رواية روح الشيخ زيزو للكاتبة رضوى جاويش الفصل الرابع عشر
كان العمل يسير على قدم و ساق داخل دار الحاجة وجيدة.. فاليوم هو اليوم الموعود.. الليلة الكبيرة.. زفاف أبنة اخيها و ربيبتها.. و لم يكن الشيخ عبدالعزيز و لا روح ليتركاها في ليلة هامة كتلك.. فروح التي تعافت الى حد كبير وقفت مع النسوة منذ ايّام يحضرن الخبيز الخاص بالعروس و القيام بطبخ كل أنواع الطعام للقادم من ضيوف.. كما اشرف عبدالعزيز على نصب صوان الفرح و محاسبة العمال و الوقوف على يد القصابين.
لذبح الذبائح استعداداً لليلة الميمونة.. كان عبدالعزيز رغم بشاشته المعتادة و التي يظهر بها امام الناس في تلك اللحظة يحمل وجه اخر يداريه داخل ضلوعه، وجه لا ترى ملامحه المرتعبة و لا قسماته التي ترتجف ذعرا الا روح.. روح وحدها التي تدرك ما يعانيه ذاك الرجل هناك.. هي لا غيرها القادرة على قراءته حتى و لو غلف صفحة وجهه بألف غلاف قاتم هي وحدها التى تستطيع النفاذ عبر تلك القتامة لتكشف ما خلفها..
كثيرا ما لاحظته من البعد يداعب هذا و يشاكس ذاك.. و كانت تتمنى لو تترك ما يلهيها عنه و تذهب اليه لتخبئ وجهه الممسوخ ذاك بين ضلوعها تاركة إياه يُظهر وجه الألم الذى يداريه بين ذراعيها بعيدا عن الناس و عن تصنعه البهجة في وجودهم، رفعت وجهها و تعلق ناظريها بالسماء مرارا و هي تتضرع الى الله خفية ان ينجيهما من كل ما فيه ضر لهما، و يسبل ستره عليهما.
ارتفعت الزغاريد لتوقظ روح من شرودها المتزايد في الفترة الأخيرة، لتنتبه ان العروس قد حضرت لصحن الدار و حولها تجتمع النسوة مهللات لتبدأ وصلات الرقص المتتابعة و المحمومة بالفرحة.. بينما اشتعل الصوان خارجا بصوت المستحسنين لشدو الشيخ عبدالعزيز الفقى الذى اطرب الجميع بصوته الشجى.. و على الرغم ان رؤية عبدالعزيز فوق منصة الإنشاد و سماع صوت المستحسنين لشدوه كان احد أمنياتها الا ان روح الان.
و في تلك اللحظة بالذات.. كان هذا اخر ما تتمنى رؤيته لانها تدرك ان هذا فيه خطر كبير عليه لو تعرف عليه احدهم.. تسللت من بين النساء حتى وصلت لأطراف الصوان و من احد الجوانب الغير مرئيّة لمن بداخله طلت تستطلع الأخبار لترى عبدالعزيز يدندن متسلطناً و الناس يهللون سكارى من حلاوة شدوه .. و عذوبة صوته.. اخذتها الفرحة لمرأه كما كانت تحلم دائما و غابت في حلاوة الإنشاد و صاحبه قرة عينها.
و لكنها فجأة استفاقت محاولة ان تتدارى و هي ترى رجلين على مقربة منها بل يكادا يكشفا وجودها لقربهما من مخبأها و قد هتف احدهما في صاحبه متسائلا: - مش دِه يا واد، المنشد اللى كان جابه العمدة عتمان الله يجحمه في فرح ولده..!؟. هتف الاخر في ثقة: - ايوه باينه هو.. بس اهو مطلوج و متحبسش زى ما بيجولوا.. مش كانوا تهمينه ف جتل عتمان برضك..!؟. اكد الأول: - ايوه صح انى سمعت كِده... بس بالك انت..
