رواية على الرقاب قدر نافذ للكاتبة شاهندة الفصل العشرون
تركونا ورحلوا.. خسرناهم ولن يعودوا.. الفراق يؤلم الخفقات.. والمرارة تعث بالقلوب... بعد أن كان الحب يجيش بالصدور.. لم نرد العشق يوما.. وبنينا أسوارا حول قلوبنا.. فاقتحموا أسوارنا وإجتاحونا بقوة.. أيقظوا القلوب من سباتها.. لتنتفض بين الصدور عشقا.. فرفعنا راياتنا واستسلمنا بلا شروط.. لم نطلب سوى حبا وحنانا.. لم نبغى سوى الأمان.. عدنا لنرى الكون جميلا زاهيا.. فعاد بالغياب يتشح بالسواد.. وعاد للقلوب الشجن..
تصدعت جنباتنا ببرودة قاسية.. تبكى العيون بلوعة.. فقد رحل الحبيب، ولن يعود. وقفت(نوار)تطالع هذا الكوخ بمرارة، فقد شهد عشق قلبها ونحره، شهد حياتها ورداها، شهد لحظة ميلاد وآهة موت، تساقطت دموعها أنهارا، وهي ترى تلك المدعوة أمه تجلس أمام الكوخ تنوح وتلطم وتخمش وجهها، تنادي على الغائب بكلمات تدمى القلب وتزيده أسى وحرقة.. روحت فين وسيبتني ياضنايا؟! مش عتاجى؟ خدك منى الموت، لع، خدوك منى ولاد هوارة..
وهملتني لحالي.. ماليش حدا غيرك.. لا أب ولا خي.. ليه روحت ياولدي؟ الدار من غيرك سو.. والحيل إتهد.. مبجاليش عازة فى الدنيا من بعدك.. ولا بجالى ونيس.. يمين الله ماعسيب اللى جتلك لحظة يتهنى ويعيش.. ولازمن أطول رجبته وأمسك فى خناجها لحد ماتطلع منه الروح.. لأجل ترتاح روحك ياولدي.. لكن آني، عمرى ماهرتاح خلاص.. روحت ياغالى وخدت معاك الراحة والفرح.. روحت ياغالى وسيبت أمك فى جلبها نار متبردش.. صبرنى يارب.
هطلت دموع (نوار)تزامنا مع كلمات(عوالى)، قبل أن تتطأطأ برأسها وتتجه إلى المخفر لترى والدتها بقلب مات حيا.
بالأمس.. كانت تمشى بخطوات ثابتة بإتجاه مكان لطالما إرتادته من أجل الشر، ولكنها ويشهد الله لم تعد تضمر فى قلبها حقدا او شرا لأحد، ولم تعد ترغب فى الحياة سوى سعادة طفلتها، حتى وان كان على حساب سعادتها هي. تراءى لها هذا المنزل الصغير، فتقدمت منه بسرعة وطرقت بابه بقوة، سمعت صوتها وهي تقترب قائلة: -طيب طيب، عتتسربع على إيه ياللى عتخبط؟!الدنيا عتطير إياك.
ثم فتح الباب وظهرت هي على عتبته تطالعها بحدة قائلة: -خير يابومة، مش خلصنا؟جاية تانى إهنه ليه ياحزينة؟ تجاهلت( زبيدة) كلماتها، فمن أجل إبنتها قد تتنازل عن كل شيئ حتى، كرامتها، لتقول بهدوء: -رايدة أتحدت وياكى ياعوالى فى موضوع مهم. قالت(عوالى) بنفاذ صبر: -أباه، ماتتحدتى ياولية، ماسكة لسانك إياك؟ تلفتت (زبيدة )حولها قائلة: -مش إهنه أومال، خلينا نتحدت جوة الدار. أفسحت لها (عوالى)الطريق قائلة:.
-إدخلى أما نشوف آخرتها إيه وياكى. دلفت (زبيدة)تتبعها(عوالى)إلى الداخل بعد أن أغلقت الأخيرة الباب، لتبتدرها (زبيدة)قائلة: -كيف ولدك راجى؟ وضعت (عوالى)كفا على كف، قائلة بغل: -مبجاش ولدي، بس ععمل إيه؟الصبر وكل حاجة عترجع زي ماكانت. قالت(زبيدة) بتوتر: -مبجاش ينفع ياعوالى، لازمن نجوزهم. إتسعت عيناها قائلة: -عتخرفى تجولى إيه ياولية، نجوز مين؟ قالت(زبيدة)بحزم: -راجى ولدك وبتي نوار. طالعتها (عوالى)بصدمة قائلة:.
-كنك جنيتى، أنى ماصدجت ينساها. قالت(زبيدة): -جلتلك مبجاش ينفع، بتي حبلى. تجمدت (عوالى)وكأن على رأسها الطير، تطالع (زبيدة)بجمود للحظات، قبل أن تقول ببرود: -وإيه يعنى؟خليها تسجط الولد. إتسعت عينا (زبيدة )قائلة: -عتخرفى تجولى إيه؟ ظهر الغضب على ملامح(عوالى) قائلة: -هي مين دى اللى عتخرف ياولية، أجفى عوج واتكالمى عدل لإما جسما بالله أخليكى كيف الخرجة البالية واللى ملهاش عازة واصل انتى وبتك.
رغما عنها شعرت(زبيدة)بالخوف فطالعتها بوجل، لتردف (عوالى)قائلة بغضب: -ولدي عنديه بدل العيل عشرة وعشرين، ومفيش مرة إتجرأت تطالبه بالجواز، بتك فى حضنك، سجطي الولد وستريها، أو غورى انتى وهي من البلد كلياتها، وريحونا منيكم. قالت(زبيدة)بحسرة: -بجى إكده ياعوالى، عتعملى فية وفى بتى إكده؟منيكم لله، مش مسامحاكم واصل، ربنا ينتجم منيكم زي ماإنتجم منى جبل سابج. قالت (عوالى)بغضب:.
-إطلعى برة ياواكلة ناسك، عتدعى علية فى داري، إمشى من كدامى، صبري نفد وانتى مش كدى ولا كدهم. أسرعت (زبيدة)بالخروج من الدار وهي تهرول بعد أن شعرت بحركة شديدة فى تلك الحجرة خلفها، تسقط أرضا من هلعها ثم تقف مجددا وتسرع إلى دارها، بينما إعتلى وجه (عوالى)غضبا شديدا وهي تقول بغيظ: -الله يحرجك ياولد عسران، عتجيبلى المصايب لحد عندي، وأنى منجصاش مصايب.
مشت بخطوات غاضبة بإتجاه هذا الكوخ تنوى أن تقرعه بلهجة شديدة، وتفرغ غضبها المستعر فى وجهه، لتتوقف بالقرب من الكوخ، تتريث قليلا وقد عاد إليها عقلها يحذرها، إن ذكرت إسمها أمامه أو حادثته بشأنها، ستعود إليه ذكرياته معها وسيحن لها بكل تأكيد ويذهب كل مافعلته لتجعله يسلاها أدراج الرياح، لذا فقد همت لتعود من حيث أتت، ولكنها عادت لتتجه إلى الكوخ كي تطمان فقط أنه ادى مهمته كما طلبت منه.
وجدت باب الكوخ مفتوحا فأدركت أن المراة قد غادرت، لتدلف بهدوء، وماإن وقع بصرها على ولدها المذبوح وتلك المرأة المقتولة، حتى تسمرت فى مكانها وإتسعت عيناها هلعا، لقد قتل طفلها، ذبح بسكين غادر، تركها من كان لها كل شيئ فأصبحت لاشيئ.
