
لإصرار خصلة اكتسبتها من أبيها ولا تنكر ولطالما عشقت تلك الخصلة الحميدة به سرا ولكنها في تلك اللحظة تحديدا على وشك إعلان رسمي أنها قد أنهت علاقة الحب بينها وبين تلك الخصلة لتبدأ حربا ضروسا.
<a name=\'more\'></a>
مضت تستمع لصيحات صغيرها الذي شني بنسبة لا بأس بها والسعيد في الوقت ذاته بل هو سعيد للغاية بتلك العطلة التي ستبدأ من الليلة حسب تعليمات جده ليتجها سويا لمزرعته على أطراف المدينة- جدو عمل ملعب كورة فيها كمان ابتسمت رغما عنها وقالت:
- خلاص يا أيهم جهز حاجتك أنت وإخواتك عبال أنا ما أخلص الشغل وارجع وبنفس صيحات الإبتهاج قال:
- استني جدو عاوز يكلمك نفثت بغضب لتخرج بعض ذرات الهواء المكبوتة داخلها بانفعال وقالت:
- يا بابا، مش كنت تبلغني قبل ما تقول للولاد ؟
ضحك أبيها ليزيد من غيظها وقال ببساطة:
- ماكونتش هتوافقي إنما أنت كده قدام أمر واقع زمت شفتيها وقد استطاعت فهم المغزى من وراء كلماته وقالت هازئة:
- ربنا يستر وما أروحش ألاقي المأذون وتعالت قهقهات والدها وقال بعد أن هدأ بغموض:
- لاء اطمني أنت بنتي وأنا لازم أعززك أنهت تلك المحادثة التي أشعلت داخلها غضبا وحنقا . إن كانت بلحظات عقلانية لوجدت أنها لاطائل منها بل ولا داعي لها . هي ماعادت طفلة، ولكن مع ذلك أخذت بفرد أصابع كفها وضمهم مرة أخرى والشعور بحاجتها للكم أحدهم أصبح ملحة خرج من غرفته فجأة حاملا سترته وقد أعد نفسه للرحيل فنظرت للساعة خلفه متعجبة فالوقت لم يتجاوز الرابعة عصرا ! فعادت ترمقه بنظرات غلب عليها طابع الشك، فيما وقف هو يطالع لوحة وجهها التي تحمل كل المعطيات السلبية من غيظ وقهر وغضب فقال بحدقة ضيقة:
- يظهر إنك تعبتي، روحي يا درية فقالت وهي ترمقه بنفس النظرة المتشككة:
- والتقرير الربع سنوي، إيه مش عاوزه ؟
هز رأسه نافيا:
- يتأجل ليوم السبت فاعترضت بسرعة:
- بس أنا هاخد السبت أجازة هز كتفه ببساطة:
- خلاص أما ترجعي هتفت لتستوقفه زاجرة:
- جاسر، أنت فعلا هتمشي دلوقت الساعة لسه تلاته ونص؟!
التفت لها ساخرا:
- معلش أصلي رايح اتغدي مع ولادي . عندك مانع؟!
هزت كتفها لا مبالية وغمغمت وهي تغلق الحاسوب أمامها:
- وماله، بالسلامة
ألقي نظرة سريعة على ساعته بمعصمه لدى توقفه أمام متجر للألعاب شهير بوسط المدينة وترجل من سيارته بخطوات سريعة وبحركات تحمل نفس الوتيرة انتقى ألعابة لطفليه، نقد البائع ثمنهم الذي تجاوز بضعة مئات وخرج حاملا إياها عائدا لسيارته مرة أخرى وفي طريقه استوقه متجرا للزهور وتجمدت قدماه اللحظة وهو يفكر أنه لم يعد يوما حاملا لها زهورا ! في الواقع ولا أي هدية قط مكتفيا بمنحات شهرية ضخمة وحديقة القصر الواسعة ملئی بشتى أصناف الزهور، ومضى مرة أخرى نحو سيارته وهو يسخر من نفسه " فهل سيشكل فارقا إن عاد يوما بزهور، أتراها لم تكن لتتركه؟!