و الله راچل انه عِملها و جتل عتمان و ريحنا من شره.. اكد الاخر: - بس معجول يطلع كِده ينشد عادى و الحكومة كلها لساتها وراه..!؟. اكد صاحبه: - يا عم مش جتال جتلة و دِه هيهمه حاچة برضك..!؟. اكد الأخر و هو يسير مبتعدا مع صاحبه: - على جولك.. كانت روح تنتفض مذعورة و هى تستمع لكل حرف من حديث الرجلين حتى ان قدميها ما عادتا قادرتين على حملها..
الا انها تحاملت على نفسها لتصل بالكاد حتى عتبات دار الحاجة وجيدة مبتعدة عن الصوان قدر الإمكان منتظرة ان تحل اللحظة التي تنتظرها و يقطع عبدالعزيز وصلة إنشاده الأولى عند وضع الطعام للمدعوين و الضيوف.. و حانت تلك اللحظة أخيرا عندما نادى المنادى بان موائد الطعام قد مُدت للجميع.. فراح الناس يتسابقون على الطيبات الموضوعة على الموائد، يتناولون ما تشتهى أنفسهم من ملذات..
هنا استطاعت روح إرسال احد الأطفال لكى يستدعى لها عبدالعزيز على وجه السرعة قبل ان ينتهى الناس من طعامهم و يصبح ملزما بالبدأ في الوصلة الثانية... كانت تنتظره في قلق بالغ و ما أن لاح طيفه ف الأفق مقتربا حتى اندفعت اليه بكل ما تحمل من خوف و قلق هاتفة: - ياللاه بينا من هنا يا شيخ.. ياللاه نروح من هنا بسرعة.. هتف عبدالعزيز قلقا لمرأها بهذا الشكل: - ليه يا روح..!؟. هو في حاچة حصلت..!؟.
أكدت بأهتزازة قوية من رأسها و هي تزدرد لعابها في صعوبة: - ايوه يا شيخ، في رچالة عرفوك، وعارفين حكاية عتمان كمان.. انى سمعتهم بودانى، ياللاه يا شيخ، هم الله يسترك.. كان متردد بين اللحاق بروح التي كانت تجذبه من كفه ليتبعها و بين عودته مرة أخرى لصوان الفرح ليبدأ وصلته الثانية.. و ما ان هم بالاستجابة أخيرا لمطلب روح باللحاق بها.
حتى تسمر كلاهما في موضعه عندما تناهى لمسامعهما صوت الحاجة وجيدة هاتفة بهما في تعجب: - على فين يا شيخ عبدالعزيز و سايب الصوان و الفرح..!؟. نظر كل منهما للاخر في تردد غير قادرين على الإجابة.. ادركت الحاجة وجيدة بحدسها القوى ان هناك شيء ما غامض لا تعيه و هو السبب في تلك الحالة التي تراها عليهما الان.. هتفت الحاجة وجيدة بنبرة تحمل في طياتها الكثير من الدعم: - جولى ايه في يا شيخ.. هو انت لسه هتعِرف.
وچيدة دلوجت..!؟. تردد عبدالعزيز قليلا و هو يتطلع حوله في قلق فأدركت الحاجة وجيدة ان ما يخفيه لا يمكن ان يقال في مكان كهذا يمكن لأى من كان ان يسترق السمع فهتفت أمرة: - تعالوا وراى.. و سارا خلفها حتى قاعة متطرفة من الدار دخلوها و أغلقت الباب لتتطلع إليهما من جديد مستفسرة ليهتف عبدالعزيز هاتفا: - شوفى بجى يا حاچة.. و الله العظيم احنا ملناش صالح بأى حاچة خاالص..
و انتِ ست كريمة نچتينا يوم ما طلبنا و چميلك ده على راسنا من فوج و دِه اللى مخلينا عايزين نمشوا حالا، عشان منورطكيش معانا.. نظرت اليه الحاجة وجيدة متعجبة و هي لا تفهم حرفا مما يقول.. فهتفت مستغربة: - بتجول تورطنى!؟ ، في ايه كف الله الشر..!؟ و انت ممكن تكون متورط ف ايه يا شيخ و انت راچل بتاع ربنا و حامل كتابه..!؟. هتف عبدالعزيز في سرعة و كأنه يلقى ما يثق كاهله دفعة واحدة بلا ذرة تفكير.