إقتربت منه ببطئ، تراه جثة هامدة، جثت بجواره لا تقوى على فعل شيئ سوى التطلع إليه بعيون مصدومة تزرف الدمع، مدت يدها إلى وجه تتلمسه فشعرت ببرودة قسماته تحت أصابعها، رفعت يدها إلى عينيها تتطلع إلى تلك الدماء التى أغرقتها، لطالما تلوثت يداها بالدماء دون أن يرف لها جفن، ولكن دماءه هو أطلقت مشاعر الأمومة بداخلها وجعلتها تئن ألما، لتصرخ بكل قوتها وتعلو صرخاتها، تنتحب بقوة، تلطم وجهها وتخمشه، يعلو صوتها بكلمة واحدة لا غير، ترددها مرارا وتكرارا:.
-ولددددي، ولددددي.
هدأت صرخاتها ولم تجف دموعها وهي تنعى روح أخذت معها روحها للردى، وقعت عيناها فى تلك اللحظة على خمار تعرفه جيدا، إنه خمار فتاة تسببت فى هذا المصير لولدها بكل تأكيد، لابد وأن أمها(زبيدة)هي من قتلت ولدها، إلتمعت عيناها بالشر وقد وسوس لها الشيطان بحتمية قتل(زبيدة)ل(راجى)إنتقاما، ووجوب الإنتقام لمقتله، لتخرج باحثة عنها فى كل مكان بالقرية، بينما كانت (زبيدة)تبحث عن(نوار)فى طرقات البلدة بدورها، بعد أن عادت لمنزلها فلم تجدها، كانت (عوالى )هي أول من وجدت ضالتها، لتتوقف مطالعة (زبيدة)وهي تسير فى الطرقات هائمة على وجهها، لتتأكد من ظنها، هي من قتلت (راجى)وتهيم على وجهها خوفا، ولابد من أن تنال عقابها، إندفعت تجاهها تصرخ بإسمها فتوقفت(زبيدة)مصدومة من هجوم (عوالى)عليها تحاول أن تمسك خناقها وتقتلها، قاومت( زبيدة)( عوالى) بكل قوتها ولكن الأخيرة كانت أقوى بكل تأكيد وقد بدت كمن أصابها مس، تتسع عيناها بجنون وهي تصرخ:.
-لازمن أجتلك كيف ماجتلتي ولدي، لازمن آخد روحك كيف ماخدتى روحه. لتقول (زبيدة)من بين أنفاسها اللاهثة: -انتى إتجنيتي يامرة، أنى عجتله ليه عاد؟ تجمهر الناس حولهم، يحاول البعض تخليص(زبيدة )من يد (عوالى)ولكن دون فائدة، فقد بدت كمن تلبستها قوة عشرين رجلا أو ربما شيطانا.
كان هناك من إستدعى قوة من الشرطة، فأحاطت بالجميع وإستطاع رجالها تخليص (زبيدة)من يد (عوالى)التى إتهمتها بقتل (راجى)فأخذت الشرطة كلتاهما إلى المخفر، وأرسلوا البعض إلى مسرح الجريمة للتحقيق.
كانت (نوار)تسير كالهائمة فى الطرقات، تتذكر عشقها وخيانته لها ثم موته، على شكل ومضات تحرق القلب باللهيب، حين وجدت فجأة هذا التجمع من الناس لفت إنتباهها، إقتربت منه فرأت الشرطة تسحب والدتها وتلك المأفونة لعربة الشرطة، إتسعت عيناها بجزع ومع إنطلاق السيارة، هرولت ورائها تصرخ بإسم والدتها بلوعة، حتى سقطت أرضا من الإعياء، فنهضت تطالع سيارة الشرطة المبتعدة عنها بألم، لتجر أقدامها إلى دارها وتستنجد بأهلها، وما إن أجاب محدثها حتى صرخت بلوعة:.
-إلحجنى ياخال.
عودة للوقت الحاضر كانت تقف على باب المخفر شاردة حزينة، لا تدرى ماذا تفعل وقد منعوها من زيارة والدتها، إنتبهت على صوت مكابح سيارة فإلتفتت إليها وماإن رأت (مهران) حتى هرولت تجاهه، تقول بلهفة: -مهران، إلحجنى ياولد خالى. ربت (مهران)على كتفها قائلا: -إهدى يانوار وجوليلى، عمتي فين الحين والشرطة خداتها ليه؟
كادت (نوار)أن تتحدث ولكنها توقفت وهي تتطلع إلى هذا الرجل الذى جاورهم ويتطلع إليها بإهتمام ليسمع مالديها، فربت (مهران)على يدها قائلا: -ناجى كيف ماإنتى عارفة بجى واحد منينا، ده غير إنه محامى وهيدافع عن أمك ولازمن يكون خابر كل شي، إتحدتى يانوار الله يرضى عنيكى وجوليلنا الحجيجة. أطرقت (نوار)برأسها ألما وهي تقول: -هجولك ياأخوي، هحكيلك على كل شي ومش عخبى عنك حاجة واصل.
لترفع وجهها فى تلك اللحظة تطالعه بنظرة أمل قائلة: -بس توعدنى اللول إنك هتخرج أمى من حبستها وتثبت برائتها، يشهد الله إن أمى مش ممكن تجتل حدا واصل.. لتردف فى لوعة: -دى كانت وافجت خلاص إنى أتجوزه، ليه عتجتله عاد؟ قال (مهران) وقد وقع قلبه بين قدميه حين أوضحت (نوار)ان والدتها متهمة فى جريمة قتل: -جلتلك تهدي وتحكيلى من اللول يانوار. طالعته بتصميم قائلة: -لمن توعدنى.
طالعها بصمت، غير قادر على منحها وعدا لا يستطيع تحقيقه، ولكن إيمانه بأن عمته لا يمكن أن ترتكب جريمة قتل جعله يقول بكل حزم: -أوعدك.
كان يسترق إليها النظرات، يراها تحنو على الجميع وتقدم يد المساعدة دائما.. وكأنها إبنة بلد أصيلة وليست غريبة كما تبدو ملامحها ولهجتها.. وكأنها أم حانية ولدت فى تلك الأرض واكلت من خيرها.. فمنحت الجميع، حنانها. حانت منها نظرة إليه فأمسكته بجرم التطلع إليها، كانت نظرتها حانية رقيقة كما لم تنظر إليه إمرأة يوما.. أطرق برأسه وهو يشعر بتلك المضغة بين أضلعه تثور.. تتوق إليها...
ربما عاش الوحدة طويلا حتى أصابه الخرف.. يدق قلبه فى هذا السن الكبير.. وتشتاق روحه وتتوق لإمرأة.. وكأنه عاد مراهقا، يعشق من نظرة. أفاق (عويس)من أفكاره على صوت هاتف يرن، ليسرع (عسران)بالرد عليه، بينما إلتف حوله الجميع، وهو يستمع بإهتمام لمحدثه قبل أن تتسع عيناه بصدمة..
لقد قتل (راجى)، ذبح بسكين الغدر، قتل ولده، نعم ولده، مهما إدعى وأنكر أبوته ل(راجى)، يظل له إبنا، يشعر لأول مرة فى حياته بطعم مرارة الغياب والفقد، ليصرخ بصمت فى جوفي بركان.. كسرني فقدانه.. وإرتجفت اضلعي ألما.. وخنق الفؤاد الأسى وذبحته اللوعة.. إلى أين أهرب بأنين العتاب ولسعات اللوم.. إلى أين أهرب من سوط الضمير ولفحات الذنب. لا أستطيع ان اذرف الدمع على الفراق.. فقد كان غيابه ذنبي.. كما كان وجوده ذنبي..
ولد يتيما وعاش يتيما ومات يتيما، فى حضرتي. شعر بخناجر حادة تقطع صدره، مد يده إلى حيث مضغته التى آلمته بقوة، خفقاته تذبحه، وأنفاسه تذوى، بينما تتسلل الزرقة إلى ملامحه والرؤية تتغشى، ليسقط فجأة وقد لفه السواد بينما يصرخ بإسمه، الجميع.
