، اقترب الحراس من الزنزانة يتفقدون أمرها ويشاهدون ماحدث باستنكار لدقيقة قبل أن يقع السجين أرضا بلا حراك وقد تفصد جبينن دما، فحصه العسكري بوجل ليعلن بدهشة أنه فارق الحياة.
كانت تجلس متكئة على عصاتها تطرق أرضا، صامتة لا يستطيع المحيطين بها أن يشوشوا هدوءها إلى حين دخول المكان رجل فارع الطول أسمر البشرة ذو شارب عريض يبتلع وجهه قائلا: -لجيتها ياجدتي! رفعت تلك العجوز وجهها الذي اعتلت ملامحه تجاعيد خط الزمن سطوره عليها وجحظت عيناها فبدتا بعمق المحيط تلتمعان بقوة، وهي تطالعه ثم قالت: -إسمها و موطرحها؟ فأجابها الرجل: - شيخة سماحات، ساكنة في البلد يمتنا.
تثبتت الأنظار نحو العجوز التي قالت بصرامة: -متأكد ياولد إنها شيخة جادرة وليها كرامات؟ قال الرجل: -طبعا متأكد، لكن خدي بالك يا جدتي تبجى صديجة المحروجة عوالي وممكن مترضاش تبيعها. غامت عينا العجوز و زادت حدة نظراتها وهي تقول بصوت حازم: -مفيش حدا مش للبيع والكل ليه تمن. لتنهض وتخطو للخارج وهي تردف: -هم بينا ياسرحان نروحلها. فتبعها يسألها كما لو كان معترضا: -عتروحيلها بنفسك يا جدتي.