حتى لا يتردد لثانية أخرى: - متهومين ف جضية جتل.. مرت لحظات من الصمت حتى قطعته الحاجة وجيدة هاتفة بشك: - جتل، انت يا شيخ، جتل مين..!؟ تار ياك..!؟. هتف عبدالعزيز مصححا: - لاااه يا حاچة مش تار.. و اقسم بالله احنا ما لينا يد ف الموضوع دِه من الأساس.. منه لله العمدة عتمان مطرح ما راح.. هتفت الحاجة وجيدة صارخة: - بتجول عتمان..!، جتل عتمان..! ، العمدة عتمان الشهاوى..!؟. اكد عبدالعزيز بإيماءة من رأسه.
دون ان ينبس بحرف متعجبا من ردة فعلها الغريبة على الخبر والذى لم يكن يخفى على احد فى النجوع المجاورة لنجع ذاك الطاغية و هذا النجع لم يكن بعيدا بالقدر الذى لا يجعل خبر كهذا لا يصله.. تنهدت الحاجة وجيدة في ضيق هامسة كأنما تحدث نفسها بصوت مسموع: - واااه يا عتمان، خدت ايه معاك دلوجت.. دى اخرتها يا واد عمى.. شهق كل من عبدالعزيز و روح عندما تناهى لمسامعهما كلماتها الأخيرة.. و نظرا لبعضهما في توجس.
و حيرة طالت حتى قررت الحاجة وجيدة إنهائها هاتفة: - إيوه، عتمان كان واد عمى، وكان.. و ترددت قليلا قبل ان تستطرد هاتفة: - و كان چوزى.. توالت المفاجأت التي دعت عبدالعزيز و زوجه ليشهقا من جديد لتستكمل هي سردها هاتفة: - ايوه كان چوزى و أبو ولدى الوحيد اللى طلعت بيه من الدنيا.. و كان هو السبب انه راح منى.. راح تمن لظلم ابوه و جبروته على خلج الله و من يوميها و انى بستحلفه بكل غالى عنديه يطلجنى..
و لما وافج بعد ما شرط عليّ اكتب له ورثى من ابوى.. كتبت و خلصت منيه وبعدت و مبجتش عايزة حاچة من الدنيا.. لحد ما ربنا بعت لى الحاچ الله يرحمه اتچوزنى وورثت عنيه كل ماله و الخير اللى انى فيه دلوجت.. هتفت روح مؤكدة: - بس و الله يا حاچة احنا مالينا صالح بجتل عتمان، احنا.. قاطعتها الحاجة وجيدة هاتفة: - عارفة يا بتى، عارفة، انى عاشرتكم، إنتوا متعملوهاش..
هتف عندها عبدالعزيز كأنما لاح فجأة شط النجاة: - طب و الحل دلوجت يا حاچة.. في رچالة عرفونى ف الفرح بره و ف اى وجت ممكن نلاجى الحَكومة على روسنا..!؟. هتفت الحاجة وجيدة و هي تندفع لباب القاعة الخلفى لتفتحه امامهما: -ياللاه روحوا يا شيخ.. وعدى على الزريبة خد لك بهيمة تعينكم على طريجكم إنتوا متعرفوش هترسى بيكم الدنيا فين..
اندفع عبدالعزيز و روح من باب القاعة و كأنما فُتح أمامها طاقة من الفرج الذى كان بعيد المنال.. و ما ان خطا أعتابها حتى استدار عبدالعزيز هاتفا: - ربنا يسترك يا ستنا و ما يوجعك ف ضيجة ابدا.. بينما دمعت عينا روح و اندفعت الى أحضان الحاجة وجيدة و أخيرا انتزعت نفسها من بين ذراعيها الحانيتين و هي تقبل جبينها في امتنان و اندفعت خلف زوجها لرحلة جديدة لا يعلم مداها و لا الى أين يمكن ان ترسو بهما الا الله..
