رواية إلى تلك الرائعة أحبك للكاتبة رضوى جاويش الفصل الخامس
تم إغلاق المقهى مبكرا كما اتفق الجميع و اختفوا جميعا فى غرفهم استعدادا للحفل، ساعة و طل احدهم تلو الاخر، تجمعوا حول مائدة صغيرة أنيقة فى احد أطراف المطبخ تتوسطها كعكة عيد الميلاد.. جلس جميعهم فى سعادة و بدأوا الاحتفال.. اندفعت غفران تطفئ الأنوار بعد ان اشعل منير الشموع المغروسة بالكعكة..
اخذوا فى الغناء و المزاح و ما ان هم يوسف بأخذ شهيقا قويا حتى يطفئ الشموع حتى هتفت غفران مازحة: - فليأخذ كل منكما ساتر، فالإعصار قادم فى الطريق.. انفجر الجميع ضاحكا الا يوسف نظر عابسا و هتف مدعيا الحنق: - بعض الهدوء، هناك شموع نركز لنطفئها.. هتفت غفران فى سخرية تغيظه: - اشعر انك تحاول ان تطفئ الشمس لا بعض الشموع..!؟.
لم تستطع هناء إمساك قهقهاتها و هتفت: - كفى غفران و دعينا ننهى إطفاء تلك الشمعات، ام انك تلهينا عن تناول الكعكة حتى لا نحكم عليها!؟، يبدوانها سيئة.. هتفت غفران تدافع عن كعكتها العزيزة: - انا لا مثيل لكعكاتى ابدااا.. هنا استغل يوسف انشغالها بالدفاع عن كعكاتها و نفخ بقوة لتنطفئ الشمعات دفعة واحدة ليعم الظلام..
نهضت مندفعة لتفتح الأنوار مرة اخرى ليندفع يوسف فى نفس ذات اللحظة ليفعل ذلك فأصطدمت به و تأوهت محاولة الصمود و حاولت ان تتماسك حتى لا تسقط فما كان منه الا الإمساك برسغها فى قوة لتتمالك نفسها و تقف فى ثبات اخيرا.. شعرت بلمسته تشبه جمر حارق قبض على ذراعها فجذبته فى سرعة مضطربة و فتح هو الأنوار ليعود كل منهما للطاولة من جديد..
هتف منير الذى لم يلحظ و زوجه توتر غفران الذى حاولت السيطرة عليه بمهارة: - ماذا تمنيت چو و انت تطفئ الشموع!؟. هتف يوسف مبتسما: - تمنيت السعادة للجميع، اما عن نفسى، فما عاد هناك شئ اتمناه.. هتفت هناء متعجبة: - لا امنيات مطلقا!؟، لا رغبة فى مال او عمل مرموق او ربما زوجة و اولاد..!؟. هتف يوسف فى هدوء يناقض تماما ذاك الوجع الذى يعتمل بصدره: - لا، لا رغبة على الإطلاق، اكتفيت بنفسى..
هتف منير متسائلا فى مرح: - كم عمرك الان!؟. هتف يوسف مبتسما: - أربعون عاما كاملة على تلك الارض.. هتف منير مشيرا لغفران: - مرحى يا رجل فلقد أتممت انا الأربعين منذ أسابيع قليلة، اتذكرين ماذا قلتِ لى ساعتها يا غفران!؟. همست غفران و لم تتطلع الى اى منهما بل تشاغلت بتقطيع الكعكة: - لا، لا اذكر..
على الرغم من انها كانت تذكر تماما ماذا قالت لكنها اثرت الإنكار و هى توزع الحلوى على الاطباق ليستطرد منير: - قلتِ ان سن الأربعين هو سن النضج الحقيقى و انه مذكور فى القران كذلك على لسان سيدنا سليمان شاكرا انعم الله.. هزت غفران رأسها مؤكدة متجنبة النظر اليه: - نعم هو كذلك، تذكرت.. و حاولت تغيير دفة الموضوع هاتفة: - الان جاء موعد تذوق الكعكة، أراءكم دام فضلكم، دون مجاملة..
بدأ الجميع فى تناول قطع الحلوى ليبدأ منير التعليق مهمها فى استمتاع: - راااائعة، حقا رائعة.. لتتبعه هناء هاتفة من خلف تلك القطعة الضخمة التى تحاول ان تلوكها فى فمها بسعادة: - ما هذا الجمال!، سلمت يداكِ غفران، لابد و ان تخبرينى سر الصنعة.. لقد صنعت العديد من الكعكات و لم تكن احداهن بذاك المذاق الخلاب.. هتفت غفران فى احراج: - انتِ تبالغين هناء، كل ما تصنعينه شهى بحق..
انتظر الجميع رأى صاحب عيد الميلاد لكنه استمر فى تناول قطعته حتى انتهى منها و مد كفه يتناول قطعة اخرى يضعها بطبقه و اخذ فى تناولها فى هدوء.. سأله منير متعجبا: - چو!، لم نسمع رأيك بعد.. هتف يوسف لامباليا: - لا بأس بها.. هتفت غفران فى ضيق و هى تجذب طبق الحلوى من امامه: - حسنا لا مزيد من القطع، واستطردت ساخرة: - لا بأس بها، لقد تناول بالفعل نصف الكعكة.
قهقه الجميع لملاحظتها ليهتف يوسف مشاكسا: - كل ينظر الى حجمه، النصف قليل بالمناسبة.. تثاءبت هناء و هتفت و هى تنهض فى تكاسل: - لقد حان وقت النوم، تصبحون على خير، و كل عام و انت بخير چو، بالمناسبة غفران اتركى كل شئ و لا ترهقى نفسك فأنت بحاجة للراحة ايضا، وغدا صباحا نقوم بالجلى..