رواية على الرقاب قدر نافذ للكاتبة شاهندة الفصل الحادي والعشرون
رحيل آخر بدون سابق إنذار، بدون وداع وبدون صفح، كيف يواسي المرء نفسه وبداخله كل هذا الإنشطار؟ اللسعة التي يسببها غدر الفقد تصيب في مقتل، تلك الشهقة المُكذبة التي يحدثها ما كان ليست سوى انتفاضة أخيرة للروح قبل أن تركن إلى عذابها...
ما أصاب (عسران) بسبب ما وصله عن مقتل( راجي) لايمكن وصفه، شيء بداخله قد هرم فجأة، كأن أحد أضلعه قد كُسر، كأن قلبه تقلص لنصف حجمه، أنفاسه تضاربت واكتسحه عرق الذعر البارد، كل عضلة فيه ارتجفت ووقع على الأرض مغشيا عليه انكبت عليه عائلته بين صريخ وهلع.. استغاثت (راوية )بالعم (كامل) بينما( بدارة) تطلب رقم الإسعاف لكن (فدوى) خاطبت العم( كامل) بحزم:.
نشيله للعربية ياعم كامل دي أزمة قلبية مانقدرش نستنى وصول الإسعاف. نادى العم( كامل )على البستاني وتساعدا في حمله إلى السيارة التي تولت قيادتها (فدوى) بينما جلست (راوية )في الخلف تحتضن جسد والدها، أما البقية فلحقوا بهم مع( كامل) إلى المشفى.. حاولت (راوية) بكل الطرق جعله يستفيق فلم يفدها ذلك سوى بزيادة انفعالها بين نحيب وخوف فنهرتها (فدوى)قائلة:.
بس ياراوية انتي بتتعبيه أكتر بطلي كلام وبكى، خلاص بقينا على باب المستشفى! ركنت( فدوى) السيارة ودخلت إلى قسم الطواريء تصيح بالمساعدة، أسعف الحاج (عسران) وبعد الفحوصات الأوليّة طلب الطبيب بنقله إلى غرفة العمليات بسرعة قائلا: - لازم نعمله قسطرة. انكبت( راوية) بين ذراعي( فدوى) ملتاعة، وقتذاك دخلت بقيّة العائلة، كانت( ناتالي )تسند( ثريا) التي ترتعش خوفا بينا اقتربت (زهرة) من أختها قائلة بوجل: هاا حصل إيه؟
فردت (فدوى )بثبات حتى لا تزيد من خوفهم: الحمد لله حاجة بسيطة ياجماعة، ربنا قدر ولطف، هيبقى كويس بإذن الله ونرجعه معانا! بينما صرخت بها (فضيلة): -بت انتي، ماريدينشي فزلكة متعلامين، جولي اللي فيها خلينا نطمن! أشاحت( فدوى) بوجهها عنها وأمسكت يد (زهرة) وقالت برفق: أزمة قلبية وعدت الحمد لله، هيدوه العلاج المناسب، صدقيني! لتقول( ثريا) بصوت متقطع وأحد الممرضين يسلم (فدوى) وثيقة للتوقيع عليها:.
ايه؟، الورجة دي تبع ايه؟ ماتخبيش عليا، هو حصله حاجة؟ الحاج خدوه على فين؟ أخذت (فدوى )الوثيقة من الممرض وسلمتها ل(زهرة ) قائلة: وقعي يازهرة دي إجراءات المستشفى؟ خطفتها (فضيلة )من بين يديها وطالعتها لكنها لم تفهم شيء لأنها مدونة باللغة الإنجليزية فقالت: مش عنوجع على حاجة جبل مانعرف فيها ايه! وقفت (فدوى) تطالعها بذهول قائلة: هيعملوله قسطرة! اخلصي هاتي الزفتة من ايدك عشان نلحقه!
وقعتها (زهرة )بيدين مرتجفتين بينما تقدمت (فدوى) من( ثريا) وقالت بحنو: هيبقى كويس بإذن الله ادعيله انتى بس! فقال الممرض: حضراتكم ممكن تستنوا في الويتينغ روم ولا في الكافي ماينفعش تقفوا هنا! فأومأت له( فدوى) بتفهم بينما تمتمت (فضيلة): وده ماله هو راخر كنها مشتشفى أبوه! رمقتها (فدوى) بنظرات غاضبة وهم يتوجهون نحو غرفة الانتظار.
خسرت التانين، جالتلي روحيله مش عشان رضيت بيه عشان تحرج جلبي عليه، أكيد هي اللي جتلته! ماعرفاش إنها دبحتني بعملتها.
ظلت كلمات( نوار )تنخر في رأس (مهران) الغاضب وهو لايصدق أن كل ذلك حدث دون أن ينتبه، لقد غرق في مشاكله لدرجة أنه لم يسأل عن حال( نوار) وعمته بعد أن غادرا منزله، كان يلوم نفسه بشدة، بداخله حسرة وكسرة، كيف لأخ أن يتحمل هذا العار الذي انغمست فيه أخته بسبب إهماله لأمرها؟ يتخبط دول أن يثبت على حال هل يشفق عليها أم يغضب منها؟
تلك لم تكن (نوار )أبدا، تلك الجالسة هناك كانت شبح إمرأة ذابلة، الوجوه تشحب من الحزن لكن وجهها أخذ شكلا آخر، ذاك السواد والانطفاءة رسما بؤس مخيفا على ملامحها.. قطع حبل أفكاره سؤال( ناجي): مهران؟ إنت سامعني؟! استدار( مهران) إليه زائغ البال وقال: هاه! جلت حاجة ياناجي! قال(ناجى): جلت كتير ياخوي بس شكلك ماسمعتنيش! المهم في اللي جولته إن دي جناية والشهود كلهم ضد عمتك، يعني القضية لابساها! قال(مهران)بحسرة:.
لا حول ولا جوة الا بالله، اللهم لا اعتراض! قال(ناجى): للأسف جثتين متنكل بيه، لو ماتحاكمش عليها بالاعدام هيتحكم عليها من عشرين سنة لخمسة وعشرين! قال(مهران)بفزع: وه! هو العمر فيه حاجة، عتموت اهناك مش هتتحامل، لازمن نلاجي حل! أجابه ناجي بتوجس: فيه حل! لو أثبتنا إنها قضية شرف هتاخد حكم مخفف شوية! قذف (مهران )بسيجارته غاضبا: جنيت اياك؟عايز نفضح البت جدام الخلج! قال (ناجى):.
زي ماجلتلك دي جناية، أنت لازمن تضحي بحدا فيهم، ياعمتك يانوار! هيطلبوا شهادة نوار وأكيد الموضوع هيتفتح من أوله وطبعا عوالي مش عتسكت، كده كده جصتها مع راجي هتتعرف! غرق (مهران )مرة أخرى في بحر أفكاره العنيفة وهو يحدق في (نوار )الجالسة على أحد المقاعد بلا روح تضم بطنها بكلتا يديها.
منظرها يمزق قلبه، كان يشعر بمؤاساتها، الفتاة التي جعلها الجميع تشعر أنها لاتستحق الحب لا من أجل طيبتها أو جمالها، جعلوها تشعر أنها عبء بسبب أخطاء غيرها حتى هو في وقت ما كانت ثقيلة على قلبه بسبب تصرفات عمته، ربما لذلك وجد رحيلها من المنزل شيء مريح فلم يكلف نفسه السؤال عنها.. مرة أخرى يقاطعه (راجي )قائلا:.