رواية روح الشيخ زيزو للكاتبة رضوى جاويش الفصل الخامس عشر
اندفع كل من عبدالعزيز و روح باتجاه الزريبة ليجذبا حمارا من موضعه و يتوجها خارج النجع مبتعدين و قد تناهى الى مسامعهما صوت ذاك المغنى الذى كان من المفترض ان يتبع عبدالعزيز في فقرته.. لاحت لهما الأضواء و الأنوار المتلألئة من بعيد و هي تتلاشى و تختفى تدريجيا مع كل خطوة في اتجاه ذاك المجهول الذى ينتظرهما سارا لفترة طويلة حتى شعرت روح بالدوار.
فهمست بالقرب من اذن عبدالعزيز الذى كانت تحتل موضعها خلفه على البهيمة: - كفاية كِده يا شيخ.. الفچر دخل.. نرتاح شوية على چنب و بعدين نبجوا نكملوا، حتى الحمار يرتاح كمان.. هز عبدالعزيز رأسه موافقا و اتخذ خطوات التنفيذ بأن نزل من ظهر بهيمته و اخذ بناصيتها متوجها لحدود اقرب غيط و شد وثاقها لجذع شجرة عتيقة سامقة على أطراف ذاك الغيط الذى اجتازاه للداخل بضع خطوات و جلسا متجاورين.
حتى غلب روح التعب فاستندت على كتف عبدالعزيز هامسة بوهن: - هو احنا هنروح على فين يا شيخ..!؟. همس مجيبا: - و الله ما انى عارف يا روح، اهو، بلاد الله لخلج الله، ايه رايك نطلعوا على البندر..!؟. هتفت متعجبة: - البندر..!؟، و دِه لينا ايه فيه عشان نروحه يا شيخ..!؟ و تشبثت بذراعه هامسة بتملك: - كمان بيجولوا البنات حلوين جووى هناك يا شيخ، أخاف يخطفوك منى، اروح انا فين جنبيهم..
قهقه عبدالعزيز هاتفا: - تروحى فين ايه بس.. و الله لو اتحطيتى ف كفة و بنات البندر دول ف كفة.. هختار كفتك يا روح الروح.. انتِ لساتك متعرفيش جمتك عندى يا بت و لا ايه..!؟. همست بحب و هي تتشبث بذراعه اكثر: - عارفة يا شيخ، عارفة، بس بحب أتأكد.. ضحك مشاغبا: - و اتأكدتى..!؟. ثم همس مقتربا منها في مشاكسة: - و لا تحبى تتأكدى اكتر..!؟. هتفت ناهرة إياه: - اتحشم يا شيخ احنا ف ارض غريبة.. و ف عز الفچر..
انفجر ضاحكا: - طب و هو في احلى من كِده.. عز الطلب.. الليل ستار و مش شاهد علينا الا الحمار.. انفجرت ضاحكة تشاكسه: - لحسن الحمار يروح يجول..!؟. قهقه لدعابتها: - على جولك محدش بجى مضمون اليومين دوول.. ربنا يكتب لنا نتلموا تانى تحت سجف يأوينا و انى.. صمت للحظات و لم يعقب فعاجلته هامسة تشاغبه: - و انت ايه يا شيخ!؟. همس بالقرب من اذنها في عشق: - هجيب منيكِ كل شهر عيل..
انت نسيتى ولا ايه..!؟، دول عيال الشيخ عبعزيز مش اى حد.. تلمست موضع رأسها بالقرب من قلبه ليحتضنها بين ذراعيه و يشملهما الصمت حتى غاب كل منهما في أحضان الاخر يحتمى به و قد نشرعبدالعزيز عليهما قفطانه يغطيهما و راحا في سبات عميق..
تركا الحمار على اعتاب محطة السكة الحديد ليعود من حيث جاءا به الى دار الحاجة وجيدة.. فهو يدرك طريقه جيدا.. و اندفعا ليركبا ذاك القطار المتجة للمدينة كما اتفقا.