" ومع ذلك أقر بواقعية " أنها كانت لتشكل فارقا بعلاقتهم " متی توقف ليري الفوارق ؟
بل متی توقف عقله ليعقد المقارنات بين السابقة والحالية ؟
بالأمس القريب حمل لها طعامها وهو الذي لم يحمل نفسه من قبل بإعتذار كان ينبغي عليه أداؤه لسابقتها بل تجاهله إذ لم ترد هي بطلب أو اعتراض، فمن المخطيء؟
هو إذ تجاهل دوما الإشارات، أم هي إذ انصاعت دوما لوتيرة حياته وصخب کبریاؤه العنيد ؟
أول من استقبله نعمات تصحيح بل " نظرات " نعمات فالعيون مفتاح الشخصيات وعنوان صريح لما تحمله القلوب وهي أيضا مذياع ثرثار يحكي ويسرد خواطر العقل فابتسم هازئا وهو يلقي عليها السلام قائلا:
- خير يا نعمات شوفت عفريت ولا حاجة ؟
تنحنحت نعمات وتخضبت وجنتها باللون الأحمر وقالت:
- أبدا بعد الشر یا جاسر بیه، أصلك مش متعود ترجع بدري بالنهار كده نظر في ساعته وقال مصححا:
- قصدك العصر وداخلين على المغرب، وبعدين إيه مش من حقي أرجع بيتي بدري ولا إيه ؟
نفت نعمات وهي تمد يدها لتحمل عنه الأكياس:
- لا طبعا العفو ياجاسر بيه، عنك أنت ابتعد عنها وقال:
- سيبيهم یا نعمات أنا عاوز أديهم للولاد بنفسي واستدار لها قبل أن يصعد للأعلى قائلا:
- هما فين صحيح ؟
فقالت بمكر:
- في أوضتهم مع مامتهم تجاهل نظراتها الماكرة ونبرة صوتها المتشفية بمصدر عذابه ومضي بهدوء نحو غرفة صغاره ولحسن حظه أن الباب لم يكن مفتوحا على مصراعيه وما كان مغلقا أيضا بل كان ليشكل مطلا سريا على النعيم بنظره صغيره سليم المتجهم دوما على غير العادة فمه يفتر عن بسمة سعيدة راضية وصغيرته سلمی تناوشه بشقاوة محبة وترسل لأمها ببضعة قبلات التي كانت بدورها تضحك بسعادة، وكان بسمتها عدوی فانتقلت فورا لثغره وهو يطالع وجهها الذي ينير برضا وحب وهي تلاعب صغارهم وأسرت عيناها خصلات شعرها البنية الدافئة التي اشتاق لملمسها ولرائحة اللافندر التي هي طابع خاص بها ووشت به صرخة سلمى الشقية وتقافزت ساقيها نحوه:
- بابا فالتفتت بعنف لتتقابل أعينهم وهو لا يحيد عنها بنظراته النهمة وقامت بسرعة تبحث عن وشاحها الذي وضعته جانبا فيما حمل سلمي وهي تسأله بإلحاح:
- جبت إيه، جبت إيه ؟
إيه الحاجات الكتير اللي في الكيسة دي؟!
فابتسم لها وعيناه تتابع تلك المرتبكة وهي لا تزال تدور بالغرفة کنحلة طنانة وبمكر شديد أخفی وشاحها بما يحمله من أكياس كبيرة وقال ليرد علي صغيرته اللحوحة وهو يقبلها بدوره:
- فيها حاجات هتعجبك أوي بس الأول خليني أسلم على سليم التفت لصغيره الذي كان يراقب المشهد بعيون تسابق عمره، فأمه تبحث عن وشاحها لتغطي رأسها وهي التي كانت تبيت معهم بثياب منزلية لا تستر الكثير من جسدها ووالده يقف بعيدا عنها كغريب يراقبها بشوق ولا يسعة الاقتراب قال جاسر وهو يقترب منه مقبلا جبهته قائلا بصوت مرتفع:
- إيه رأيك ياسليم تروحوا تباتو مع ماما النهاردة؟!