أنا هطلب مجابلة العمة زبيدة واسمع منيها حصل إيه، مافيش داعي تبجى، خد نوار وروح، البنت تعبانة جوي خليهم ياخدو بالهم منها بالبيت! مسح (مهران )على وجهه بقلة حيلة فربت( راجي) على كتفه مواسيّا، توجه (مهران )نحو( نوار )وقال بهدوء: جومي يانوار نروح لازمن ترتاحي! طالعته (نوار )بعينيها المحتقنتين لثوان دون أن تتحرك ثم قالت: نروح فين؟ قال: نروح البيت ياخيّتي! قالت: البيت؟!
منظرها الذي يجعل الكلمات تغص في حلقه لم يسعفه بالإجابة فأومأ برأسه ودموعه تقاوم النزول، لتردف هي قائلة: البيت؟ أنهي واحد منيهم.. بيت أبوي تجصد؟ البيت اللي شلت ذنب صحابه بين الناس! مش البيت ده بردك بيسموه بيت العز؟ البيت اللي تلاجي فيه البت الدلال والرعاية من أهلها، البيت الدافي بالحب اللي لو كرهك العالم كله عتحس وانت جواه انك بأمان، طب ماحسيتش فيه بالأمان ليه؟ كان غربتي ليه؟ كنت مشوهة جواته ليه؟
ماعيزاهوش، البيت ده مش بيتي! انهمرت دموع (مهران) فأشاح بوجهه يمسحها وهو يعض على شفتيه بقهر لكنها أردفت: ولا جصدك بيت العيلة؟ بيتكم اللي ماكنش ليا فيه موطرح بردك، لجيت فيه الشفجة بس مالاجيتش الحب، البيت اللي عرفت فيه إني مش زي البنات ولا عتوازى بكفة معاهم عمري، البيت اللي كانت أمي رايده يبجى ملكي وأمك كانت بتحاول يبجالي مأوى بس.. ماعيزاهوش، البيت ده مش بيتي!
ظل (مهران) لايقوى على مواساتها وهي ظلت تطالعه كما لو كانت نظراتها تخترقه دون أن تراه وهي تردف: ولا جصدك بيت راجي؟ بيت أحلامي اللي اتبنى على الكدب، ماكانش جصر ولا بيت بعفش فخم، كان عشة بسرير خشب و وابور جاز بس فيه دفى حضن الأم، البيت الوحيد اللي حسيت أنه احتواني بدون شفجة ولا همه نسبي، البيت اللي خطيتي فيه كانت حب، حبيت راجي من كل جلبي وسامحت كدبه وغلطته فى حجي، آمنته على روحي من غير ماأفكر مرتين..
البيت اللي شهد حبنا بردك هو هو اللى شهد على موتتنا.. ماعيزاهوش، البيت ده مش بيتي هو كومان! طب أروح فين ومافيش منهم بيت بيتي؟ أروح فين وأنا مش لأي حد؟ عندك بيت يساع كربتي، يساع سواد بعمر طفل جاي على الطريج لأم خاطية وأب خاين؟ عندك بيت يساع وجعه ويدارى فيه من نظرة الخلج اللي عتعريه؟
البيوت مش بس مساكن ياواد خالي! البيوت ستر عورة الجلوب والأرواح، مالجيتش فى أي بيت ستر لجلبي ولا ستر لروحي! عن أي بيت جاي تتحدت وتاخد بيدي عليه!؟
لم يستطع قول شيء أمام هذا الحطام الذي يهوى شيئا شيئا على الأرض مخلفا خرابا تحت أنقاضه تموت براءة فتاة لم يرأف بها أحد، أمسكها من ذراعها وجعلها تقف، استندت عليه وسارا معا إلى السيارة، فتح لها الباب وجعلها تستقلها وتوجه إلى خلفها فاستند عليها وراح يبكي بنشيج مختنق وهو يعض على قبضته كي يمنع صوته من التحرر وكل كلمة قالتها انغرزت كسهام حامية داخل قلبه..
الحقيقة دائما مرّة يتجاهلها الإنسان لكن وقت مواجهتها تجري في نفسه مجرى السم في الوريد فتنهار لها سائر الروح. حاول تمالك نفسه قليلا، مسح وجهه بكلتا يديه بعنف لكن احمرار عينيه يفضحه، قاد السيارة بصمت حتى وصل إلى بيتهم بالمدينة.. ترجلّ من السيارة فوجد الحاج (عويس) يهرول بسرعة يسحب عصاته وراءه وقال: هاه، مهران كويس انك عاودت! خدني معاك ياولدي، استر يارب، استر يارب! تقدم منه (مهران )بحيرة وقال:.
في حاجة ياعمي، عتروح فين مخضوض اكده؟ توجه( عويس) نحو السيارة وأمسك بيد (نوار) يساعدها على النزول وهو يردد: - الله يصلح حالك يابتي. ثم نادى: ياجمالات، ياجمالات، تعالي خدي نوار جوه وخدي بالك منيها لحدن ما يعاودو البنات! كل هذا وسط ذهول (مهران) الذي راح يستغفر في سره ويتنبأ أن هذا اليوم لايزال يحمل غُلبا كبيرا..
استقل السيارة بجانب( عويس) الذي فهم أن( مهران) لم يصله خبر مرض والده ففضل أن يصمت ولا يخبره حتى لا يقلقه كأنه لم يفعل منذ قليل، تجاهل سؤاله قائلا: سوج ياولدي على المشتشفى، صديج ليا تعبان هبابة! قال (مهران): إن شاء الله خير ياعمي ماتجلجش كده اومال! أسر( عويس) ذاك الهم في نفسه وصمت إلى أن وصلا إلى المشفى..
توجها نحو قاعة الانتظار حيث طلبت منه (بدارة)، وقتذاك كان الطبيب يقف وسط العائلة يشرح لهم عن حالة (عسران)... تقدم (مهران) مذهولا أكثر من تواجد أهل بيته جميعهم فاختلّ نبضه وأمسك بقوة قلبه فجعا، تساءل بصوت خفيض: ايه اللي بيحصل هنا ممكن حد يجولي جبل ما أنجلط؟ بعيد الشر!
قالتها كل من (فدوى) و(بدارة) معا بذات الوقت ونفس واحد، من الجيد أن البقية كان يركز مع الطبيب فلم يسمع الفتاتين غيره فكفاهما حرج مشاعرهما فسكتت( فدوى) لتقول( بدارة): عمي تعب فجأة، بس الحمد لله لحجناه! قال الطبيب مخاطبا إياه:.
ماتجلجش يامهران بيه، الحمد لله وضع الحاج عسران مستقر، ضغطه منخفض شوية هيتعدل باذن الله على الصبح كده، هيشرفنا الليلة دي بالعناية وبكرة باذن الله ننقله لغرفة عادية ولو صحته عال تاخدوه معاكم، ألف سلامة عليه! مافيش داعي تبقوا هنا روحوا وهتشوفوه بكره فى ميعاد الزيارة. وقبل أن يغادر أمسكته( ثريا )من يديه وقالت برجاء: وحيات ولادك خليني أشوفه، بس اطمن عليه!
قال (مهران) وهو لايزال يمسك قلبه وبذات الصوت الخفيض: وأنا كمان يادكتور أرجوك! بدا على الطبيب التفكير ثم قال: الحاجة بس اللى هتدخل عنده و انت هتشوفه من الشباك بس! أومأ( مهران )برأسه وتبع الطبيب يسند والدته وقد تضاعفت أنفاسه وبدأ جبينه يتصبب عرقا، لم ينتبه لحالته تلك سوى( فدوى)، قلبها ينذرها أن هناك خطب به فبينما كان( كامل) يقود الجميع خارجا من أجل إيصالهم إلى البيت تسللت خلف( مهران) ووالدته..