فهناك و بعد أسابيع قليلة سيهل مولد سيدى عبدالرحيم القنائى.. ذاك الاحتفال الذى يأتي اليه القاصي و الدانى من مريديه.. و هناك سيكون ملجأ مناسبا لأمثال الشيخ عبدالعزيز من منشدين و صييتة لإحياء ليال الاحتفال بالشدو و الإنشاد بما يُحفظ من إشعار في مدح الرسول عليه الصلاة و السلام و سيرته العطرة.. جلس كل من روح و عبدالعزيز على احدى المقاعد بالقرب من باب عربة القطار..
كانت تلك هي المرة الأولى التي يستقلا فيها قطاراً، كان بالنسبة لهما ضربا من خيال.. وحلما صعب المنال ها هو يتحقق على غير توقع.. سار بهما القطار الهوينى يتمايل على طول سكته و يقف كل فترة بسيطة ليقل عدد من البشر و يلقى على احد ارصفة المحطات ببشر اخرين.. توقف القطار في احدى البلدات ليلقى ببعض ما بجعبته من إناس و عبدالعزيز يطالع بعينيه الصاعد و الهابط من قطاره و يتطلع الى الرصيف و ناسه.
حتى أنتفض فجأة من موضعه هاتفا و هو يخرج رأسه من شباك قطاره: - علااام، علااام.. اخذ يلوح بكفه رافعا لعقيرته حتى انتبه علام أخيرا من موضعه على الرصيف المقابل للقطار ليأتى مندفعا نحو القطار مشيرا لعبدالعزيز بسرعة المغادرة و النزول على الرصيف لملاقاته.. لم يصدق عبدالعزيز ما يطلبه علام، لكنه أمسك بكف روح التي لم تكن تع بالضبط ما يحدث لكنها أطاعت عندما امرها بالنهوض و امسك كفها ساحبا إياها خلفه..
و غادرا القطار في اللحظة الأخيرة قبل إقلاعه لوجهته التالية.. اندفع علام ما ان وصل لموضع عبدالعزيز محتضنا إياه في شوق بالغ هاتفا غير مصدق: - وااه يا شيخ، كنت فين يا راچل دوختنى عليك..!؟ هتف عبدالعزيز متعجبا: - ليه يا علام، مش انت اللى جلت لى روح بعيد عشان هيتهمونا ف عتمان.. اكد علام: - ايوه صح، دِه كان ف الأول بس.. هتف عبدالعزيز مستفسرًا: - يعنى ايه!؟. و ايه اللى هيفرج..
هتف علام من جديد: - يا واد عمى الأول انت كنت اللى عليه العين جبل ما اسمه ايه دِه بتاع الطب الشرعى يطلع و النيابة تعمل تحرياتها وبعد كِده عرفوا ان اللى جتل عتمان هي مرته الست شوج.. قال الكلمات الأخيرة في حسرة واضحة لم يدركها اى من عبدالعزيز و روح التي هتفت في جزع: - بتجول الست شوج هي اللى جتلته!؟. اكد علام بايماءة من رأسه: - جتلته بعد ما جتلها مية مرة..
جتلته و ريحت الناس من چبروته، مستحملتش تشوف غيرها بيتظلم بيد الفاچر دِه و توجف ساكتة زى ما كَتير وجفوا يتفرجوا على ظلمه ليها، و انى أولهم.. تنهد في حسرة من جديد مستطردا في تضرع: - ادعوا لها، و اجروا لها الفاتحة دايما، لولاها مكناش هنعرف مصيرنا ف يد عتمان دِه كان هيبجى ايه.. همس كل من عبدالعزيز و روح في نفس الوقت: - ربنا يرحمها برحمته، و يغفر لها يا رب.. همس علام مؤمنا: - امين يا رب..
ثم ربت على كتف عبدالعزيز مشجعا: - ارچعوا لنجعكم ياللاه، الحمد لله انك و مرتك بخير، بس ف الأول، تاخد ضيافتك دِه إنتوا ف نچعنا، و لا احنا مش كُرما و لا ايه..!؟. ابتسم عبدالعزيز مجيبا الدعوة هاتفا: -مين جال كِده!؟، دِه انت أبو الكرم كله يا علام، ربنا يكرمك و يسعدك، احنا لو مجبلنكش النهاردة كنّا هنفضل طول عمرنا هربانين من ذنب معملنهاهوش..