وتوقفت عن الدوران وداخلها مشتت بين فرح وغیظ بالغ محاصرة هي في تلك الغرفة تبحث عن أمان زائف يستقر بين ثنايا وشاح وما يزعجها حقا هو تقافز دقات ذاك الخائن طربا عندما سمعت صوته وأفكار تتلذذ بكونه يقف بالخارج خلسة يراقبها لولا أن فضحت أمره صغيرتهما والعقل ينهر ويشجب فهو من باع وألقي يمينا فض به میثاقا أغلظ مايكون بل وهدد بعقاب واليوم عاد جاسر العظيم بمساومة، أطفالها سيبيتون معها تلك الليلة والمقابل في علم الغيب وعلمه أيضا قطع سيل أفكارها وهو يقول لأطفاله الذين يصرخون بسعادة لهذا النبأ الغير متوقع:
- روحوا طيب سلموا على تيتة قبل ما تمشوا وزال صخب الصغار تدريجيا ليعلو صخب من نوع آخر، هي بمفردها معه في غرفة مغلقة ومضت تبحث عن وشاحها ولكن بوقع خطوات أعلى، تبعثر محتويات الغرفة ولا تبالي بوجوده فاقترب منها ومد يده ليقبض على ذراعها المنفعل هامسا بصوته الأجش وبعيون ماكرة:
- بتدوري على ده؟!
التفتت له حانقة محمرة الوجه مرتبكة وجذبته من بين أصابعه بقوة حتى كاد يتمزق فقال بهدوء عكس ماتمر به:
- اهدي يا سالي، احنا لسه في شهور العدة، والصح أنك كنت قضتيها هنا في القصر فابتسمت وقالت بتهكم حانق:
- أنا قلت أسيبك تاخد راحتك مع العروسة فاقترب منها بدوره غاضبا وكلماته تتهمها بخذلانه لكأنما وقعا في ذلك المأزق بسببها:
- العروسة دي أنت وافقت عليها رفعت رأسها وقالت بتحدى رافضة الذنب الذي يلقي به على عاتقها فهو من سعي لتلك الزيجة وهو من تخلى عنها:
كل واحد عارف أنه هيموت ومش في أيده حاجة عشان يرفض، بس مش معنی کده أنه بيبقي راضي وموافق صمتت بعد أن أدركت أنها بحماقة بالغة أبلغته لتوها أن فراقه هو الموت بالنسبة لها وأنا لم تكن مستعدة لتقبل فكرة الرحيل ولكنها انصاعت لأقدارها أما هو فزلزلته كلماتها حتى بات يشعر أنه يقف على حد سیف يستعد للفتك به فقال بفکر مشتت وأعين ملئت رجائا:
- تقصدي إيه ؟
فقالت بنفاذ صبر وهي تحارب دموعها:
- أنت عاوز إيه بالظبط واشمعنى الولاد يباتوا معايا النهاردة من إمتى الكرم الحاتمي ده ؟
فابتسم لها وقال ببساطة:
- من حق الولاد يباتوا مع أمهم، ومهما كان الاختلاف بيني وبينك فأنا مش هضر ولادي ياسالي هزت رأسها لعلها تهدأ وانتبهت أنها لازالت لحماقتها ممسكة بوشاحها ولم تضعه بعد على رأسها عندما بعثرت أنفاسه المشحونة بعضا من خصلاتها وهو يقول بإضطراب عنيف، فهو فعليا يجاهد نفسه حتى لايأخذها ويغرقها بأحضانه رغم دقات قلبه المتناحرة إلا أن صوت عقله كان الأعلى، فمثلما اختارت الرحيل بارادتها يجب أن تختار أن تعود بارادتها أيضا:
- أنا هوصلكوا فرفعت رأسها بكبرياء عنيد وقالت:
- مافيش داعي هنركب تاكسي بدا لها أنه لم يسمعها إذ قال يإصرار:
- هوصلكو یاسالي واطمن بنفسي على . . . . الولاد قاطعتهم الصغيرة سلمي أولا ثم من بعدها جاء سليم ليقول بسعادة:
- سلمنا على تيته يا بابا، وبتسلم عليكي يا ماما التفتت لصغيرها وقد تفاجئت بتلك التحية التي ترسلها لها حماتها السابقة على لسان سليم فقالت بصوت خافت:
- الله يسلمك ويسلمها جذبت سلمى عنق والدها لتقبله وهي تقول:
- مع السلامة يابابا ضحك لها جاسر وحملها وقال ليمازحها:
- کدهوه مع السلامة يابابا، ماشية منغيري ياسلمی، طب واللعب اللي أنا جيبهالك ؟
فعقدت سلمى حاجبيها بتوجس وقالت:
- ما احنا هنرجع تاني فابتسم جاسر عندما لاحظ أنظار صغاره الخائفة وقال ضاحكا:
- أنا هوصلكوا وأشيلكوا اللعب دي لحد ماترجعوا ولا تحبوا تاخدوها معاكم ؟
فقالت سلمى بسرعة:
- آه آه ناخدها معانا فقال وهو يستقيم ويسترق الأنظار لها بعدما غطت رأسها بوشاحها:
- أنا هستناكوا تحت تكونوا لميتوا حاجتكوا جمعت ملابس تكفي صغارها ليومين فهي تدرك أن تلك المبادرة منه محدودة الأمد وتوقفت ساقيها مشتتة أتذهب لغرفتها لإلقاء التحية عليها من قبيل الأدب ورد السلام أم تتابع طريقها ؟
ولكن شيئا ما حثها للقيام بالأمر الصحيح بنظرها ونظر من تربت علي يديه " والدها رحمه الله " طرقت الباب بخفة ودلفت عند سماع صوتها تأمر الطارق بالدخول فقالت وهي تنظر لها بدفء:
- أنا جيت أسلم عليكي التفتت لها سوسن التي كانت تجلس في فراشها وقالت بصوت هادئ لائم:
كنت مستنياكي تيجي تسلمي عليا من أسبوع أخفضت سالي رأسها خجلا وقالت:
- خفت أزعجك هزت سوسن رأسها لتنكر:
- أنا بكون حاسة بيكي وضحك الولاد بيوصلني يبقا أزاي أحس بإزعاج؟!
تنحنحت سالي وهي تشعر بفقر كلماتها فقالت لتنسحب:
- طيب، أنا هسيبك ترتاحي فاستوقفتها سوسن سريعا قائلة:
- سالي أنا ممكن أطلب منك طلب ؟
توقفت عن الحركة وقالت بسرعة:
- اتفضلي أشارت لها سوسن لتقترب منها ففعلت عندها أمسكت بكفها وقالت برجاء خالص:
- ممكن تبقي تحضري الغسل بتاعي وتصلي عليا وتدعيلي ؟
تقافزت الدموع لعينا سالی وقالت بإنفعال:
- ليه بتقولي كده وبعدين أنت بقيت كويسة و . . ربتت سوسن علی کفها لتهدىء من روعها قائلة:
- الموت علينا حق وأنا هعيش أكتر من كده ليه؟!
. . كفاية أرتاح بقي ثم أردفت برجاء:
- هتقدري تيجي الغسل ياسالي، أنا مليش بنات والقرايب سبقوني واللي لسه هيحصلني مش هيقدر يقف على رجله هزت سالي رأسها وفقدت السيطرة على دموعها بل وعلى ذراعيها الذي كاد أن يسحق صدر سوسن بعناق حار وهمست لها سوسن قبل أن تنصرف:
- متشكرة وماذا عساها أن تقول في ذلك الموقف، أنها تشكرها لأنها وافقت على حضور جنازتها ومراسم دفنها، فماذا عساه أن يكون الرد ؟
خرجت فاقدة النطق تقريبا ومشاعرها مضطربة وشعور بغيض بالذنب يرافقها، تری كراهيتها لتلك المرأة نوعا من الجحود وقسوة القلب الغير مبررة، فكثير من البشر يعمدون لأذية من حولهم بغير قصد وداخلهم لا يعلمه سوى الله خرجت للحديقة لتراه يقف بإنتظارها وصغارهم يحتلون المقعد الخلفي فتح الباب المجاور له لتصعد فهزت رأسها خجلا وتواری جسدها بأحضان المقعد الوثير بوجل وشعرت بضيق السيارة رغم رحابتها عندما صعد هو الآخر واحتل المقعد المجاور لها، تحرك بالسيارة وهو يأمر طفليه بإلتزام الهدوء ويرمقها بنظرة متساءلة:
- أتأخرتی فوق؟!