و صعدت الدرج ليتبعها منير، نهضت غفران بدورها و بدأت فى جمع الصحون ضاربة بكلام هناء عرض الحائط، و بدأت فى تنظيفها متناسية انه لايزل هنا قابعا على كرسيه فى هدوء مسترخيا كنمر برى بعد وجبة دسمة.. شعرت بحركة خلفها و همت بالالتفات لتجده يحمل باقى الصحون و يضعها امامها فى حوض الجلى.. هتفت فى هدوء: - شكرًا للمساعدة، يمكنك الصعود للنوم، فقد كان.. قاطعها مشرفا عليها بقامته متسائلا: - لما!؟
رفعت رأسها لتقابل نظراته مستفسرة: - لما ماذا!؟. همس بتعجب: - لما لم تخبريهما بما حدث بالامس!؟. هتفت تتشاغل بالجلى: - علاقتك بالله تخصك وحدك و على الرغم من انك تنكر تلك العلاقة من الاساس، لكن تلك العلاقة المقدسة هى سر بين العبد و ربه و لا يحق لأحد التدخل فيها، و قد علمت بذاك السر و لا يحق لى إفشائه..
نظر اليها من عليائه و صمت و لم يعقب و اندفع يعتلى الدرج و ما ان هم بوضع قدمه على اولى الدرجات حتى توقف هاتفا: - بالمناسبة.. استدارت ناظرة اليه تستفسر: - الكعكة كانت رائعة بحق، انا لا أميل لتناول الحلوى بوجه عام لكن تلك الكعكة كانت استثناءً، سلمت يداكِ.. و اندفع للأعلى دون ان ينتظر ردها لتعود لجلى الصحون من جديد على شفتيها ابتسامة واسعة تحمل نكهة سعادة لم تتذوقها منذ زمن بعيد..
ذهبت هناء لزيارة طبيبها بصحبة منير و ظلت غفران لإدارة المقهى بمساعدة يوسف، كان الامر فى البداية مقبول و كانت غفران قادرة على السيطرة عليه لكن ما ان انتصف النهار حتى اصبح الامر اشبه بالسيرك مع كل هذا الكم من الطلبات التى ما عادت قادرة على تلبيتها بمفردها و بدأت تشعر بانها تنهار بحق الا ان يوسف تدخل فى اللحظة المناسبة قبل ان تصرخ فى هستيريا من كل هذا الضغط الواقع على أعصابها: - اهدأى، سأكون عونا لكِ..
ترك مكان حراسته على مدخل المقهى و بقى معها بالمطبخ توجه مباشرة حيث تقف و بدأ فى النظر حوله بعين خبيرة و تركها تفعل ما تقوم به دون ان يزعجها و قام برفع غطاء ذاك القدر الذى يغلى على النار، كان حساءها الذى تعده يوميا، امسك بملعقة و بدأ فى تذوقه، استحسنه بهمهة عالية جذبت انتباهها، سقط ناظريها عليه و هو يتناول احد أوعية البهار و يضع بعضه فوق الحساء فصرخت مرتعبة هاتفة فى صدمة: - ماذا فعلت!؟.
نظر اليها فى تعجب هاتفا: - وضعت بعض البهار.. صرخت فى غيظ: - و من اخبرك لتفعل ذلك!؟، لقد أفسدت حسائى و ما من وقت لإعداد غيره، العون من عندك يا رب.. هتف بدوره مغتاظا: - لم افسد شيئا.. هتفت تتهمه بغضب: - بل فعلت، وضعت بعض البهار على حسائى العزيز، ماذا افعل الان!؟. هتف يغيظها: - تذوقيه.. صرخت أمرة: - ابتعد عن موقدى و قدر حسائى الان، و لا تعبث كفك بأى شئ الا بتكليف مباشر منى..
و مدت كفها تتناول احد الملاعق الخشبية و وقفت امام الموقد حيث كان يقف منذ لحظات و تقهقر هو للخلف ناظرا اليها فى تحدى متخصرا، رفعت الملعقة لفمها تتناول بعض الحساء الذى ظنت انه افسده لعلها تصلح ما يمكنها اصلاحه، و لكن للعجب أعجبها الطعم كثيرا، تلك الإضافة البسيطة التى قام بها جعلت من الحساء متكاملا بحق، كانت دوما ما تبحث عما ينقص هذا الحساء رغم روعته بالفعل و لكن ها قد جعل الحساء مثاليا..
شعرت بالحرج و هى تستدير لمواجهته لكنها ادعت اللامبالاة هاتفة: - حمدا لله ان الحساء لم يصبه ضرر لفعلتك.. و تناولت طبق تملأه هاتفة و هى تمرره اليه: - هيا خذ ذاك الصحن لطاولة رقم ثلاثة، اسرع فقد تأخرنا.. تناول الصحن من كفها ووضعه على صينية تقديم و اندفع خارج المطبخ ليعود بعد لحظات هاتفا: - انت مدينة لى باعتذار، الحساء اصبح مذهلا بعد اضافتى السحرية.. هتفت ساخرة: - تقصد إضافتك العشوائية، مجرد حظ..
رغم سخريتها تلك الا انها فى قرارة نفسها كانت تدرك ان إضافته للبهار قد اضافت للحساء نكهة مميزة لا يمكن إغفالها، كما انها لاحظت انه أضاف تلك البهارات بثقة كبيرة لا يملكها الا محترف يعرف ما يفعل.. هتف يشاكسها: - انا اعشق العشوائية، و سأبهرك بنتائجها فى كل مرة.. هتفت محذرة: - اياك ان تمد إصبعاً على طعامى مرة اخرى، اياااك.. هتف يغيظها: - تحذيراتك تغرينى لمزيد من التجارب، و سأفعل و لن تستطيعى منعى..
هتفت بغيظ تهدده: - حاول مجرد محاولة، و سترى.. انفجر ضاحكا و اندفع يقدم المزيد من الطلبات تاركا إياها تشعر بالقلق على أطباقها التى تتفنن فى صنعها خوفا من ان يصيبها ضرر ما جراء عشوائيته..