وقف (مهران) يطالع والده الممدد خائر القوى مرتبط بالأجهزة عاري الجذع، ووالدته تمسك بيده وتطالعه برجاء أن لايتركها ويرحل.. اختل توازنه وكاد يسقط أرضا إلا أنها دفعته بكلتا يديها وبقوة لينتصب مجددا ثم أسندته لكنه جلس خائر القوى على الأرض وقد سحبها ثقله لتجلس هي الأخرى، قالت بشفقة حانية: يوم صعب عارفة، شد حيلك يامهران أزمة وهتعدي بإذن الله! قال بعيون زائغة:.
عمتي عتتسجن بجناية، ونوار حالتها بالويل، وابويا بيصارع الموت جوة، أجيب منين الحيل اللي يخليني أجف من غير ما تميل الأرض من تحتي! لأول مرة تكون( فدوى) بهذا القرب منه تمسك يديه بيدها و تستند على ركبته وهي تطالعه بعطف، كأنها العوض لمصائبه تلك، كأنها -الحيل- الذي يبحث عنه حتى تثبت قدماه.. قالت بحنان:.
هنسند بعض يامهران وربنا هيعديها باذن الله، الابتلا مش حاجة وحشة بالعكس هي زي النار اللي بتخلي الحديد يلين وياخد شكل جديد وحلو، بطبيعتنا بنبتعد عن الطريق الصح، بنقسى على بعض وبنكابر وبياخدنا الغرور، الابتلا ده هو اللي بيخلينا نقرب من بعض أكتر ويخلينا نفكر صح من غير أنانية، عمتك اتسجنت مش يمكن دي إشارة عن انكوا تقربوا من بعضكم وتتلم العيلة من تاني؟ وعمي يمكن التعب الصغير ده نجاه من مرض أخطر، و نوار مش يمكن حالتها دي عشان تتعلم درس مهم!
إثبت يامهران مافيش حال بيدوم، لو مابكيناش مش هنقدر الضحكة اللي بتطلع مننا حتى لو كان مجاملة! استسلم( مهران )لدموعه مجددا دون حرج ودون مراعاة لأي شيء، أراد أن يبكي حتى يغسل التراكمات التي ترسبت بقلبه، احتضنت( فدوى) رأسه وهي تشاركه البكاء.. لم يعلما أن هناك من يراقبهما من بعيد بقلب منشطر، (بدارة )!
(بدارة) أحبته بصدق وتفهم، لم تطالبه بشيء لم تكن أنانية معه لو أتاها الآن وقال أريد (فدوى) لما عارضته، أرادته لنفسها لكن رغما عنها دخلت كطرف ثالث بين حبيبين فرقهما القدر فلم ترد أن تجني عليهما هي أيضا، إن كان يريدها بقربه ستبقى وإن كان يريد رحيلها سترحل لكنها لن تجبره أن ينتزع قلبه ويضعه بين يدي أخرى ويبتعد إنه الذنب الذي لا تريد أن تتحمله أبدا..
لم يدري الثلاثة أن هناك من يطالعهم أيضا، كانت تقف( ثريا )بزاوية تستطيع رؤيتهم ثلاثتهم، ترى الحسرة على وجه( بدارة )وترى الألم على وجه (مهران )والعشق على وجه (فدوى)، زفرت بضيق وقد أدركت أن ماكانت تشكه ماهو إلا يقينا!
دائما تصور لنا الأحلام مالا نستطيع الاعتراف به في وعينا، فتكون مصدر اللاوعي المُتَجاهَل، و لاوعي (عسران )كان يسيطر عليه( راجي )، الإبن الذي لم يعترف به ولكنه كان يعلم أنه يمكن أن يكون ولده فقد عاش قصة حب لاحدود فيها مع (عوالي).. يقف أمامه بهيئته اللعوب المزرية وجهه مسود مخيف ويداه ملطختان بالوحل كريه الرائحة ورجليه غارقتان في مياه ملوثة كلما رفع رجله سحبت المياه جسده أكثر..
كان يحاول أن ينجده لكن يده لا تستطيع أن تمتد إليه ولا يستطيع صوته الخروج منه.. استيقظ (عسران )يستغفر ويحوقل ثم دخل في نوبة نحيب صفرت لأجلها تلك الأجهزة فأسرعت الممرضة نحوه وقد أحضرت الطبيب برفقتها الذي حاول أن يهدئه لكن دون جدوى فطلب منها أن تحقنه بمهديء يجعله يكمل بقية ليلته نوما هنيئا، مالم يكن يعرفه أن النوم كذلك لم يعد فيه هناء ولا راحة.
ممكن تاخدي بالك من نوار هي بغرفتك كانت تلك هي الرسالة التي استقبلتها (فدوى) من (مهران) بعد أن وصلوا إلى البيت فتوجهت إلى غرفتها كما فعل هو برفقة (بدارة) التي أخذ يعاتبها لأنها لم تخبره عن مرض والده، ورغم تبريرها المنطقي لكن نظرة الغضب بعينيه لم تتغير فقالت وهي تجلس على كرسي الأرجوحة تضم ركبتيها إلى صدرها:.
مش هجدر أواسيك لا بغضبك ولا بحزنك، عمرك ماعتبجى على طبيعتك معاي، مانيش الحيطة اللي تجدر تتسند عليها وأنا مسنودة بشدتي عليك، سامحني يامهران، سامحني!
استمر في تدخين سيجارته دون أن يقول شيء، كان يريد أن يطمئنها لكنه لا يدري ما يقول، لايدري كيف يلملم شتاتها وتخبطها في أمس الأوقات التي تحتاجه فيه، تحمل طفله الذي لاذنب له في قلبيهما المحطميّن، تذكر كلمات (نوار) فارتجف جسده ووضع يديه على السور مُصدرا آهة قهر انتفضت لها( بدارة) فاقتربت منه تربت على كتفه فاستدار نحوها عنوة وعانقها بقوة وهو يردد:.
-حيلي بيتهد يابدارة أنا خايف ومرعوب، كل حاجة بتنهار حواليا. واصل كلامه دون أن تقاطعه فكانت حقا لاتعلم كيف تواسيه وتجعل من خوفه أمنا لكن ارتعاشته كانت تسكن بين ذراعيها، ذاك الصدق الذي بداخلها جعلها أمنا وسكنا حتى دون أن تنطق.
رواية على الرقاب قدر نافذ للكاتبة شاهندة الفصل الثاني والعشرون
المجبرون على المُضيّ قدما، أولئك المثقلون بالهموم الذين ملأتهم الصدوع وتجرعوا من الحياة مايكفيهم من المرارة، حين يأتيهم الجبر ترى أعينهم تفيض نورا كأنهم غمسوا في نعيم الجنة، أولئك هم المتميزون والمخصصون بقلوب نقية متسامحة مؤمنة بقضاء الله وقدره.
ولم تكن مهمة (مهران) لتخطي ضعفه وحزنه وتلك المرارة التي يغص بها لا هي تخنقه ولا هي تجعله يتنفس فيحيا بالمهمة السهلة، ولأنه ولد قائدا و سند للعائلة وحاميها يتوجب عليه تجاهل إنفعالاته حتى يجد حلولا ينهض بها من مشاكله. عاد إلى منزله مكسور الخاطر مزعزع النفس تختنق الكلمات بحنجرته والأنظار الموجهة نحوه تستحثه على الكلام، قذفت والدته سؤالها ليخترق وجدانه: -مفاهماش حاجة واصل، حبسوا عمتك ليه يامهران؟
قال(مهران): - حاجة بسيطة ياأماي، هما خدوها عشان يستجوبوها في قضية إكده لواحد حدانا بالكفر لجوه مجتول. قالت (ثريا): -وهي صالحها إيه بالمغدور ده ياولدي؟ مش مطامنة حاسة في حاجة كبيرة. قال(مهران) بنفاذ صبر: -كان طلب يد نوار وبيحبها، فجالوا يمكن تعرف عنيه حاجة. قالت (راوية): -إهدى بس ياخوي، الموضوع غريب حبة اكمننا ماسمعناش جبل إكده أنه حدا طلب نوار.
