رواية روح الشيخ زيزو للكاتبة رضوى جاويش الفصل الحادي عشر
كان الأفق الرمادي يتنهد شوقا لتباشير الصباح القادمة من بعيد عندما وصل عبدالعزيز و روح لقرب غيط من القصب تسللا بين عيدانه ليلتقطا أنفاسهما و ما ان جذب عبدالعزيز كف روح لتنهض من جديد لمواصلة الهروب بعيدا عن النجع و من فيه الا وهتفت روح بوهن: -خلاص، معدتش جادرة يا شيخ عبعزيز.. و ألتقطت أنفاسها في صعوبة لكنه رغما عن ذلك هتف فيها مشجعا: - معلش، تعالى على نفسك شوية عشان نبجى ف الأمان..
و مد كفه لها يجذبها لتنهض و تتابع معه هرولتهما المحمومة فوجد كفها ببرودة الثلج ووجهها قد غطاه الشحوب اقترب منها مذعورا هاتفا: - روح، مالك..!؟، انتِ حاسة بأيه..!؟. همست بحروف متقطعة وهنا: - روحى رايحة يا شيخ و جسمى متلچ.. و بدأت بالفعل تفقد وعيها فهتف عبدالعزيز بصوت يقطر رعبا: - روح، فوجى، انتِ بخير، متناميش، خليكى معايا، روووح.. لكن روح لم تكن هنا لتسمع نداءاته بل فقدت وعيها كليا.
و تركته يتطلع حوله ليجد مكانا يحمل زوجته اليه.. طالع من البعد عشة من الخوص قرر التوجه اليها.. خلع قفطانه و ألقاه على جسد روح و ما ان هم بحملها حتى رأى كفه و قد اصطبغت بلون الدماء القانى.. شهق في ذعر غير قادرعلى ادراك مصدر تلك الدماء.. تمالك نفسه في صعوبة و حملها في سرعة باتجاه العشة الخوص.
و ما ان دخلها حتى وضعها جانبا على ذاك الفراش الخشبي المبطن بالقش واندفع خارج الغرفة البوص يتلفت حوله طلبا للنجدة و العون وقد اضحى الصبح بين على حدود الأفق البعيد ليجدها قادمة من بعيد.. امرأة تتوشح بالسواد كعادة اهل القرى و النجوع تسحب خلفها بهيمتها و تتبختر قادمة على الطريق القريب منهما.. اندفع تجاهها في لهفة من طالع طوَّق نجاة في خضم بحرهائج صارخا.
يوقفها في توسل: - يا خالة، انجدينى يا خالة ربنا ما يوجعك ف ضيجة.. هتفت المرأة بقلق و هي تراه يقف أمامها على تلك الحالة المزرية بجروحه و تورمات وجهه التي ارعبتها لا محالة الا انها تمالكت نفسها مجيبة نداءه الحار بنبرة لا تخلو من الريبة : - خير يا ولدى، ايه في..!؟. أشار عبدالعزيز للخص حيث تقبع روح بلا حراك..
اندفعت المرأة للخص و ما ان رأت روح ممددة بهذا الشكل حتى توجهت اليها في لهفة تستطلع أخبارها هاتفة لعبدالعزيز: - مرتك دى..!؟. هتف عبدالعزيز مؤكدا: - اااه، مرتى يا خالة، مرتى.. تطلعت المرأة للنزيف الذى يغطى جلباب روح و وجها الشاحب الذى غابت عنه ملامح النضارة.. فسألت من جديد: - هي مرتك حبلى يا ولدى..!؟. هتف عبدالعزيز متعجبا: - حبلى.!؟ ، بتجولى حبلى يا خالة..!.
هتفت المرأة و هي تعدل من وضع روح: - اه يا ولدى، ربنا يعوض عليكم، شكلها كانت حبلى و ربنا ما أردش و العيل نزل.. و توجهت المرأة باتجاه باب الخص ليهتف عبدالعزيز متعجبا: - على فين يا خالة.. هتسبينى معاها و انى معرفش اعمل ايه..!؟. اكدت المرأة: - لاه يا ولدى.. انت ضيفى، و دى ارضى.. بس مرتك محتاجة علاچ ضرورى عشان نلحجها..