رواية إلى تلك الرائعة أحبك للكاتبة رضوى جاويش الفصل السادس
شعرت ببعض الأرق بعد صلاة الفجر بقليل فقررت النزول الى المطبخ لعلها تقوم ببعض الامور التى تساعد فيما بعد عند مجئ ساعة الذروة فى منتصف النهار، نزلت بالفعل و بدأت فى تجهيز بعض الخبر الطازج و الفطائر الشهية، و دخلت تعدل من وضع الطاولات و مفارشها و زينتها و تضم مقاعدها و وضعت يافطة مفتوح على الباب و فتحت التلفاز على قناة دينية تبث آيات القران الكريم..
و عادت لعملها بالمطبخ، أعدت الفَطور فقد حان نزول الجميع بين لحظة و اخرى، و قد صدق توقعها فها قد هل يوسف من اعلى الدرج هابطا مستحسنا رائحة القهوة الذكية التى تصنع و التى يدعو مجرد استنشاق رائحتها الفواحة على الاستيقاظ.. هتف فى هدوء و هو يتناول احد فناجيل القهوة ليصب لنفسها قدحا: - صباح الخير هتفت بهدوء بدورها: - صباح الخير..
هتف يوسف ممتعضا وهو يرشف قهوته: - هل ما اسمع حقيقيا!؟، أيات من القران فى الصباح الباكر لحظة افتتاح المقهى..!؟ اشعر اننا بحارة شعبية متواضعة و نحن ندير مقهى شعبى و لا استبعد ابدا ان أراك يوما ما تحملين دلواً ترشين منه الماء امام المقهى هاتفة بصوت جهورى اصطبحنا و اصطبح الملك لله ، نحن بحى راق و ندير مقهى راق، اين ذهبت الموسيقى الكلاسيكية الناعمة يا امرأة!؟.
زفرت فى حنق هاتفة: - اولا، اياك ان تنادينى بهذا اللفظ مرة اخرى، تجاهلته مرة فى السابق لكن صدقنى لن أتجاهله مجددا، اما فيما يخص القران فانا اصبحت ادرك تماما عداءك لكل ما يمت لله بصلة و انا لست مجبرة على مراعاة مشاعرك او تحقيق ما أراه قد يسعدك، و اخيرا القرآن بركة فى الصباح و لن يضر مقهاك الراقى بعض من اياته بل على العكس تماما سيفيد و سترى..
هتف منير ومن خلفه هبطت هناء: - يرى ماذا!؟، اما من نهاية لجدالكما!؟. هتفت هناء و هى تتناول احدى الفطائر التى صنعتها غفران: - لا نهاية يا عزيزى، لكن على ماذا كان الجدال هذه المرة!؟ سألت هناء و هى تتطلع لكل منهما لعلها تلق اجابة لكن صوت تلك الرنات الموسيقية التى تنذر بقدوم احد الزبائن جعلت الجميع يتحفز لخدمته..
نهض يوسف ليبدأ نوبة حراسته الصباحية بينما انشغلت غفران بانهاء ما تعده، اما هناء و منير فأندفعا يرحبان بتلك الاسرة الصغيرة التى جلست فى الركن المواجه لمدخل المقهى حيث يقف يوسف.. ابتسمت هناء لأفراد الاسرة ووضعت أمامهم قائمة الطعام و هى تبادل تلك الصغيرة الرقيقة الابتسام فى مودة..
بدأ كل فرد فى اختيار انواع الطعام التى يفضلها و بدأت هناء فى كتابة تلك الطلبات، لم يمر وقت طويل حتى عادت بالمطلوب بمساعدة غفران التى لاحظت الصغيرة بدورها و بادلتها ابتسامة جعلت الفتاة تهتف فى سعادة: - عيد مولدى يوم الجمعة القادمة.. هتفت غفران فى سعادة مماثلة: - حقا!، هذا خبر رائع، كل عام و انت بخير يا صغيرتى.. هتفت هناء فى حماسة: - نحن نعد كعكات عيد ميلاد راااائعة..
هتفت الام متنبهة: - حقا!؟، هذا رائع، لكن ألا تقيمون حفلات عيد ميلاد للأطفال هنا بالمقهى!؟، فأنا لم اختر مكان لإقامته بعد.. هتفت غفران بسرعة قبل ان تجيب هناء: - بالطبع نفعل، نقيم الحفلات بطلب مخصوص، و دوما ما تكون يوم الجمعة حتى يكون المقهى شاغرا و مخصص للاطفال فقط مع ذويهم.. هتفت الام موجهة حديثها للأب فى حماسة للعرض: - حسنا ما رأيك!؟، افكر فى إقامة حفل عيد ميلاد صغيرتنا هنا..
هز الاب رأسه موافقا: - لما لا، ما التكلفة المبدأية للحفل... هتفت غفران و هى تتعمد عدم النظر الى هناء التى كانت مصدومة بالفعل: - على حسب ما تختاره سيدى، فقرات الحفل كثيرة و ممتعة للاطفال بجانب الكعكة و ما يمكن ان يُقدم معها من حلوى و مقبلات و بعض العصائر.. هتفت الام مؤكدة و هى تنظر لغفران: - رجاءً رقم هاتفك لنتباحث فى ذلك الامر مساءً..
أملتها غفران رقم هاتفها و اندفعت للمطبخ و فى أعقابها هناء التى صرخت هتعجبة: - ماذا فعلتِ لتوك يا غفران!، من اين جاءت فكرة عيد الميلاد تلك!؟، و هل نحن قادرون على القيام بمتطلبات حفل و فى يوم اجازة المقهى!؟. هتفت غفران فى ثبات: - سنفعل، و سنكون قادرون تماما على ذلك، دعِ الامر لى، فهذا رزق قد ساقه الله لنا و علينا العمل على تحصيله..
هتفت هناء باتجاه منير: - ما رأيك يا منير!؟، هل سنقوم بذلك الحفل ام نخرج لنعتذر قبل ان يرحل أصحابه!؟. هتف منير بحماس: - لا اعتذارات بالتأكيد، سنقوم به، نحن لم نفعلها سابقا لكن اعتقد انه حان الوقت لتطوير أنفسنا قليلا، لا بأس من بعض المخاطرة و فى الأخير انها مجرد حفل عيد ميلاد لطفلة، انا اتفق مع غفران تماما، هذا رزق بعثه الله، و علينا اقتناصه..