أراد (ناجي)أن يقول شيء لكن (مهران) نهره بعينيه قبل أن يزفر قائلا: -عمتي مكنتش موافجة، راجى ابن مرة شينة بتشتغل في السحر والشعوذة. قالت(بدارة): -وه وه، سحر وشعوذة! قال(مهران): -إيوة، أمه عوالي كانت عارفة إن عمتي مرايداش الجوازة دى فإتهمتها بجتل ولدها وجتل الحرمة اللي كانت معاه كمان. تبادل كل من(محمد)و (زهرة)النظرات حين ذكر إسم (عوالي)، بينما مالت (بدارة) على(فضيلة) تقول بسخرية:.
-شفتي، كنتي عاوزة تروحي لعوالي، اهو جاك خبرها ياحزينة. قالت(فضيلة)هامسة بوجل: - الله هدانا الحمد لله وبعد عنينا السو ده. قالت(ثريا)بمرارة: -لا حول ولا جوة إلا بالله، طب هنعملوا إيه دلوك؟ عمتك مالهاش صالح في المصيبة دي، ومين الحرمة دي كومان؟ أمسك( مهران) ذلك الجسر مابين حاجبيه قائلا بمرارة: - خير ان شاء الله يا ماي ماتجلجيش. كانت (فدوى) تترجم ل(ناتالي) حديثهم، لتقول(ناتالي)شيئا، لتقول بصوت متحمس:.
- والله ممكن! طالعها الجميع فظهر التوتر ممتزج بالخجل على ملامحها وهي تردف قائلة: -أنا آسفة، كنت بقول لناتالي على اللي حصل. طالع(مهران) (ناتالي ) فقالت: - عائلة القتيلة أو زوجها ماذا سيكون موقفهم من هذا الأمر، ربما يتهموننا بالقتل ويسعون للثأر كما يشاع عن أعرافكم؟ لمعت عيون(مهران) وظهر عليه التفكير بينما قالت (ثريا)بحنق: -ماتفهمونا عاد، جالت إيه الحاجة متوالي؟ قال(مهران)موجها حديثه ل(ناجي):.
- هنعاود المركز يا ناجي يلا بينا ياخوي! خرجا من المنزل واستقلاّ السيارة فأردف( مهران): أهل الضحية موقفهم ايه من الجضية ياناجي. التفت نحوه (ناجي) وقال: أهلها مش من اهنا ياخوي، من الفلاحين بس جوزها ماظهرش وأهل البلد كلاتهم عرفوا بلي حصل، غريبة ولا اكمنها ماتت خاطية، ما يمكن يكون... قاطعه (مهران) قائلا: عنشوف لمن نوصل المركز لو مشتبه فيه هو كمان ولا عمتي ادبست بروحها.
وقتذاك كانت (نوار) جالسة في غرفتها دون روح، فهمست( ناتالي )ل(فدوى) أن تنظر في أمرها لتواسيها حتى لا تختنق بوحدتها ومصابها، بينما نهضت (زهرة) بعد أن نظرت لزوجها بضيق وهو منشغل بتفقد هاتفه وعلى وجهه إبتسامه عريضة قائلة: -هجوم أعملكوا شاي وأحضر لجمة ناكلها جبل ما نروح المستشفى ونجيب أبويا على البيت. فأردفت (بدارة)وهي تنهض بدورها: -إستنيني ياخيتي جاية معاكي هساعدك.
تبعتها خطوتين ثم مالبثت أن ناداها (محمد ) ثم إقترب منها والسعادة تشع من وجهه وسحبها لتجلس مجددا ليقول والده: سحبها إكده ليه ياولدي؟ فأجابه( محمد) والإبتسامة البلهاء تطفو على وجهه: عتبجى جد يابوي، زهرة حبلى والله العظيم!
تعالت أصوات الضحك الممزوجة بالمباركات كما تعالت الكلمات الساخرة عن(محمد) على تعبيره عن سعادته بتلك الطريقة الطفولية ومع ذلك لم يهتم كان يحدق فيها بإمتنان و وله كأنها هناءه وسبب سعده على الأرض.
الخطيئة تلتف حول صاحبها كما تلتف عقارب الساعة لتنتهي إلى الصفر وغالبا مايكون الصفر نقطة البداية.
كانوا يتناوبون على الحراسة، يتفرسون في المدى البعيد بعيون الصقر، حين يراقبهم أحدا، يرى على ملامحهم قلوبهم المتحجرة السوداء كأنها مقبرة قُبِرَت فيها جميع عواطفهم فأضحوا جمادات لا تهاب شيء، ولكن بنظرة قريبة في أعينهم تلاحظ على أبصارهم فزعا من القادم المجهول إنهم مطاريد الجبل البعض منهم متهم في قضايا قتل وسرقة وسلاح، هربوا إلى الجبل خوفا من العقاب، تبرأ منهم الأهل فجعلوا من أنفسهم عائلة تخاف على أفرادها وتحميهم بكل قوة.
كان (مرزوق) يجلس على صخرة قريبة، مطرقا رأسه في الأرض، يضع كلتا يديه على رأسه، إقترب منه رجلا ملثما يحمل سلاحا على كتفه، ما إن وقف أمامه حتى نهض (مرزوق) قائلا بلهفة: -إيه الأخبار ياعلوان؟ طمني ياخوي. أزاح عنه لثامه وهو يجلس قائلا: -إستنى بس يامرزوج، آخد نفسي وأشرب كباية شاي وآكل لجمة، أني على لحم بطني من صباحية ربنا. جلس (مرزوق)بجواره قائلا:.
-إطمن يامرزوج، الجضية لبست الولية اللي إسمها زبيدة دي، يعني تجدر تعاود لأرضك وأهلك، ماهو أنت بردك مينفعش تفضل غايب إكده، الشكوك عتحوم حواليك، إهنه ناس إتاخدت غدر وناس إتحكم عليها ظلم وناس إتورطت لإنها مش لاجية توكل ولادها، والكل مش عارف يعاود بلده، بس انت جاتلك الفرصة تعاود لأهلك وأرضك، وبعدين أني عاوز أعرف إنت ليه هربت بعد ماجتلتهم؟ده لو حتى مكنوش جبضوا على الولية دي، وجبضوا عليك إنت، كنت عتخرج بأجل حكم، دي جضية شرف ياولد.
قال(مرزوق)بخوف: -أني مخفتش من الحكومة ياعلوان، أني خفت من أم المحروج اللي جتلته، عيجولوا عليها ساحرة واعرة جوي ومكنتش عتسيني في حالي. قال(علوان)بحنق: -عتخاف من مرة يامرزوج؟! قال (مرزوق)بوجل:.
-انت معتسمعش عن اللي بتعمله ياعلوان، صدجني أني شفته بنفسي مع ولد عمي نوح، خلت مرته تصير خدامة تحت رجليه و تكتبله أرضها كمان اللي عمرها ماكانت راضية تفرط فيها وجومت الجيامة على عمها عشان تاخدها منيه، قال ريحة أبوها. قال(علوان) بسخرية: -ولما أنت مآمن بكراماتها، مروحتلهاش ليه أنت كمان تخلي مرتك إكده برديك؟ قال(مرزوق)بحسرة وقد غشيت عيونه الدموع:.