هروح اجيب لها جلبية چديدة نغيرولها و أكلة ترم عضمها و أبعت ام محمد الداية تطل عليها ضرورى.. هتف عبدالعزيز شاكرا: - ربنا يعزك يا خالة، و انتظر ليعرف الاسم فهتفت المرأة مؤكدة: - وچيدة، أسمى وچيدة يا ولدى، ادخل لمرتك و توجهت لبهيمتها و جذبت منها منديل مغلق مطبق على ما به ناولته إياه هاتفة: - خد، فوجها و خليها تاكل، لازما تاكل على بال ما اجيب اللازم و اچى..
هتف عبدالعزيز ممتنا: - ربنا يعزك يا خالة وجيدة، ربنا يسترك.. ابتسمت الخالة وجيدة في أريحية و عادت القهقهرى مع بهيمتها لتفعل اللازم من اجل روح.. ما ان استدار عبدالعزيز ليدخل الخص حتى سمع همهمات روح تعلن عن بدأ استفاقتها فاندفع اليها ملهوفا هاتفا باسمها: - روح، انت فوجتى..!. نظرت اليه نظرات هائمة مشوشة و أخيرا همست: - هو ايه اللى حصل يا شيخ عبعزيز..!؟. هتف مستنكرا: - ايه اللى حصل.!؟
و لا حاچة، نشفتى دمى بس.. وضع المنديل المصروم أمامها و فتحه ليخرج الطعام أمرا: - ياللاه لازما تاكلى، و متتحركيش من مكانك نهائي.. هتفت روح: - ايه اللى حصل، انا مش حاسة بحالى يا شيخ..!؟. مد كفه بالطعام لها هامسا في شجن: -طب بس كلى و انتِ تبجى احسن.. تناولت من كفه الطعام تلوكه في قلق و هي تشعر انها ليست بخير و انها فقدت شيئا عزيزا تشعر من جراء فقده بالخواء.
لكنها لا تدرك كنه ذاك الشئ الذى تشعر به و قد غادرها مع بعض من روحها.. كانت تأكل تلك اللقيمات التي كان عبدالعزيز يدفع بها لفيها في آلية.. حتى أخيرا ظهرت امرأتان على باب الخص.. مظهرهما المتشح بالسواد جعل روح تنتفض فيدرك عبدالعزيز وجود شخصا ما حيث توجه روح نظراتها.. انتفض عبدالعزيز بدوره لكن مرحبا هذه المرة هاتفا فيهما: - اتفضلى يا خالة وجيدة، تعبناكِ معانا..
هتفت الخالة وجيدة و المرأة الأخرى تتبعها للداخل: - مفيش تعب و لا حاچة يا ولدى.. الحمد لله مرتك فاجت اهى.. اطلع استنانا انت بره و كله هايبجى تمام.. اومأ عبدالعزيز برأسه موافقا الا ان روح هتفت بإسمه مستنجدة به، لا تدرى ما سيحدث لها من جراء بقاءها مع هاتين المرأتين.. الا ان عبدالعزيز طمأنها بايماءة من رأسه و غادر في صمت يقف على باب الخص مترقبا.. مر الوقت بطيئا و هو لا يدرك ما يحدث داخل الخص.
الا من خلال بعض الهمهمات من النسوة بالداخل و بعض الكلمات المتقطعة من هنا او هناك لا تحمل معنى مستقيم.. حتى أخيرا طالعه محياهما خارجتين من الباب القش دافعين إياه في تؤدة اندفع إليهما يستطلع الأخبار هاتفا في ترقب: - خير يا خالة، مش خير برضك..!؟. اكدت الخالة وجيدة: - الحمد لله يا ولدى على عطايا ربك.. هو اللى بيعطى و هو اللى بياخد.. و احنا ملناش الا نطيع..