ابتسم علام مشيرا اليه ليتبعاه في سعادة و عبدالعزيز يهمس لروح في حبور و امتنان: - شايفة كرم ربنا و فضله كَبِير كيف..!؟. لولا اللى حصل عند الحاچة وجيدة مكناش لا جينا هنا و لا عرفنا اللى حصل من علام.. احنا براءة يا روح.. براءة.. دمعت عيناها و هى تتطلع لفرحته الحقيقية التي كانت غائبة منذ زمن و هي تطل الان من وراء حجب الضيق و الغم التي سيطرت على حياتهما الفترة الماضية..
تطلعت لوجهه المشرق من جديد و رفعت ناظريها للسماء شاكرة الى الله حسن تدبيره فيما جرت به مقادريرهما و كل ما كان يعنيها لحظتها انهما الان معا رغم كل شيء و رغم ما كان.. هما معا، و سيظلا معا..
رواية روح الشيخ زيزو للكاتبة رضوى جاويش الفصل السادس عشر والأخير
ركبا معا القطار من جديد بعد ليلة أمضياها في ضيافة علام و أهله و ها هما عائدان من جديد لغرفتهما العزيزة و التي ظنا إنهما لن يعودا اليها ابدا و سيظل كلاهما هارب من جرم لم يرتكبه.. وصلا للحوش و أمام باب الغرفة وقف الشيخ عبدالعزيز يخرج مفتاح القفل الذى لايزل قابضا على ضلفتي الباب و اخذ يتطلع اليه في سعادة كمن يتطلع لمفتاح الجنة.. فتح الباب على عجل.
و شوقه يدفعه ليتطلع الى محتويات الغرفة المتواضعة و كأنها قصر منيف من سعادة و ذكرى جمعته مع روح التي كانت تتبعه في وجل يحدوها نفس الشعور حتى انها لم تتفوه بحرف احتراما لذاك الحدث الجلل.. دخلا الغرفة و اغلقاها خلفهما و تطلع كل منهما لمحتوياتها و أخيرا دمعت عينا روح في سعادة و تطلع اليها عبدالعزيز في شوق هامسا لها: -أخيرا يا بت، رچعنا لأوضتنا.. همست متطلعة اليه: - انا مش مصدجة يا شيخ..
احنا هنا صحيح و لا انى بحلم.. تقدم عبدالعزيز اليها متطلعا اليها بنظرات ماجنة هامسا: - لاه صدجى، احنا هنا.. حتى تعالى، جربى و انى اخليكِ تصدجى اكتر.. انفجرت ضاحكة في دلال جعل قلبه يرقص طربا بين جنباته ثم هتفت مشيرة للغرفة: - الاوضة متربة يا شيخ، خلينا ننضفها الأول.. نظر اليها عبدالعزيز و قد تبدلت نظراته المشتاقة الى نظرات غيظ و قهر و هتف راغبا في خنقها: - مش بجولك كئيبة..
يعنى ما صدجنا ربنا جمعنا تانى تحت سجف الاوضة اللى احنا كنّا مفكرين اننا مش هنجدر نجرب منيها حتى، تجومى تجوليلى متربة و معرفش ايه، طب خليكِ مع العفرة و انى رايح.. و اتجه للباب في غضب مما جعلها تهتف خلفه بنبرة نادمة: - طب بس استنى يا شيخ.. و اندفعت للباب تضع جسدها بينه و بين عبدالعزيز مسندة ظهرها على ضلفتيه تغلقهما قبل انفراجهما.