كان يوسف يقف على اعتاب المطبخ جاء ليخبرهم ان احد الزبائن قد جلس و لم يأت احد لخدمته و سمع ما دار من حوار، وقف يتطلع للجميع و نظر الى غفران و تذكر كلماتها منذ ساعات قليلة، سيفيد وسترى ، و هاهو يرى ابواب من الرزق تفتح أمامهم فعلا، هل حلت البركة كما كانت تدعِ غفران ام انه مجرد مصادفة عجيبة لا اكثر..!؟.
كانت تقف تعد بعض الفطائر عندما سمعت صوت يئن فى وجع أدمى قلبها، ارهفت السمع تحاول ان تستطلع من ان يأتى ذاك النحيب الموجع.. وصلت اخيرا لمصدره خلف باب المطبخ الذى يُفتح على الزقاق الضيق لتجده كلبا اعرجا أنهكه الجوع يئن خلف الباب، رق قلبها و انحنت تهمس فى تعاطف و هى تربت على رأسه بحنو: - مرحبا أيها الصغير، هل انت جائع!؟، بالتأكيد انك لكذلك، انتظرنى قليلا لا تتحرك..
عادت لتدلف من جديد للمطبخ مجمعة بعض من قطع لحم و عظام كانت فى سبيلها للتخلص منها.. وضعتها فى احد الاطباق الكرتونية و خرجت من جديد لتقدمهم لزائرها الشاحب خلف الباب..
دخل يوسف يخبرها انه اخذ طلبات احد الزبائن عندما تأخرت فى الخروج لصالة المقهى، و لم يكن يعلم انها تقدم طلب اخر، تنبه لصوتها الصارخ بشهقات مكتومة و القادم من وراء باب المطبخ الخلفى، اندفع يفتحه ليستطلع الامر ليجد عصبة من كلاب الحى بأسره قد اجتمعوا مهرولين فى سبيلهم الى موضعها و هى تقف فى صدمة تحمل جروا بين ذراعيها، لم يكن منه الا انه جذبها حاملا إياها و كلبها من امام ذاك الطوفان من الكلاب مختلفة الأحجام و الأشكال و التى جاءت متعطشة للعظام التى وضعتها امام باب المطبخ، دخل مسرعا و هى محمولة كما يحمل معطفه الشتوى على ذراعه و الكلب المشرد سبب الكارثة لايزل بين ذراعيها..
انزلها يوسف محاولا التظاهر بالهدوء و ما ان هم بالتحدث حتى هتفت هى فى اضطراب و تيه يتتابع صدرها صعودا و هبوطا من جراء صدمتها: - كيف تجرؤ!؟ هتف يوسف جازا على اسنانه: - أجرؤ على ماذا!؟، على انقاذك من عصبة الكلاب تلك!؟.
لم ترد فهى لم تتخلص من اضطرابها بعد، بينما استطرد حانقا و ما عاد قادرًا على السيطرة على أعصابه: - لا مشكلة، يمكننى إعادتك و صديقك الذى تحملين الى هناك مرة اخرى، صدقينى سأكون سعيدا و انا افعل ذلك فلا تختبرى صبرى..
هتفت محاولة تمالك أعصابها و السيطرة على اتزان قدميها و التى اصبحت كالهلام حرفيا بعد ان حملها بهذا الشكل لتكون صدمتها مضاعفة جراء هجوم الكلاب و كذا حمله إياها: - انت، انت وقح، و لا تتدخل فيما يخصنى مرة اخرى، و لا تلمسنى مجددا مهما كانت الأسباب.. هتف بغيظ: - لا ألمسك!؟، و كأننى كنت الساع لذلك، افيقى يا امرأة فأنا كنت انقذك من موت محقق، ام ان ذاك العاصى الماجن لا يجب ان يمس السيدة الطاهرة!؟.
شهقت هاتفة: - ماذا تقول!؟، انا لم.. هتف يقاطعها: - انتِ ماذا!؟، انتِ حمقاء تزج بنفسها فى مواقف تدفعنى دفعا للتدخل ثم تهتف بعدها الا اتدخل، حتى انها لم تفكر ان ابسط قواعد الادب ان تقدم الشكر. شهقت من جديد و هتفت ساخطة: - انا مؤدبة، انا كنت سأشكرك بالتأكيد، لكن..
هتف يستوضح متعجلا: - لكن ماذا!؟، الا يخبرك دينك ان اقل ما يجب تقديمه لمن قام بمعروف تجاهك هو تقديم كلمات الشكر له لا التقريع.!؟، انت مدعية.. شهقت مجددا هاتفة بغضب: - انا لست مدعية بل انت.. تقدم منها فى تهديد و شرارات الغضب تتطاير من عينيه فيتحول لونها للون زعفرانى عجيب ألجمها و ما عادت قادرة على التفوه بحرف و قد اشرف عليها بتلك القامة الضخمة مما أشعرها بالتهديد.
همس بلهجة هادئة أخرستها: - انا ماذا!؟، هيا اخبرينى، انا ماذا!؟. همست متلجلجة: - انت، بل انا، انا آسفة، و شكرًا لك على ما فعلته لأجلى..
و اندفعت صاعدة الدرج فى هرولة تاركة الكلب المسكين بأحد الجوانب يئن، مما دفع يوسف ليضع له بعض الطعام رابتا على ظهره، و متطلعا للدرج حيث اختفت منذ قليل، ليندفع منير مسرعا يحمل بعض الاطباق الفارغة و يضعها جانبا و يتناول بعض ما اعدته غفران حاملا اياه لخارج المطبخ ليقدمه لطالبيه، زفر يوسف حانقا عائدا لموضع حراسته خارج المطبخ و هو يفكر فيما قالته، هل تشعر بكل هذا الاشمئزاز من لمسته الغير مقصودة تلك و التى لم يكن غرضها الا حمايتها!؟، أغضبه الخاطر كثيرا و شعر انه يكاد يختنق قهرا، و تعجب فى نفسه لما يهمه ما يشعراو تقول و هو الذى كان لا يلق بالا لكلام معارضيه..!؟.