-كنت بحبها ياعلوان، وثجت فيها بس طلعت ناجصة وماطمرش فيها المعروف. ربت (علوان)على كتفه قائلا: -متحزنش يامرزوج على جليل الأصل والخاين، أهي غارت في ستين داهية، جوم غسل وشك وعاود لأهلك وهم يجوزوك ست ستها. نهض (مرزوق)قائلا: -توبة ياخوي، مبجتش آآمن لصنف الحريم واصل. ثم سار بإتجاه المغارة بينما يتابع (علوان) خطواته المنكسرة، ليتنهد في حسرة قائلا:.
-لا حول ولا جوة إلا بالله، أصعب حاجة إنك تتخان من حدا بتحبه، وجتها بيكون الموت أهون من ضربة غدر عتخليك كيف الميت وإنت حي.
بعض الجبر يأتي كالنور يزيح ثقل الهموم والجبر الذي أنار بيت الهوارة والجبايلة معا كان خبر حمل الكنائن، (بدارة)أولا وهاهي (زهرة )أيضا تنتظر مولودا بدورها، أجلت (فدوى) الاطمئنان على (زهرة) ودخلت المطبخ تساعد( بدارة ) في تحضير الطعام بينما انشغلت الخالة (حورية ونفيسة )في التحضير لإعداد وليمة كبيرة، أخذت( فدوى) تقشر الخضروات بينما قالت:.
هنقدر في يوم نتعامل على أننا بنات عم وننسى إن بينا راجل يابدارة؟ ابتسمت (بدارة) بمرارة وقالت: هتجدري يافدوى؟ والتفتت نحوها فأهتزت( فدوى )وقد جرحت أصبعها فأردفت( بدارة )وقد ناولتها منديلا لتلفه على اصبعها المخدوش:.
شفتي الخدش اللي بينزف ده يابت عمتي، ده هو هو اللي بيعمله فيا حبك لجوزي، العشج اللي بينكم بيدبحني بس متحملة وجاية على كرامتي ونفسي وراضية بكل حاجة مش ضعف مني، لاه جوة ياخيتي! مش هتفهموني كلاتكم أما أنا فهماكم زين عشان أكده صابرة يمكن ياجي يوم يحبني. فقالت (فدوى) والدموع تنساب من عينيها: هو بيحبك يابدارة! تنهدت قائلة: بيحبني عارفة بس مش زييكي! بادلتها (فدوى )الابتسامة واردفت:.
واحدة غيرك كانت سابته، متحملة ازاي بس؟ عادت (بدارة) لتقلب الطبخة التي بين يديها وزفرت بعمق وقالت: آه، آه، متحملة كيف ما انتي متحملة تشوفيه معاي، متحمله كيف ماانتي عارفة اني حامله ولده، متحملة كيف ماانتي عارفه إنه بيجاسمني حبك..! الحب إكده يافدوى!هو اللي بيخلينا نستحمل..
اقتربت منها (فدوى )وعانقتها وهي تطلب الصفح منها، كل منهما تحمل حبا كبيرة وغيرة كبيرة وتسامحا أكبر، يبدو أمرهما غريبا لكن حبهما نقي خال من التملك والأنانية، صادق لحد التضحية، قوي لحد التجلد على الظلم.. أزاحتها (بدارة) برفق وقالت ملاطفة: عجلي، لو الخلج اللي برا جاعت معينفعناش لا مهران ولا حبه هيكلونا من غير ملح، خواتي لوحدهم كائنات مفترسة اه والله كيف مابجولك إكده..
ابتسمت الفتاتين وعادت كل منهما لتنهي ماتفعله وبعد قليل خرجت (بدارة) لتقول: -الوكل جاهز ياأما، يلا ناكلوا لجمة ونروحوا على المستشفى، أبوي الحاج عسران عيفرح جوى لما يعرف بالخبر ده. نهضت (ثريا)قائلة: -يلا ياجماعة شهلوا خلينا نفرحوا الحاج. نهض الجميع، ماعدا (زهرة) التي قالت لزوجها: -مليش نفس يامحمد خليني آني إهنه، لمن تخلصوا وكل. قال(محمد):.
-يمين الله ماتدخل لجمة جوفي جبل ماتاكلي وتوكلي إبننا جومي يازهرتي إفتحي نفسي، ربنا يباركلي فيكي ويديمك نعمة فوج راسي طول العمر. إبتسمت (زهرة)بحب قبل أن تنهض وتسير بجواره لتميل (فضيلة)على(عزام)وتقول له هامسة: -مجلتليش إكده ليه ياعزام لما عرفت إني حبلى؟ قال(عزام)بإستنكار: -وه وه، طب إفرضي أبواب السما كانت مفتوحة، كنت عتدبس إياك.
لتطالعه بدورها بإستنكار فسبقها لطاولة الطعام، فعادت هي بنظراتها إلى (محمد)و(زهرة)، تتطلع إلى أيديهما المتشابكة بحسرة، قبل أن تمشي بدورها بخطوات بطيئة، تطرق رأسها بحزن.
يعلو عويل الشر في النفوس الحاقدة كما يرتفع عويل الذئاب ليلة البدر، لن يكون هناك وصف لحالة( عوالي )بعد أن فقدت وحيدها إلا كذئبة مجروحة تزمجر شررا مستعدة لتفتك بأي طيف تلمحه.. وسط عقاقيرها كانت تجلس ويالا حظها والقمر بدرا ينتصف السماء في ليلة جليدية توعدها ل(مهران) أصبح هوسا تحيا من أجله طقوسها التي أعدتها بتفان وشياطينها الحائمة حولها ينتظرانها لتشرع في انتقامها..
تنهمر دموعها كسيل عرم تنعي طفلا أنجبته وربته ليصير رجلا وسندا لها فقتلته سكين الغدر تاركا إياها تشعر بالوحدة والإنكسار لأول مرة بحياتها. أمسكت خاتم (مهران) وتطلعت إليه بعينين زائغتين وهي تقول بصوت مهتز:.
-جتلتوا ولدي، خدتوه مني وحرجتوا جلبي عليه، منكوا لله ياهوارية، منكوا لله، أني لازمن أحرج جلبك ياعسران على ولدك وبعديها عحرج جلب زبيدة على بتها وأبرد ناري الجايدة في جلبي ومارايداش تنطفي واصل، خلاص مبجتش رايدة ألعب وياكم وأنتجم منكوا بالبطيء، أني رايدة الخلاص لروحي اللي عتفط من صدري ورايدة تخرج من جتتي وتحصل ضنايا ومعسيبهاش تفط جبل ما آخد روحكم ياولاد هوارة.
تصاعدت رائحة كريهة للغاية لم تأبه بها وكأنها إعتادتها، ثم قربت الخاتم من القدر وكادت أن تلقي به، لولا دخول (مصيلحي) إلى المكان وسعاله الذي صدح فجأة من تلك الرائحة العفنة، لتقول (عوالي)هادرة: -إيه اللي جابك دلوكيت يامصيلحي؟أني مش جلتلك متفارجش المركز جبل ماتجيب لي حاجة من جطر المحروجة زبيدة. قال (مصيلحي)من بين أنفاسه المختنقة:.
-مطلعتش هي اللي جتلته ياستنا، جبضوا على الجاتل الحقيقي، مش هتصدجي يبجى مين. تقدمت منه (عوالى)قائلة بعيون إلتمعت شرا: - هي زبيدة، مين عيتجرأ يجتل كبدي غيرها؟ مين ماكان اكيد هي اللي وزته يجتل، تاري هاخده منيها مش من حدا تاني. قال(مصيلحي)بخوف: -مرزوج جوز الحرمة اللي انجتلت مع راجي الله يرحمه ويغفرله، في شهود شافته يمة الكوخ، الشرطة بعد ماحججت وصلت ليه، هو الجاتل زبيدة مالهاش صالح بولدك.
لتتسع عينا (عوالي)، بصدمة.