اومأ برأسه مدركا لمغزى كلماتها هامسا بشجن: - يعنى كانت حبلى.. و الحبل ربنا يعوض فيه..!؟. اكدت الداية بايماءة من رأسها دون ان تنطق بحرف و استطردت الخالة وجيدة هاتفة و هي تشير للباب القش الموارب قليلا: - ادخل لمرتك يا ولدى و طيب خاطرها بكلمتين.. ووكلها.. لازما تاكل عشان تشد حيلها دى نزفت كَتير و ربنا وحده اللى سلم، دى المسكينة كانت ممكن تروح فيها، و ربنا يخلف عليكم..
اكد عبدالعزيز بايماءة من رأسه موافقا كلام الخالة و هو يندفع للخص و لكن قبل ان يدلف للداخل همس بصوت يملؤه الامتنان: - تسلمى يا خالة.. ربنا يسترك زى ما سترتينا.. همست وجيدة: - انى معملتش غير الواجب.. دِه حج الضيف.. و الضيف ضيف ربنا.. و إنتوا ف ارض الحاچة وجيدة اللى مبيباتش عليها چعان.. روح لمرتك يا ولدى، و اللى تطلبه كله مچاب..
ابتسم عبدالعزيز في امتنان لتلك المرأة التي أرسلها الله رحمة منه لتنقذ زوجته من موت محقق و تستقبلهما في ارضها دون حتى ان تسألهما من أين..!؟. و الى أين..!؟ و كم كان هذا السؤال او ذاك صعب الإجابة، بل ان إجابة الأول بالأخص لابد و ان تظل سرا، اما إجابة الاخر فهى بيد الرحمن..
رواية روح الشيخ زيزو للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثاني عشر
تطلع عبدالعزيز لروح التي كانت مطأطأة الرأس في حزن تنساب عبراتها في هدوء قاتل.. كان يشعر بألمها و حزنها على فقدان جنينها كحزنه و اكثر لكن ما باليد حيلة.. اقترب منها في تؤدة و جلس على أطراف الفراش الخشبي الذى اخذ يئن من ثقلهما معا ربت على كتفها في تعاطف فأرتفعت تشنجات بكائها.
المرير و الذى كانت تكتمه تعففا، جذب رأسها لصدره مطوقا إياها بين ذراعيه رابتا على رأسها التي كانت تهتزبينهما من جراء شهقاتها المتتابعة، انتظر ريثما هدأت نوبة بكائها و أخيرا همس بالقرب من اذنها: - خبر ايه يا روح.. الله چاب، الله خد.. الله عليه العوض.. همست بين ذراعيه بحزن عميق: - كان نفسى فيه يا شيخ.. كان نفسى ف حاچة من ريحتك تكون چنبى و انت غايب عنى..
قرر مضاحكتها لاخراجها من حزنها فهتف مازحا: - حاچة من ريحتى!؟، يا شيخة أتمنى حاچة عدلة، مش كفاية عليكِ ريحتى انى.. ابتسمت في وهن هاتفة: - ليه يا زيزو و الله دِه انت ريحتك مسك و عنبر.. انفجر هو ضاحكا: - يا بكاشة، جال مسك و عنبر جااال.. ابتسمت في ضعف و شردت من جديد و بدأت تترقرق الدموع في عينيها من جديد مما دفع عبدالعزيز ليهتف من جديد: - لاااه، بكا تانى لاااه الله يخليكِ..
و رفع ذقنها لتواجه عيونها نظراته الشقية هامسا: - و اذا كان على العيل اللى راح.. شدى حيلك انتِ بس و بعدين ابجى لاحجى على العيال اللى هنجيبهم.. كل شهر هنجيب عيل ايه رأيك..!؟. ابتسمت من جديد هاتفة: - كل شهر يا شيخ..!؟. اكد مازحا: - اه كل شهر.. امال عيال الشيخ عبعزيز ياجوا كل تسع شهور زى عيال الناس ياااك..!؟. انفجرت ضاحكة ليستطرد مازحا: - بس انتِ اللى متزهجيش منيهم..