كان يتجنب اللقاء بها او التواجد معها وحيدا بعد موقفهما الاخير، فقد أوضحت بشكل صريح انها تريده ان يتجنبها و لا يفكر فى التدخل فى شؤونها مهما كانت، حسنا هاهو يفعل..
كان يقوم بما هو مطلوب منه بهدوء و على اكمل وجه دون ان يحاول الاحتكاك بها مهما كانت الأسباب، حتى كلبها الأعرج صديقها سبب المشكلة الاخيرة و الذى كان يتمسح بقدمه ما ان يخرج للذقاق لبعض شأنه كان يتجاهله اذا ما كانت هى موجودة و يقدم له الطعام و الدعم اذا ما غابت عن المشهد..
دخل الى المطبخ فى تلك اللحظة حاملا احد الصوانى و عليها بعض الاطباق الفارغة متوجها الى الحوض ليضعهم فيه فكادت ان تصدم به و هى تستدير فى سبيلها لاعلى.. عادت القهقرى منتفضة و تطلعت اليه للحظة و اخيرا اندفعت تجاه الدرج عندما صدح صوت آذان المغرب من جوالها.. غابت بالأعلى و تعجب لما لم تنزل حتى الان فسأل هناء فى مراوغة: - المقهى مزدحم لما لم تنزل غفران لمساعدتك..!؟
هتفت هناء موضحة: - لابد و انها تصلى، ذاك طبعها منذ جاءت الى هنا، ما ان تسمع نداء الصلاة على جوالها حتى تندفع صاعدة لغرفتها تؤدى فرضها و تعود للأسفل من جديد و اليوم ليس استثناءً، فلابد انها ستعود بعد قليل حتى تتناول إفطارها.. هتف يوسف متعجبا: - إفطارها!؟. اكدت هناء: - نعم، فهى كانت صائمة، و ها انا اعد لها الافطار..
صمت يوسف و لم يعقب و خرج لصالة المقهى و لكنه ترك باله مشغولا على تلك التى لم تنزل حتى الان لتتناول طعامها، كان يلق كل لحظة بناظريه لداخل المطبخ لعلها عادت، شعر بالضيق يكتنفه و قرر الصعود لاستعجالها، فاندفع بلا تفكير فى اتجاه المطبخ و منه لأعلى الدرج..
توجه الى غرفتها و ما ان هم بطرق الباب حتى سمع صوتها يرجو بنبرات تقطر تضرعا: - يا رب، أنر ذاك النور بروحه من جديد، فذاك القبس داخله قد خبا و لابد من ان ريح وجع قاسى هى من أطفأ جزوة الإيمان داخله، انرها يا آلهى، ارشده لطريقك الذى ضله فى عتمة التجربة و مرارتها، دعه يدرك انك هاهنا حى بأعماقه اقرب اليه من حبل وريده، قال انه دعاك كثيرا و لم تستجب حتى انكر وجودك، استجب له يا رب، استجب حتى يدرك انك هنا، انك موجود تملأ رحمتك و عفوك براح روحه التائهة و المتعطشة لجودك و كرمك، استجب يا الله، استجب..
و سمع صوت شهقات بكاء تتبع دعواتها الحارة و لم يكن صعب عليه ان يدرك انه صاحب تلك الدعوات و التى ترجو تحقيقها لأجله، و ان تلك الدموع المسفوحة تضرعا و املا من اجل خاطره..
شعر ان شئ ما يهتز بقوة داخل صدره و ان احساسا ما من رهبة و اضطراب قد بدأ يعتريه و يسيطر على مشاعره بشكل أقلقه بحق جعله يرغب فى الهرب منه فأندفع مبتعدا عن الغرفة متجها لأسفل فى هرولة حتى وصل لموضع حراسته داخل المقهى و تظاهر بالثبات و التركيز و هو يدرك تماما انه ابعد ما يكون عنهما و قد شعر بزلزال ما يحرك ذاك الجبل الساكن داخله و ان تلك الكلمات المتضرعة التى سمعها من خلف بابها اخذت تتردد على مسامعه كأنها صدى يتكرر داعيا اياه من خلف جدران التيه..
رواية إلى تلك الرائعة أحبك للكاتبة رضوى جاويش الفصل السابع
استيقظت صباح الجمعة فى همة و نشاط فاليوم هو اليوم الموعود، يوم عيد ميلاد تلك الفتاة الصغيرة التى اختارت امها إقامته هنا فى المقهى و هى قبلت التحدى، نظرت الى الكعكة التى أعدتها البارحة و ما بقى الا تزيينها بما يناسب طفلة فى السابعة، و الان جاء دور صالة المقهى التى سيقام فيها الاحتفال، عليها ترتيبها و تزيينها بما يجب و افساح المقاعد و الطاولات جانبا حتى تتح مساحة كبيرة من الفراغ للعب الاطفال و تحركاتهم بحرية كما انها أفسحت موضعا لتلك المجموعة التى سترسلها متعهدة الحفلات التى وعدتها بقدومهم فى الموعد المحدد و تقديم تلك الفقرات المتفق عليها..
بدأت فى العمل بجد و تبعها منير و هناء معاتبين إياها على عدم ايقاظهما للعمل معا و اخيرا ظهر يوسف على اعتاب صالة المقهى يبدو متبدل الحال ينظر اليها نظرات عجيبة تراها للمرة الاولى خاصة بعد حادثة انقادها و كلبها الأعرج منذ عدة ايّام وتجنبه التحدث معها او حتى التطلع اليها، الان هاهو ينظر اليها بشكل غريب بدأ يوترها، ما به!؟، تساءلت و هى تحاول تجاهل تلك النظرات التى تستشعرها تخترق ظهرها كانها سهام مصوبة ناحيتها.
بدأوا فى تعليق الزينات، و كان بالتأكيد الأقدر على ذلك و بكل سلاسة هو يوسف الذى وقف يتساءل: - اين تريدون منى ان اعلق هذه!؟. هتفت هناء: - اين نعلقها غفران!؟. هتفت غفران محاولة عدم التطلع اليه: - على الجانب الأيمن، هناك..