في روما... دلف (رحمان) إلى حجرة مكتب أبيه لينهض الأخير قائلا بلهفة: -ها، وصلت لحاجة؟عرفت راحت فين؟ قال (رحمان) بحنق: -دوختني معاها وكأنها المرأة الحديدية اللي مش هعرف أطلع منها إجابات أسئلتي مهما عذبتها، منطقتش غير لما هددتها بإني هموت حبيبها جون، وقالتلي إن الهانم راحت على أسوان راحت لأهل مامتها هناك. إمتقع وجه (توفيق)وجلس قائلا: -راحت عند همام وعويس، يبقى روحنا بلاش يارحمان.
عقد (رحمان)حاجبيه قائلا: -قصدك إيه يابابا؟ قال(توفيق): -انت متعرفش عيلة الجبالي دى عاملة إزاي دول مفيش عندهم رحمة وكلامهم بالسلاح والدم هنجيبها من هناك إزاي بس؟ قال(رحمان): -بسيطة، هننزل البلد وهنروحلهم هناك، هقولهم إني عايز خطيبتي وإنهم لازم يرجعوهالي. قال(توفيق): -إنت مخلول إياك؟ طالعه (رحمان)بدهشة، يدرك أن أباه الآن في قمة غضبه حيث تتحول لهجته تلقائيا ويعود إلى أصله، ليقول بصوت وجل: -ليه بس يابابا؟
قال(توفيق): -انت عارف لو همام أو عويس عرفوا إننا قتلنا أختهم هيعملوا فينا إيه؟هيموتونا بطريقة عمرك ماسمعت ولا هتسمع عنها. قال(رحمان)بخوف: -وهو إيه بس اللي هيعرفهم؟ قال(توفيق): -المحروسة خطيبتك. قال(رحمان): -وهي هتعرف منين بس؟ قال(توفيق) بحنق: -ماهي أكيد عارفة، أمال بتهرب مننا ليه يافالح؟ قال(رحمان):.
-لأ إطمن متعرفش، فيفيان قالتلي إنها بتهرب عشان مش عايزة تتجوزني مش طايقاني يعني ومعتقدش إن فيفيان ممكن تكدب وهي عارفة اني ممكن أقتل حبيبها، يبقى نطب على البلد وأطالب بيها، وحتى لو رافضة فأعتقد إن قانون بلدنا إن البنت لإبن عمها واللي بتتحامى فيهم دول هم بنفسهم اللي هيغصبوا عليها تتجوزني ولا إيه رأيك يابابا؟ ظهر التفكير على (توفيق)للحظات قبل أن يرفع عيناه إلى ولده قائلا بإبتسامة:.
-عفارم عليك يارحمان، معاك حق طبعا، أنا هبعت حد البلد يشوف الأخبار، ولو كله تمام يبقى هنسافر ونعمل كدة، أما لو الحال معجبناش فبناقصها الجوازة دى وربك يعوض علينا بقى. قال(رحمان) بثقة: -بكرة تشوف إن إبنك كان معاه حق وإن مرواحتنا البلد هتبقى في صالحنا مية في المية. هز (توفيق)رأسه وهو يقول: -هنشوف يارحمان، هنشوف.
في المستشفى... قال (مهران) لأبيه: -خلاص ياأبوي، غمة وإنزاحت، ناجي مع عمتي بيخلصوا إجراءات الإفراج عنيها وعيطلعها بإذن الله. قال(عسران): -الحمد لله. ثم أردف بحزم: -خدني على البلد يامهران، دلوك! قال (مهران)بإستنكار: -آخدك إزاي بس يا بوي؟إنت لساتك تعبان. قال(عسران): -إسمع الحديت ياولدي ومتتعبنيش معاك، أني عايز أرجع البلد طوالي. قال(مهران) بتفكير:.
-هو الشيخ وهدان كلم الحاج عويس وجاله إن البيت صار جاهز، بس انت صحتك لساتها... قاطعه (عسران)بنفاذ صبر قائلا: -جلتلك رجعني البلد يبجي ترجعني من غير حديت ماسخ. وضع يده على قلبه وشحب وجهه قليلا فقال (مهران)على الفور بوجل: -خلاص يابوي هنعاودوا البلد، هدي حالك بس، ثواني عتصل بيهم وأجولهم يحصلونا على هناك.
أشار له سامحا ليرفع هاتفه ويتصل بوالدته بينما وضع (عسران)يده على قلبه يمسد عليه عله يخفف هذا الوجع الذي يشعر به وكأن سكاكين صغيرة تخترقه وتجعله ينزف دون رحمة، نزيف الندم.
نتألم كثيرا عند الفراق وتصرخ روحنا وجعا، فقد خسرناهم ورحلوا، فأظلمت الدنيا فجأة وضاقت بنا، فلن يعودوا مهما توسلنا ولن يرجعوا مهما ندمنا وبكينا، لقد شيعنا راحة قلوبنا مع تشييع جثمانهم، ولم يبقى لنا سوى ذكرى تؤرق مضجعنا وتحرمنا النوم.
كان (مهران)يجلس في سيارته ينقر على مقوده بعصبية بينما يجلس والده أمام قبر هذا الرجل الذي قتل غدرا، بعد أن أجبره والده على السؤال عن مكان دفنه وإصطحابه إليه ثم تركه وحيدا رافضا رغبة (مهران) بالبقاء معه، لا يستطيع تفسير رغبة والده الغريبة تلك وجلوسه أمام القبر مطرق الرأس، شاحب الوجه كالموتى، يهتز جسده كما لو كان يبكي، يكتفي بمراقبة والده بصمت، يعجز عن فعل أي شيء آخر.
رفع (عسران)كفه ومسح دموعه، مد يده يلمس هذا اللحد الذي ضم جسد ولده، الذنب يقتله، يجبره على الاعتراف بأنه كان بالإمكان تغيير المصير لولا جبنه وأخطائه الكثيرة، ذكريات ذاك الماضي تقتله، وتطفيء أنوار الأمل بقلبه الذي يغرق في ظلمات اليأس، تجعله يدرك كم كان ضعيفا ولم يزل. ربت على لحد ولده قائلا بنبرات متهدجة:.
-سامحني، سامحني ياولدي، اني غلطت كتير، بس أكبر غلطة غلطتها هي اللي غلطتها في حجك، كنت لساتني صغير وطايش، بس يمين الله لو كانت جالتلي عليك وجتها لكنت كاتب عليها لأجلك ياولدي، بس هي إستسهلت الحجد والكره، وجابتك للدنيا عشان تنتجم مني فيك وبس، ربت فيك الكره والجسوة وجلة الشهامة والمروة، بس أنت ملكش ذنب في إن اللي ربتك كانت حية، سامحني ياولدي أني اللي غلطت من لول لما مشيت ورا الشيطان ولما فوجت كان فات الأوان، يمكن مهجدرش أعوضك دلوك عن اللي عملته بس عوعدك أخلي بالي من ضناك وأربيه أحسن رباية، يكون مفخرة الهوارية كلاتهم، إرتاح في جبرك ياولدي، إنت سبت الدنيا الغدارة وروحت للي خلقك، عيكون أكرم عليك منينا وأني عطلبلك الرحمة والعفو منه في كل وجت وأدان.
ثم جعل يردد: -اللهم أجرني في مصيبتي وإخلف لى خيرا منها. قرأ له الفاتحة ثم صدق، ونهض ببطئ، يمشى بخطوات متعثرة، ليهبط (مهران) من السيارة ويسرع إليه يمسك بيده وسنده حتى أجلسه بداخلها، وماإن إستقر بدوره داخلها، حتى وجد والده يقول بحزم: -إعمل حسابك ياولدي، عتكتب على نوار الليلة. ليحدق به (مهران) بعيون إتسعت، بصدمة.