و حوش عيالك يا شيخ عبعزيز، جننونى يا شيخ.. هدوا حيلى يا زيزو.. استمرت في قهقهاتها التي انتهت مع نهاية كلماته و نظرت اليه في محبة رابتة على كتفه في امتنان هامسة: - ربنا يخليك ليا يا شيخ و مايحرمنيش منك ابدا.. المهم انك مش زعلان.. هتف مستنكرا: - زعلان..!؟. مين اللى جال..!؟. هزعل من امر ربنا، دِه بدل ما نستخدمه انه نجانا من اللى كنّا فيه.. الحمد لله على كل حال.. و بعدين انتِ اللى تهمينى يا روح..
دِه انا روحى راحت منى لما لجيتك وجعتى من طولك.. هتفت في سعادة: - صح يا شيخ عبعزيز..!؟. اكد وهو يقبل جبينها: - صح يا عيون الشيخ عبعزيز.. تنهدت في راحة و هي تلقى برأسها على صدره في دلال ليهمس عبدالعزيز مشاكسا: - دِه باين ان العيال هاتاجى بدرى، بدرى.. انفجرت ضاحكة لمشاكساته و هو يضمها اليه اكثر و قد بدأ كل منهما في ألتقاط أنفاسه بعيدا عن ما حدث لهما سابقا..
هتفت روح في عبدالعزيز.
و هي تراه يهم بالخروج من الخص مبكرا على غير عادته: - على فين العزم يا شيخ..!؟.. هتف عبدالعزيز و هو يغسل وجهه من احدى القلل الموضوعة جانبا: - نازل اشوف اكل عيشى.. هتفت روح في ذعر: - و تسبنى لحالى يا شيخ..!؟. ابتسم عبدالعزيز مشجعا: - و ماله حالك..!؟. يا بت ما انت بجبتى زى الفل اهو.. ثم استطرد في جدية: - و بعدين يا روح.. احنا أخرنا ف الضيافة تلت ايّام عند الست وجيدة الله يسترها..
اخرهم كان امبارح.. ده حج الضيف.. اكتر من كِده مش هجبل اننا نعيش عالة على الست الكريمة دى.. كتر خيرها لحد كِده.. هتفت روح مستفسرة: - طب هاتنزل تشتغل ايه دلوجت..!؟. لسه بدرى على الزيارات لو نازل تجرا على الأموات ف الجبانات الجريبة دى..!؟ اكد هو بهزة رأس نافية: - لااه مش نازل اجرا.. و لا هجرب من الجبانة( المقبرة ) لحسن حد يعرفنى.
انت ناسية احنا هربانين من ايه.!؟ موصلكيش موت عتمان مجتول، و اكيد اسمنا هياجى ف الموضوع و هايبجى فيها سين و جيم و حلنى لما يثبوا مين اللى عِملها و احنا غلابة و ملناش ضهر يا روح، يعنى هنروح ف الرچلين تنهدت هي بلا إجابة مؤمنة على كلامه ليستطرد هو بنفس النبرة الجدية: -، انا نازل اشتغل ف ارض اى حد عايز أنفار.. همست هي مشفقة عليه.
و هي تنظر الى جروحه التي لم تندمل بعد: - و من ميتا ليك ف الفلاحة وشيلة الفاس يا شيخ!؟. هتف عبدالعزيز بعزم: - يبجى ليا، مادام بصحتى اشتغل اى حاچة و لا نبجى عالة على حد همست هي في إشفاق: - ربنا يجويك يا شيخ و يسترها معاك.. همس و هي ينحنى مقبلا جبينها: - ايوه كِده.. دعوة حلوة من الحلو هي اللى انى محتاچه دلوجت..
و خرج دافعا باب الخص متوكلا على رب كريم فطالعته الحاجة وجيدة تقترب في هوادة كعادتها ساحبة خلفها بهيمتها لتهتف مرحبة: - صباح الخير.. كيفها مرتك النهاردة يا شيخ عبعزيز..!؟. هتف باسما: - الحمد لله بخير يا حاچة، يسلم سؤالك.. استفسرت متعجبة: - امال على فين العزم الساعة دى يا شيخ و سايب مرتك لحالها..!؟. طأطأ عبدالعزيز رأسه محرجا: - رايح اشوف حالى بجى يا حاچة.. كتر خيرك تجلنا عليكِ..