هامسة و هي توجه نظراتها لزوجها الغاضب: - هو چرى ايه يا شيخ، ميبجاش طبعك حامى كِده.. و على فكرة انى اتوحشتك چوووى.. انفرجت أساريره لكنه ادعى الغضب و الذى كان لايزل يرسم تفاصيله على وجهه وهمس: - متخليكِ مع العفرة احسن، بلا اتوحشتك بلا بتاع، يا كئيبة.. انفجرت مقهقهة من جديد هامسة: - و ماله، كئيبة، بس اتوحشتك برضك..
ووضعت كفها على صدره في شوق مما جعله ينسى غضبه كله دفعة واحدة و يتذكر فقط انه معها فجذبها اليه في مشاكسة هامسا: - طب تعالى، عايز اجولك كلمة سر، و لا لازما احضر روح الجتيل تاچى!؟. قهقهت من جديد و اندفعت تتلمس موضعها بين ذراعيه..
كله يجول ورايا وبحس عالى ومن غير نشاذ، سامع منك له.. هكذا هتف الشيخ عبدالعزيز الفقى، لمريديه من الاطفال.. والذين جمعهم لتحفيظهم أجزاء من القرآن الكريم، والفوز ببضع جنيهات ، يستعين بها على تدبير معيشته... كان يجلس امام حجرته المتواضعة، يستقر فوق مقعد منخفض من الخشب المتأكل.. والذى يصدر أصواتا تنم عن طول تحمله.. وفوقه.. تستقر احدى الوسائد المهترئة..
والتى يأن من حملها ذاك المقعد حتى دون حمل صاحبه.. وما أن هم الشيخ عبدالعزيز بتلاوة أول أياته القرآنية.. الا وكاد ان يسقط فزعا.. عندما هتفت روح من خلفه، : - شيخ عبعزيز، عايزة فلووووس... استعاد الشيخ عبدالعزيز رباطة جأشه، واستقر على كرسيه الراقص.. قبل ان يسقط عنه أرضا.. متجاهلا تلك العاصفة التى هبت خلفه..
وهو يهتف فى تلاميذه: - جول ورايا منك له، وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ... قالها وهو ينظر لروح.. عند لفظ مصيبة.. ويكمل وكأنه لم يسمعها.. وهو يتمتم فى تجلى: - اه والله، سبحان من هذا كلامه، انا لله وانا اليه راچعون.. لكن روح لم تيأس كالعادة : - شيخ عبعزيز، بجولك عايزة فلوس ..
وكالعادة تجاهلها الشيخ عبدالعزيز، خاصة عند طلبها للمال وأمر تلاميذه بالتكرار خلفه: - وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا كان يدرك ان روح تعلم انه تحصل على جنيهاته منذ لحظات.. وها هى تقف فى مواجهته.. كفها يعانق خاصرتها فى وضع هجومى.. وعندها فقط علم انه خسر المعركة، فأخرج جنيهاته.. والتى لم تنعم بعد بدفء جيبه..
ليعدهم للمرة الاخيرة ويستقطع منهم ما يدخره لنفسه.. لكن فجأة.. تنقض روح على جنيهاته لتختطفها جميعها كقطة برية.. وتبتسم فى جزل وهى توليه ظهرها، فيهتف حانقا: -، أنتِ روح أنتِ..!، دِه انتِ طلوع الروح.. فينفجر تلاميذه فى نوبة من الضحك الهستيري.. والتى توقفت فجأة مثلما بدأت.. عندما نظر اليهم شذرا.. وأمرهم من جديد، بالتكرار خلفه بصوت عال..
رغبة فى أغاظتها: - فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِمَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ ... لتخرج رأسها، من نافذة الغرفة الوحيدة والتى تقع تقريبا فوق رأسه.، وهى تعدل حجابها فوق رأسها ، فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً.... ما تكمل الآية يا شيخ عبعزيز، هتفت ضاحكة... -هاعدل، واچيبلك تلاتة يشركوكى الاوضة.. قالها رغبة فى إغاظتها.. الا انها انفجرت ضاحكة..