واشارت الى حيث تريده وضعها، توجه حيث اشارت و بدأ فى وضع طرف الزينة الا انها توجهت اليه مندفعة تهتف مؤكدة فى حنق: - ليس هنا!؟، و ليس بهذا الارتفاع الشاهق، لا ذنب للاطفال ان عملاق يعلق زينتهم، هم يريدون الاستمتاع بها فوق رؤوسهم قليلا و ليست بالقرب من القمر.. همس فى هدوء متجاهلا لهجتها الحانقة: - و ما العيب فى القمر، يمكنهم ان يمدوا كفوفهم الصغيرة ليملكوه، ألا تؤمنين بالأحلام و الأساطير!؟.
نظرت اليه هامسة فى تيه: - هااا.. ابتسم بهدوء و بدأ فى تعليق طرف الزينة بانخفاض اقل كما طلبت و ما ان انتهى حتى عاد يهمس من جديد: - ما التالى!؟ انتفضت تخرج من كهف التيه الذى ادخلها اياه و هتفت متعجلة تحاول ان تظهر انها فى كامل يقظتها: - فلتضع الطرف الاخر هناك فى أقصى اليسار.. اومأ برأسه فى وداعة و توجه حيث أشارت و نفذ ما امرت به..
انهى منير و هناء إعداد المائدة الكبيرة و المستديرة و التى تم اعدادها بواسطة ضم عدد من الموائد جانبا على شكل دائرى، و بدأوا فى وضع الاطباق و أدوات المائدة على اطرافها.. بدأت غفران وضع العديد من المقاعد فى احد الأركان جاعلة ذاك الجانب مخصص للأباء و الأمهات الذين سيحضرون الاولاد للحفل، و بدأ الجميع فى نفخ البلونات.
تجمعوا سويا و شرعوا فى الدخول فى مسابقة، و بدأ النفخ، و بدأت الاوجه تأخذ اللون الأحمر من شدته و كثرته و ها هى الأنفاس بدأت تنقطع، و هنا، انفجرت احدى البالونات فصرخت هناء و انفجر منير ضاحكا بينما همست غفران بالبسملة فى صدمة و هى تضع كفها على صدرها تهدئ ضربات قلبها التى زادت من جراء الانفجار ثم ضحكت عندما ادركت السبب، بينما ظل هو جامدا لم يهزه الصوت المفاجئ للحظة، يتابع ردات فعلها فى حبور داخلى تام و لا يعلم لما اضحى شَديد التركيز فى كل ما يخصها بهذا الشكل، كل ما يعلمه انه اصبح يشعر بسعادة عجيبة تكتنفه و شعور لذيذ يخدر اى وجع داخله حين يتطلع اليها او يحاورها او حتى يشاكسها..
هتف منير مخاطبا غفران ليوقظه من خواطره التى سيطرت عليه تماما: - و لما تركت هذا المكان بهذا الاتساع غفران!؟. اكدت غفران فى هدوء: - هذا من اجل من سترسلهم متعهدة الحفل ليقومون بفقرات الساحر و المهرج، انا فى انتظارهم بين لحظة و اخرى.. هتف منير فى انتشاء: - يبدو انه سيكون حفلا رااائعا، اشعر بالحماسة كأننى صاحب عيد الميلاد..
قهقت هناء هاتفة: - لو اعلم زوجى العزيز ان مثل تلك الأشياء تسعدك لأحضرتها فى عيد مولدك بدلا من تلك الهدية التى كلفتنى الكثير.. هتف منير مبتسما: - صدقينى زوجتى العزيزة، الرجال جميعهم اطفال.. هتفت هناء ضاحكة: - أعدك بتذكر ذلك يوم مولدك القادم.. رن جوال غفران كعادته وقت الصلاة منبها إياها بوقت صلاة العصر، نهضت فى هدوء و ما عاد احد يسألها الى اين تذهب لوجهتها فقد باتت معروفة للجميع..
تعقبها بناظريه يود لو يتبعها حتى يستمع الى صوت ابتهالاتها الذى يأسره و دعواتها التى تريح همه و صوت تنهدات بكائها التى تشعره ان هناك ما يحمل له بعض من مشاعر يبثها على هيئة تضرعات طاهرة تسكن ألام روحه و جروح و عذابات نفسه الا ان منير هتف محدثا اياه: - أتعرف!؟. تنبه يوسف مبعدا ناظريه عن موضع رحيلها موجها جم انتباهه لمنير محاولا ان يصرف ذهنه عن تلك الراحلة: - اعرف ماذا!؟.
همس منير مستطردا: - منذ جاءت غفران لذاك المقهى و الحال من حسن لأحسن، كنا انا وهناء فى سبيلنا لبيعه او حتى مشاركته فقد اصبحت ادارته عبء علينا بجانب انه لم يكن مكسبه بالمكسب المرضى لنا، لكن ما ان وطأته غفران بقدميها الا و تحسنت الحال بشكل عجيب، هذه الفتاة كلها بركة، لا اعلم ان كنت تؤمن بتلك الافكار ام لا، لكن اصدقك القول منذ مجيئها و هناك بركة عجيبة حلت على المقهى، صلاتها التى لا تفوت فرضا منها مهما كانت الظروف، قراءنها الذى تتلوه وحيدة بغرفتها و لا تنام الا على صوت اياته كما أخبرتني هناء و كذا صدقاتها المعلنة و الخفية، و التى سألتها يوما عنها فقالت انها تتاجر مع الله، و يبدو ان تلك التجارة فى رواج يا صديقى، فلم يكن المقهى يوما بهذا التكدس و لم تكن أعماله بذاك الرواج، لقد غيرت فكرى انا شخصيا، فصدقا لم اكن ملتزما كما يجب بالصلاة و لم اكن مواظبا عليها انا و زوجتى فاليوم بطوله نقف نقدم الطعام و لا نحصل بعدها الا القليل و منذ جاءت غفران أصبحنا نقتدى بها و وجدنا اثر ذلك فعلا فى كل ما حولنا، فقد تبدلت الكثير من الامور الى الأفضل، الأفضل بحق..