هتفت الحاجة وجيدة متعجبة: - وااه، و هو انى كنت اشتكيت لك..!. ابتسم عبدالعزيز: - لاااه، و لا هتعمليها يا حاچة وچيدة.. كلك كرم و خير.. بس هو كِده تمام جوووى.. اشوف حالى بجى.. ابتسمت متسائلة: - طب و ناوى على ايه..!؟. هتف عبدالعزيز: - هنزل اشتغل ف اى ارض محتاجين فيها أنفار.. قهقهت الحاجة وچيدة مشيرة لأرضها: - و هي الأرض دى كلها مش عچباك و لا ايه..!؟.
انزل اشتغل فيها مع باجى الأنفار و رزجنا كلنا على الله.. ابتسم عبدالعزيز ممتنا: - و الله الواحد ما عارف يجول لك ايه يا حاچة ربنا يوسعها عليكِ كمان و كمان.. ابتسمت الحاجة وجيدة في بشاشة هاتفة و هي تلتقط منديلها من فوق بهيمتها كالمعتاد: - طب خد ياللاه فَطورك و اتكل على الله.. و انا داخلة لروح نفطوروا سوا.. تناول عبدالعزيز منها المنديل المصروم على فطوره و غادر ممتنا و هي تدلف لداخل الخص..
رواية روح الشيخ زيزو للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثالث عشر
كان إنشاد الشيخ عبدالعزيز يصدح في جنبات الحقول المترامية على أطراف ارض الحاجة وجيدة و التي اصبح من اهم علاماتها، او بالأدق اصبح شدوه و إنشاده الذى لا ينقطع علامة مميزة من علامات ارض الحاجة وجيدة التي احتضنته وزوجه وقت شدتهما و لازالت.. تقدمت الحاجة وجيدة من أطراف ذلك الغيط الذى يعمل به الشيخ عبدالعزيز هاتفة منادية إياه في عزم: - يا شيخ عبعزيز، تعال، عيزاك ضرورى..
ما ان سمع الشيخ عبدالعزيز نداء ربه عمله و التي غمرته و روح بكرمها حتى الثمالة حتى اندفع مهرولا اليها هاتفا ما ان وصل حيث تقف بانتظاره: - خير يا حاچة وچيدة، أامرى.. هتفت قائلة: - الامر لله وحده يا شيخ، انا كنت عيزاك ف موضوع كِده.. اكد عبدالعزيز في سرعة: - اللى عيزاه انا موافج عليه من جبل ما اعرفه حتى، عنينا ليكِ يا ستنا.. ابتسمت الحاجة وجيدة في امتنان هاتفة: - تسلم يا شيخ..
بس اسمع الأول و بعدين جول رأيك.. هتف عبدالعزيز: - اتفضلى يا حاچة جولى اللى عِندك.. و انا اها مش هفتح بجى جبل ما تخلصى.. تنحنحت الحاجة وجيدة في احراج قبل ان تهمس مترددة: - اكيد انت تعرف ان فرح بت اخوى الله يرحمه و اللى ربَّتها زى بتى كمان كام يوم..!؟. هز عبدالعزيز رأسه دون ان يقاطعها بحرف لتسترسل هي بنفس الاحراج هامسة: - بت اخوى دى كل اللى ليا ف الدنيا.. ربَّتها زى بتى و اكتر.
يمكن عشان ربنا مرزجنيش بالذرية من جوزى الله يرحمه فهى غالية عليا جوووى و نفسى افرحها و تبجى ليلة فرحها و لا ألف ليلة و ليلة.. و جلت مفيش حد يجدر يجوم بالليلة دى و يخليها محصلتش غيرك انت يا شيخ عبدالعزيز.. اتسعت حدقتا عبدالعزيز تعجبا لهذا الشرف و هتف في ذهول: - انى يا ستنا..!؟. دِه انى راچل على باب الله.. و دى حاچة كبيرة جوووى عايزة منشد له اسمه و صيته. و انى مهما كان على كدى..