ضحكة جعلت قلبه يرقص على الرغم من حزنه على جنيهاته الفقيدة، والتى لم يهنأ بها... خرجت لقضاء حاجاتها. فطلب منها ترك ولدهما عامر عند احدى الجارات لأنه سيسافر لينشد فى احدى القرى، وربما يبيت ليلته.. قضت حاجاتها و عادت، لتأخذ ولدها والذى وجدته يلعب.. فى نفس المكان الذى طالما انتظرت فيه ابيه، الشيخ عبدالعزيز، قبل ان تتزوجه، فقط لتطمئن على رجوعه سالماً.
لطالما أحبته، وتمنت ان تقترن به، زوجة وحبيبة، فكلاهما وحيد فى دنياه، لا يملك من حطام الدنيا شيئا.. غير قلب يتوق للحب و روح تتمنى الأمان والطمأنينة... ويد تربت بحنان على جراح الايام، وتطرد شبح الوحدة بعيداً.. انها لم تنساه... حتى وهى تبتاع طلبات بيتها.. كانت تدخر بعض من النقود، لتشترى له ما يحب.. الحلاوة الطحينية.. التى يعشقها.. كانت تستمتع وهى تقدمها له.. فتلمع عيونه ببريق طفولى..
وينقض عليها، حتى يأتى على أخرها.. فتنفجر ضاحكة، وهى ترى وجهه وأصابعه.. لا تخلو من أثار تلك الوليمة.. التى يشعر بعدها بالسلطنة.. كما يأكد هو.. دوماً. وضعت الحلاوة الطحينية فى داخل أحد القدور.. حتى لا تطالها يد عامر ولدهما، فيقضى عليها.. قبل اقتسامها مع ابيه... ثم أغلقت بابها.. واحتضنت صغيرها ليناما فى هدوء... تململت فى فراشها وهى تزيد من احتضان ولدها..
فلقد كان الجو قارص البرودة، وفتحت عيونها عندما شعرت بحركة، بجوار نافذتها.. وباب غرفتها يُفتح.. ليطل منه شبح متشح بالسواد.. فانتفضت فى ذعر متسائلة: -، مين!؟. فأشاح زوجها بتلك العباءة التى يتلفح بها إتقاء للبرد من على وجهه، فتنفست الصعداء هاتفة، : - فزعتنى يا شيخ عبعزيز... - من نفسى مرة.. ما انتِ أديلك أربع سنين من يوم ما عرفتك وأنتِ ملبشة چتتى.... فأنفجرت ضاحكة وهى تخرج من الفراش.
لتخرج له معشوقته من مرقدها لتجلب له بعض الدفء فى تلك الليلة القارصة البرودة.. لكنه اعترض طريقها ليحتضن كفها الدافئة بين أكفة الباردة ليسرى الدفء إلى أوصاله أسرع من البرق... فأبتسمت فى حبور وهى تهمس: - هچبلك الحلاوة، يا شيخ زيزو.. - هو فى حلاوة أكتر من كده، يا روح الروح..!، قالها مشاكساً... - ما أنى كنت طلوع الروح، الصبحية وضحكت عليا كُتابك كله.. قالتها متصنعة الامتعاض والضيق..
- كنت بضحك معاكِ يا بت، متبجيش كئيبة بجى.. وأنفرجت أساريرها عندما أخرج لها أحد أصابع العسلية التى تعشقها وهو يستطرد، : - أهو، أدينى بصالحك يا ستى.. فقفزت تختطفها كطفلة حققت أحد أروع أحلامها وتندفع لأحضانه بعشق تنعم بدفء قلبه.. و روعة أحساسها بقربه... فيميل عليها مقبلاً أياها ثم ينتهى متذوقاً شفتيه وهو يتساءل ناظراً، لعمق عينيها، نظرات ملؤها العبث و الشقاوة... - هو أنتِ جلتيلى الحلاوة فين!؟
فهمست ضاحكة في دلال: - شيخ زيزو..!؟. ليهمس بالقرب من مسامعها: - يا روح الشيخ زيزو.. لينفجرا ضاحكين و قد شملهما الرضا و غمرتهما السكينة.. وغشيتهما الرحمة.. تمت نهاية الرواية أرجوا أن تكون نالت إعجابكم