هتفت هناء تستحثهما على مواصلة العمل بجد: - كفا عن الثرثرة و هيا للعمل.. هتف منير متوجها للمطبخ فى أعقابها: - و من يستطع ان يخالف أوامرك سيدتى!؟ ها انا ذا.. رحل الجميع بينما ظل يوسف جالسا موضعه يتطلع حوله بعيون تائهة و كلمات منير تتردد بذهنه فى تتابع محموم جعله يهز رأسه فى اضطراب محاولا ان ينفض بعيدا تلك الكلمات و تلك المقصودة بها حتى يتخلص من تأثيرها المقلق على أعصابه و خواطره و ثباته..
بلغ توترها الذروة فها هو المقهى قد امتلأ بالأطفال و ذويهم و متعهدا الحفل لم يصل أيهما بعد، فقد جاء الاول و ترك بعض من حاجياته و اخبرها انه سيكون هنا فى الميعاد المتفق عليه و ها قد مر ما يقارب النصف ساعة على ذاك الموعد و لم يحضر.. كادت تبكى قهرا فهذا الحفل يمثل لها الكثير و قد اخذت على عاتقها إنجاحه من الالف الى الياء..
تنبه يوسف الذى كان يقف جانبا لحالتها الغير معتادة فمال على منير متسائلا: - ماذا هناك!؟، اشعر بتوتر يخيم على الأجواء على الرغم من ان الامور تسير على ما يرام كما أرى، ام ان هناك امر اخر لا اعلمه!؟.
همس منير مؤكدا بايماءة من رأسه: - متعهدا الحفل لم يحضر أيهما حتى اللحظة، و ذاك سبب توتر غفران، تشعر ان إنجاح ذاك الحفل مسؤليتها، لذا فاعصابها بدأت فى الغليان كما ترى على الرغم انها تحاول عدم إظهار ذلك..
اومأ يوسف برأسه موافقا و عاد موضعه من جديد يتطلع بعين خبيرة لما يدور حوله، بينما هتفت غفران بابتسامة حاولت ان تبدو طبيعية غير متشنجة تدعو الجميع للألتفاف حول الكعكة و غلق الأنوار إيذانا بإطفاء الشموع التى عملت على إشعالها منذ لحظات.. بدأ الجمع فى التهليل و الغناء لصاحبة الحفل و التصفيق بعد إطفاء الشموع..
ليسطع النور من جديد و يبدأ توزيع الحلوى و تقديم الهدايا التى كانت غفران قد خصصت لها ركنا خاصا تُوضع فيه.. ألتهى الجميع بالحلوى و العصائر و ما ان بدأ الاطفال فى مشاكسة بعضهم حتى ظهر ذاك المهرج بملابسه المميزة التى تحوى جميع الألوان و وجهه المرسوم بابتسامة واسعة و شعره الأخضر و انفه الأحمر المستدير هاتفا فى مرح: - مساء الخير يا صغار..
عاصفة من التهليل و التصفيق اشتعلت و اندفع الاطفال فى اتجاه ذاك المهرج الذى استقبلهم بترحاب و بدأ الاطفال فى الجلوس بسرعة حتى يستمتعوا بالفقرات التى سيعرضها عليهم..
بدأ المهرج فى اخراج صورة لحمار ناقصة ذيله و الذى كان يحمله فى كفه ليختار كل مرة طفلا يعصب عينيه و يتركه يضع ذيل الحمار كيفما اتفق، لتنفجر ضحكات الاطفال و الكبار فى كل مرة عندما يفشل احدهم فى وضع الذيل بمكانه الصحيح حتى ان الآباء شاركوا أطفالهم اللعب لترتج القاعة بالمزيد من القهقهات..
و هنا هتف المهرج معلنا انه سيحاول هوهذه المرة وضع العصابة حول عينيه و قد امسك الذيل و للعجب وضعه بمكانه الصحيح، شهق الاطفال فى إعجاب لمهارته لكن ما ان ألتفت اليهم حتى ادرك الاطفال انه عَصّب عين واحدة و كان يرى بالعين الاخرى فهتفوا معترضين: - انك تغش، انك تغش..
اندفع المهرج يجرى و الاطفال خلفه يتوعدونه و انطلقت ضحكاتهم مقترنة بضحكات الكبار على افعال المهرج طويل القامة الذى كان يجرى بذاك الشكل المضحك و من خلفه الاطفال معترضين. تأسف المهرج و وعد الاطفال بعدم الغش مرة اخرى و اخبرهم ان الغش عادة سيئة يجب ان لا يتحلوا بها..
جاء وقت القصة فجلس الاطفال فى سعادة يلتفون حول مهرجهم المضحك الذى بدأ يقص حكايته هامسا: - كان هناك فتاة فقيرة تبيع الكبريت حتى تستطيع الإنفاق على جدتها العجوز المريضة، كانت فتاة جميلة و طيبة تجول الطرقات طوال النهار تبيع الكبريت حتى تكل قدماها، و فى يوم بارد اخذت تهتف بصوت عال لعل احدهم يسمعها فيشترى منها ما تحمل من أعواد الكبريت حتى تعود لجدتها التى اشتد عليها المرض باكرا لكن لم يسمعها احد و لم يشتراحد منها و لا عودا واحدا..
قاطعته احدى الفتيات فى حزن: - ماذا ستفعل تلك المسكينة يا ترى!؟. هتف احد الاطفال فى ضجر: - اصمتى حتى يُكمل لنرى ما مصيرها.. هتفت فتاة اخرى فى صدمة: - هل ستموت!؟، انها لا تستحق ذلك.. صرخ طفل اخر فى غضب: - دعوه يُكمل، أووه، لا فائدة، فتيات حمقاوات.. انفجر الجميع فى الضحك بينما امتعضت الفتاة و صديقاتها.. استطرد المهرج فى نبرة استرعت انتباه الجميع: - كادت الفتاة ان تتجمد من البرد لكن..