هتفت الحاچة وچيدة: - بس انى مش عايزة حد يحيي الليلة غيرك.. ايه جولك..!؟. هتف عبدالعزيز: - بس يا حاچة انى، يعنى، اصلك.. و تلجلجت احرف عبدالعزيز على لسانه غير قادر على أخبارها بالسبب الحقيقى لرفضه احياء تلكك الليلة الكبيرة.. ذاك السر الذى جعله يفر هاربا هو و زوجته حتى ألقت بهما المقادير على اعتاب ارض هذه السيدة الطيبة والتي تترجاه لأحياء ليلة زفاف ابنة اخيها و ربيبتها بهذا الإصرار.
و هو غير قادر على الإزعان و القبول.. و لا يستطيع الرفض بسبب ذاك الجميل الذى يطوق عنقه تجاه تلك السيدة.. انه ينشد داخل ارضها و هو يعلم ان شدوه لا يتخطى حدودها لكن ان ينشد في فرح كبير سيكون فيه من الأعيان و الشخصيات من له ثقله، و قد يتعرف عليه احدهم ممن حضروا فرح بن عتمان المشؤوم، و ساعتها فلن يسلم مرة أخرى من العقاب..
و سيتم الدفع به في تلك الجريمة التي يعلم الله وحده انه طاهر من إثمها و برئ من دنسها.. لكن ما باليد حيلة هكذا همس لنفسه قبل ان يقول في هدوء ينافى ذاك الجدل الصارخ داخله: - من عنايا يا ست الكل.. انتِ تأمرى واللى تجوليه سيف على رجبينا.. هتفت الحاجة وجيدة في سعادة: - يعنى موافج يا شيخ..!؟. ابتسم عبدالعزيز لسعادتها هاتفا: - طبعا موافج.. هو انى أطول أخدمك يا ست الناس..
هللت هاتفة: - و الله انى جولت انك مش هتكسفنى.. انى جولت لروح انك هتوافج و هي مصدقتنيش، جال ايه.. منتش منشد متصيت.. دِه انت تعجب الباشا يا شيخ و هترفع راسى جدام ضيوفى و كبرات الناحية.. ثم اندفعت راحلة و هي تهتف: - تسلم يا شيخ، ربنا يعلى مجامك.. اما اروح اشوف اللى ورايا لحسن الليلة الكبيرة خلاص جربت.. ولت الحاجة وجيدة له ظهرها مغادرة.
و ما ادركت تلك الملامح المبهمة التي ارتسمت على ملامح عبدالعزيز و هي تتحدث عن الفرح و ضيوفها و ما دب في نفسه من رعب و هو يدرك بل هو على يقين ان ذاك الفرح المنشود قد يكون نهاية المطاف بالنسبة له.. و انه هالك لا محالة..
دخل عبدالعزيز للعشة الخوص حيث ترقد روح في انتظاره كعادتها كل ليلة عندما تهل التباشير الأولى للمساء.. ألقى التحية و هو يلقى بجسده متمددا جوارها..
ردت عليه في قلق و هي تدرك ان في الامر شيء ما يعكر صفوه على غير العادة.. ربتت على كتفه في حنو هامسة: - شكلك تعبان يا شيخ.. ايه شغل الأرض النهاردة كان شَديد و لا ايه..!؟. همس متمنيا: - يا ريتها جت على الشغل ف الأرض و الله كانت هانت.. همست بريبة و كأنما تدرك بفراستها السبب لكنها لا تريد الإفصاح عنه قبله: - امال، خبر ايه..!؟. هتف و هو يحاول النهوض متحاملا على نفسه باتجاه إبريق به ماء..
صب لنفسه منه و اخذ يغسل وجهه و كفيه ملتهيا عن ملامح روح القلقة: -مفيش، الحاچة وجيدة عيزانى احيي فرح بت اخوها، ما انتِ عارفة، هي جالت لى انها جالت لكِ.. ضربت روح على صدرها في ذعر هاتفة: - و انت وافجت يا شيخ..!؟. هتف في سخط: - و انى كان ايه اللى بيدى اعمله.. كنت هجول لااه للست اللى نچدتنا و اوتنا.. كيف تاجى دى!؟. جوليلى كيف هجولها لاااه.. و ليه..!؟. هجولها عشان انت اويتى ناس متهومة ف جضية جتل.
و هربانين عنديكِ و انى خايف لو طلعت أنشد في فرح بت اخوها الطوبة تاجى ف المعطوبة و حد يعرفنى و يبلغ علىّ.. تنهد في ضيق و هو يعاود التوجه لذاك الإبريق حتى يغسل عنه بعض من وعثاء العمل طوال النهار تحت ظل الشمس الحارقة صمتت روح و لم تعقب بحرف على ما قاله عبدالعزيز.. و ماذا يمكنها ان تقول و قد قال ما دار بخلدها و أصاب كبد الحقيقة في كل حرف.. نظرت اليه و هو يحاول استخدام الإبريق ليصب لنفسه الماء.
و هو يولى لها ظهره.. كانت المرة الأولى التي تراه فيها لا يجابه ما يلاقى بالدعابة و روح الفكاهة الفطرية التي يمتلكها و التي يشهرها دوما سلاحا في وجه نوائب الدهر.. نهضت في تؤدة مقتربة منه حتى جاورته و انحنت تتناول منه إبريق المياه هامسة في حنو: - عنك يا شيخ.. ترك لها الإبريق الذى لم يكن قد صب لنفسه منه قطرة.. فقد كان يتشاغل به عنها ..
و هي كانت تدرك ذلك كأنما تقرأ خواطره ككتاب مفتوح على مصرعيه امام ناظريها.. وضعت الإبريق جانبا و مدت كفها لتتناول كفه اليمنى و تفك ذاك الرباط الذى يلفها ببطء حتى انتهت فنظرت لقروح كفه التي ادماها الإمساك بالفأس طوال النهار و هو الذى ما كان له قبل على الفِلاحة و لا العمل بالأرض الزراعية فقد كرس حياته لحفظ كتاب الله و العمل به.. رفعت كفه المتقرحة في محبة و قبلتها بكل امتنان.
قبل ان تحمل الإبريق و تصب الماء عليها في حرص و هي تهمس متسائلة في دلال: - لسه چرح يدك مطبش يا زيزو.. و كأنما نطقت بكلمة السر حتى تعاود أبواب بهجته فتح ضلفها على مصرعيها ليهمس مشاكسا و قد استعاد روح مرحه: - بعد العلاچ اللى محصلش دِه لازما تكون طابت، انا ممكن انزل دلوجت اعزج لى عشر فدادين.. و لو زودتى چرعة العلاچ هنزل اعزج ارض الحاچة وچيدة كليها انفجرت ضاحكة لدعابته.
ليرقص قلبه طربا لمرأها أخيرا و قد دبت فيها العافية من جديد.. لتستمر هي في وضع الماء بتؤدة على كفيه المتقرحتين و غسلهما برفق.. ثم جمعت بعض الماء بكفها لتمد باطنه المبلل تغسل وجهه و تمرر أصابعها في لحيته التي استطالت قليلا منذ ان غادروا حجرة الحوش التي كانت تأويهما.. وأخيرا سحبت مداسه من قدميه و مد هو قدمه فوق الطشت حتى تصب الماء عليها و تدعكها في حماسة و في غفلة منه تداعبه فتدغدغ باطن قدمه.
لينفجر ضاحكا زاجرا إياها في لوم محبب: - اختشى يا بت يا روح، انا بغير يابت.. لتنفجر ضاحكة بدورها على ذاك الشيخ الوقور الذى (يركب الهواء) فزعا عند دغدغته.. كانت تضحك و هي جد سعيدة لانها انتشلته من حزنه و همه.. و كانت ذاك الطوق الذى تعلق به عندما حاولت تلك الدوامة من الغم جذبه الى أعماقها بلا رحمة فكانت هي لها بالمرصاد..