صمت لبرهة فهتف الكل فى نفس واحد يستحثه ليستطرد حكايته ليهتف مستجيبا: - لكن خرجت امرأة ما من احد الأبواب القريبة من موضع جلوس الفتاة التى كانت تشعر ان البرد قد نخر عظامها بالفعل و هتفت تستدعى الفتاة الصغيرة لداخل مقهاها لتقدم لها وجبة طعام ساخنة بكل محبة و تدعوها للعمل معها حتى تستطيع الإنفاق على جدتها..
عادت غفران التى كانت قد دخلت للمطبخ تتابع بعض الامور عندما استراحت لظهور المهرج و بدأه العمل و ها قد عادت للصالة من جديد تتابع الاطفال و ذويهم تنبهت الى هذا الجزء من القصة و تركت ما كانت تقوم به من تنظيم و ترتيب مستغلة هدوء الاطفال وقت الحكاية و نظرت باتجاه ذاك المهرج الذى تبدل صوته فى تلك اللحظة من ذاك الصوت الرفيع الى صوت أجش تعرفه تماما و تدرك صاحبه عين الإدراك، تطلعت الى تلك العيون التى تحجب نظراتها الأصباغ المنتشرة حولها لتكتشف انه هو، يوسف..
كادت تشهق بصوت عال لإدراكها تلك الحقيقة لولا بعض من ضبط النفس جعلها تلجم لسانها فلا تهتف باسمه و لا تخرج انفاسها من الاساس لثوان من الصدمة.. و تساءلت ما ان بدأت فى تمالك أعصابها ما الذى دفعه ليفعل ذلك و يقوم بدور ليس دوره!؟، لكن للعجب يجيده بشكل اذهلها و حاز إعجاب الاطفال..
تأكد انها اكتشفت حقيقته لكنه استطرد فى هدوء مكملا قصته: - وافقت الفتاة فى سعادة على عرض المرأة الخيرة و قد شعرت ان هذا استجابة لدعواتها التى كانت تدعوها دوما، و عاشت بعدها فى راحة و هناء.. صفق الاطفال فى سعادة لنهاية القصة التى أرضت فضولهم و توقعهم لنهاية سعيدة لها، و عادت الموسيقى لتصدح من جديد.
لينهض الاطفال يتقافزون فى حبور على أنغامها ليشاركهم هو الرقص و القفزات مما جعلها تنفجر ضاحكة على مظهره الضخم بين اطفال لا يكاد يصل طول اكبرهم لأعلى من مستوى خصره و هو يتقافز بينهم بشكل يكاد يحدث زلزالا مدويا..
بدأ الاطفال فى الشعور بالتعب و شرع الجميع رويدا فى الانسحاب مغادرين بعد تهنئة الصغيرة ووالديها بعيد مولدها السعيد مؤكدين على استمتاعهم بالحفل و إشادتهم بكل ما قُدم فيه من اطعمة متنوعة و طازجة..
كان يوسف يقف فى احد اركان القاعة يزفر فى راحة فقد قام بِما عليه و انقذ الموقف و ما ان هم بالمغادرة حتى يخلع ما يرتديه من ثياب مضحكة و التى كان يبدو بوضوح انها ضيقة قليلة و قصيرة بعض الشئ، الا ووجد حركة ما بالقرب من قدميه..
نظر للأسفل يستطلع الامر فقد يكون لاكى كلب غفران الأعرج قد غادر موضعه خارج المطبخ ليأتى ليتمسح بأقدامه كالعادة الا انه وجد فتاة صغيرة تتطلع اليه بعيون قمة فى البراءة جعلت قلبه يدق بين جنباته بعنف و كادت تطفر الدموع من عينيه لمرأها، انحنى حتى اصبح بالكاد فى مستوى طولها لتهمس فى رقة: - أيها المهرج، هل يمكن ان تدعنى اجرب وضع ذيلا للحمار..!؟، كنت اجلس بالصف الاخير و انت لم تخترنى، لو سمحت..
هز رأسه موافقا و حملها الى صورة الحمار و عَصّب عينيها و سلمها الذيل لكى تحاول، اقترب من موضع الذيل بالفعل حتى تنجح فى محاولتها، و بالفعل نجحت لحد كبير فى وضع الذيل موضعه الصحيح.. انزلها من بين كفيه و رفع العصابة عن عينيها و هو يهلل فى سعادة: - احسنتِ.. ابتسمت الفتاة فى خجل هامسة: - اشكرك. همت الفتاة بالمغادرة الا انه استوقفها هاتفا فى رقة: - ما اسمك يا صغيرة!؟. هتفت بوداعة: - أسمى أنچل..
همس فى اظطراب و قد غامت عيناه فى صدمة: - يليق بكِ كثيرا.. و لوح بكفه يبادلها سلامها مودعا إياها.. لينفض الجمع و لا يبقى الا والدا فتاة الحفل يشيدان بكل ما تم تقديمه فى سعادة و مؤكدين انهم سينصحون كل معارفهم بالمجئ الى ذاك المقهى الرائع.. و كم كانت سعادة غفران لا تُوصف لسماع ذلك و بدورهما كان منير و هناء فى قمة سعادتهما كذلك..
دارت غفران بعينيها باحثة عنه لتقدم له الشكر على انقاذه الموقف و نجاح الحفل الذى كان هو عاملا أساسياً و جوهريا فيه الا انها لم تجده، فقط وجدت بدلة المهرج المزركشة موضوعة جانبا، و اخيرا سمعت صوت انطلاق احدهم على دراجته البخارية فأيقنت انه هو و قد غادر لا تعلم لما..
اعتقدت انه يهرب منها و من تعليقاتها التى قد تمطره بها و التى سيظن بالتأكيد انها تحمل الكثير من السخرية، لكنها لم تكن تدرك انه يهرب من شئ مختلف تماما، شيئا من ماضى سحيق كان يظن انه تخطاه منذ امد بعيد، لكن هيهات..