فردت بصوت أبح:
- کنت بسلم على والدتك هم بالرد ولكن سيارة زوجته الذهبية اللامعة اعترضت طريقهم فجأة فعاد للخلف بضعة أمتار ليسمح لها بالمرور وتعمدت الأخرى المرور ببطء بالغ وعيناها تطالع من في السيارة بفضول بارد وارتسمت معالم الضيق على سالي دون أن تشعر وأشاحت برأسها بعيدا عندما رأتها تبعث له بتحية وقبلة حارة على أطراف أصابعها وأنظارها تطالعها ببسمة ساخرة وبمكر بالغ فاستقبل تحيتها هو الآخر واجما ومضى بطريقه ثم حاول بعدها تخفيف الأجواء المشحونة فقال بلطف- عاملة إيه في الشغل ؟
فنظرت له متعجبة، أيسعى لتبادل حوار حضاري بعد تلك اللفتة العاطفية بينه وبين زوجته الحديثة، أتراه يظنه تعويضا عما تختبره من مشاعر غيرة بغيضة ؟
أم يظنه دلوا من الماء قد ينفع للتحكم بالحريق الذي يشتعل داخلها؟!
| فردت مقتضبة:
- کویس فمنحها نظرة غاضبة . فهي لاتشبع فضوله وكلماتها رغم بساطتها إلا أنها باتت تتحلى بالغموض، بل هي كلها باتت غامضة وهو أصبح غريبا عنها لايدري ما يدور من وراءه فقال حانقا:
- أنا لحد النهاردة مافهمتش إزاي لقيت شغل بالسرعة دى ! فردت زاجرة أفكاره الملتوية بشأنها:
- قصدك أني كنت بدور على شغل من زمان من وراك صح ؟
فهز رأسه نافيا وكلماته تتعارض مع ذاك النفي الكاذب:
- ماقولتش کده . بس يعني في أقل من أسبوع استقريت على شغل، مش غريبة شوية؟!
فابتسمت وهي تهديه ثقة هو بحاجة إليها:
- مش غريبة ولا حاجة، ربك اللي بيفتح الأبواب مش كل حاجة بإيدين البشر ساد الصمت بينهما حتى وصلا للحي الذي تسكنه فأوقف السيارة واخرج من جيب سترته مبلغا ماليا ضخما ومد به إليها قائلا:
- ده عشان لو الولاد احتاجوا حاجة نظرت لأمواله حانقة وقالت بأنفاس متسارعة:
- هما طالعين بيت محسن الله يرحمه لو كنت نسيت، وفر فلوسك یا جاسر فرد معنفا:
- أنا ماقصدش أهين ذكرى والدك ولا البيت الطيب ياسالي ولكنهم ولادي ومسئولین مني طول ما أنا عايش فالتفتت له قائلة بعند أكبر:
- اعتبرهم ضيوف وأظن عيب أووي لما تدفع حق الضيافة نفث أنفاسه المحتقنة وقال مستسلما:
- براحتك ترجلا بصمت وساعدت هي أبنائها بالترجل من السيارة فيما حمل هو الحقائب بيد واحدة وحمل سلمي على كتفه باليد الأخرى وما أن دلف من باب العقار حتى وضع سلمي أرضا واستبقهم للأعلى ليضع الحقائب أمام باب الشقة المغلق بهدوء فهو كان غير مستعدا لمواجهة والدة سالي بعد، ليس وهو في حالة فريدة من تشتت الأفكار واضطرب عميق لمشاعره التفت ليترجل الدرجات مرة أخرى حتى تقابلا فقال بصوت خافت وهو يفسح لهم الطريق:
- تحبي أعدي عليهم أمتي ؟
فقالت بهدوء:
- مافيش داعي أنا هروحهم بعد التمرين يوم السبت هز رأسه وقال:
- لو قدرت ححود عليكو في النادي أو هبعتلك السواق راقبهم حتى توقفوا أمام الباب ومضى بعدها في طريقه ولكن سليم الصغير استوقفه مناديا فالتفتت له بسرعة ودهش عندما دفع الصغير بنفسه لأحضانه قائلا بود:
- مع السلامة يا بابا نظر له جاسر بشوق وهو يدرك أنه استعاد ركنه المميز في حياة صغيره وأن لفته التي أصرت عليها أمه قد ساهمت في بناء جسر بينه وبين صغارها فرفع أنظاره لسالي التي كانت تقف تراقبهم بألم فهي ولأول مرة تشعر بعظم ماخلفته بنفسية أطفالها | فتحت لهم سيرين الباب واستقبلتهم بترحاب شدید ودلفت سالي شاردة الذهن أتراها في طريق العثور على ذاتها أفقدت صغارها أمانهم بأنانية مفرطة؟!
قد يتجاوز الإنهاك الجسدي حدود إنهاك العقل ولكن عندما يجتمع القلب والعقل سويا فالمعادلة باتت مستحيلة هي فعليا تصارع الآمها بالغوص في العمل والحديث غير المنقطع عن الصفقات وأسهم الشركات تحاول أن تعلو بضوضاء المحيطين حولها عن الضوضاء التي ترج كيانها من الداخل وفي الليل تنأى بنفسها في جانبها الأيسر من الفراش وتملىء الفراغ جوارها بحشد هائل من الوسائد والدمى التي تتلقى كما لا بأس به من الركلات المشحونة بغضبها ورثاء مقيت على حالها والسباب يعلو حتى يطال الجدران ولعنات تنصب على الهارب الذي يظن أنه أهداها صك حريتها بنبل فرسان بائد ولو كان يملك ذرة تعقل واحدة لأدرك أن هذا آخر ما ترغبه ولكن ماذا عساها أن تفعل وهي التي صرحت بخبايا قلبها وأعلنت عن عشق لازال ينبض بالضلوع إثره ماذا كان ينتظر منها توسلا وانتحار لكرامتها؟!
وقطع سيل أفكارها صوت والدها الحاني:
- آشري كفاية شغل، قومي نروح ولا أقولك نتعشى سوا فابتسمت له لتطرد شبح القلق الذي يسيطر عليه بشأنها وقالت بحبور:
- ياريت أنا واقعة من الجوع قامت ورسمت على وجهها أجمل إبتسامة يمكن للمرء أن يراها وهي تتبطأ ذراع والدها العجوز وتمنحه قبلة على وجنته وتقول:
- أنا عزماك من كام يوم سمعتهم في النادي بيحكوا عن مطعم خطير . واستقرا على طاولة بالمطعم الحديث وطلبا شرابا وعشاءا بسيطا وأرسلت أنظارها لمشهد البحيرة الصناعية بالخارج والأنوار المتلألئة تلقي بظلال فضية على رأسها الجميل وعادت لتسبح ببحور أفكارها العميقة ولم يحيد والدها بأنظاره عنها وقال محاولا الغوص في أعماقها وإنتشالها من الغرق:
- أنت بتهربي بالشغل یا آشري وده غلط التفتت له آشري وأقرت:
- ماهو لازم اللي حصلي يكون دافع يا بابي مش هينفع أخليه يكسرني أمسك والدها بكفها وبحنو قال:
- أدي لنفسك فرصة تستوعبي اللي حصل ماترميش نفسك في النار عشان تنسي هزت رأسها نافية وهي تركز أنظارها عليه:
- مين قال أني برمي نفسي في النار ومين قال إني عاوزة أنسی بالعكس أنا عاوزة مانساش تفصيلة تنهد والدها وقال لائما:
- الانتقام مش هیفید یا آشري ضحكت لغرابة تفكير والدها وقالت متعجبة:
- داد . . انتقام ! ! . . ليه أصلا دي كانت رغبتي وبعدين انا كده مرتاحة ارتشف والدها القليل من الماء وقال:
- أتمنى من قلبي تكوني فعلا مرتاحة وفجأة رفع والدها يده بتحية ودعوة لشخص بالتقدم فقضبت جبينها وقالت هامسة:
- مين ؟
ولم يسعه التقديم فقد قال الضيف بصوته المميز لها حتى دون أن تستدير:
- مساء الخير يا يسري بیه مساء الخير يا آشري أتمنى يكون مطعمي المتواضع نال إعجابكم التفتت له آشرى لتحييه بالمقابل قائلة بدهشة بالغة:
- مساء النور يا عاصم بیه، بجد أنا ماكونتش أعرف أنه المطعم بتاعك رفع يدها ليقبلها وعيناه تلمعان برغبة حارقة قائلا:
- المطعم وصاحبه تحت يا آشري جذبت يدها وهمست بإضطراب:
- ميرسي جذب مقعدا وجلس لجوار والدها محاولا جذب أطراف الحديث معه، فقلب الفتاة دوما يبدأ من حيث أبيها عاد للقصر بمزاج معتدل وما أن دلف من خلال الباب المعدني الضخم حتى انقبضت أساريره فهو تذكر للتو بالمواجهة القريبة التي حتما سيلاقيها فارتسمت على وجهه تلك المعالم الغامضة التي تجعل من يقابلها يشعر وكأنه ارتكب حماقة رغم أنه لم يخطىء بشيء ولكنها استقبلته بترحاب شديد حتى أنها ألقت بنفسها بين ذراعيه قائلة:
- بجد مبسوطة أوي أنكوا عرفتوا تتفقوا لمصلحة الولاد یاجاسر استقبل عناقها ببرود وعيناه ضاقت لدى تلك المبادرة من جانبها فقال:
- وأنت إيش عرفك اللي اتفقنا عليه ؟
هزت رأسها ومنحته قبلة على وجنته وقالت:
- ماعرفش بالظبط اتفقتوا على إيه بس أنت والولاد ومامتهم معاكوا أكيد دی بداية مبشرة مضى ينظر لها وقد ظن هو بملامحه الغامضة قد يثير إرتباكها . لشدة سذاجته ! فقال بصوت مرهق:
- خلي نعمات تحضر الغدا عبال ما أغير هدومي فرسمت في الحال ملامح طفلة مستنكرة واقتربت منه تربت على صدره بدلال:
- أوووه يا وحش، جاسر أنت لازم تعشيني بره على الأقل نحتفل نفث بغضب فهو فعليا سأم تلك التمثيلية التي تؤديها ببراعة بالغة وقال بنفاذ صبر:
- نحتفل بإيه أنا مش عارف ؟
فابتسمت بمكر وقالت بهدوء:
- حبيبي أنا ماقصدش حاجة، صدقني يا جاسر أنا بتمنى يجي اليوم اللي أحس أنك ۱۰۰ % مرتاح ولو عاوزني أساعدك إنه سالي ترجع ماعنديش مانع أنا مستعدة اتكلم معاها ونتفاهم عند ذلك العرض تحديدا رفع إصبعه محذرا وقال بصوت لايقبل النقاش:
- داليا أنا بحذرك، إياكي تتواصلي بأي شكل مع سالي، ماتتدخليش في اللي مالكيش فيه من فضلك فاقتربت منه بملامح منزعجة كاذبة:
- بيبي أنت فهمت إيه ؟
أنا . . قاطعها محذرا:
- أنا اللي عندي قولته وأظنك فهمتیه کویس راقبته وهو يصعد لغرفتهما وعلى وجهها ارتسمت ابتسامة بطيئة المنحنيات والثقة تلمع بعيناها بحسن تصرفها فعلى مدار ساعة فائته قضتها غاضبة، حانقة، تخطط للخطوة التالية بكيفية الرد والاعتراض والرفض وجدت في اللحظة الأخيرة أن مد أيادي العطف والخير نحوه ونحو السابقة سيدر عليها ربحا أكيدا في حين أنها لو عمدت للاعتراض أو الزجر فالهجر سيكون من نصيبها وعندها ستنصاع مرغمة لما سوف يمليه عليها . أما الآن فهي تمسك بالخيوط مجتمعة في قبضتها وأحكمت الوثاق حوله دخل الغرفة فجأة وهو يقول لاثما:
- إيه يابني ب . . . . وتوقف في منتصف الغرفة الخاوية ينظر حوله ببلاهة ونادي على الخادمة وهو يتساءل:
- زیاد راح فين ؟
هزت الخادمة رأسها نافية:
- ماعرفش يابيه جه الضهر لم حاجته ومشي منغير مايقول حاجة صرفها شاكرا ورفع هاتفه ليطلبه بنفاذ صبر ولكن تلك الرسالة المسجلة المبهمة والتي لا تهديه أي معلومة سوى أن أخيه غادر وأغلق هاتفه في رسالة واضحة المعالم أنه لا يريد إتصالا مع أيا ماکان فلم يجد أمامه سبيلا سوى ترك رسالة زاجرة لبريده الصوتي " على الأقل أما تمشي تسبب تليفونك مفتوح الواحد يعرف يوصلك، كلمني أما تعقل ".
أكون أو لا أكون تلك المقولة التي انطلق بها قلم شيكسبير على لسان هاملت بطل مسرحيته الشهيرة، لتصبح قاعدته الذهبية في الحياة مایکونه جاسر سليم وما لن يصبحه مادام دق أيسره ينبض هو حامي الحمى والمدافع الأول والأخير عن عائلته الصبور والمندفع في الوقت ذاته المخلص رغم كل ما تعرض له من خیانات، حتى من أقرب الناس إليه ولن يكون خائنا متخاذلا قط وأبدا لن يكون راجيا لصفح وإشارات عطف ومنة من بشر وبخاصة عندما تكون إمرأة وعلى وجه التحديد زوجته السابقة.
باقي من الزمن أربع وعشرون ساعة وتنتهي أشهر العدة وعقارب الساعة عنيدة مثله، تتقدم ولن تعود للوراء أبدا كما لن يتراجع هو عن عهدا قطعه على نفسه لن يجبر إمرأة على العيش معه تحت سقف واحد مادمت به حياة لمعت عيناه بدكنة الظلام واستدار محدقا في عقارب ساعة الحائط التي تجاوزت الثانية عشر وهو لايزال ساهرا بحجة أعمال متأخرة وقد غادر الجميع منذ ساعات طويلة واستفاق من ظلمة أفكاره ليعود لأرض واقعه واقع أصبح لزاما عليه أن يقره سنوات مضت بحياته مع من أحبها قلبه حتى تخلت عنه وتركته ولم تعد حتى اليوم ربما يحمل وزرا فهو من تشبث بالعناد ولكنها كانت صاحبة القرار وهو ليس مراهقا متشبثا بأحلام يقظة أو متعلقا بنهاية فيلم رومانسي من حقبة الستينيات ليظنها ستعود له في اللحظة الأخيرة ومع ذلك توجت حياتهما بالكلمة التي تختتم كل قصة وفيلم وحكاية " النهاية " ببساطة لقد انتهيا وطوت صفحتهما سويا ولا سبيل لإعادة النقش فوق صفحات اهترأت بالأوجاع وانتهت بختم الفراق.
عاد للقصر الساكن وصعد بهدوء فوق الدرجات الرخامية ثم توقف لبرهة أمام غرفة أمه الموصدة اقترب مترددا من الباب ولكنه توقف عندما أمسكت يداه المقبض، فعلى أية حال لقد تعدى الوقت منتصف الليل والأفضل ألا يوقظها ويدعها لتنام بسلام، فاتجه لغرفته بخطى مسرعة .
دلف دون ضوضاء وخلع ملابسه ليستقر في فراشه إلى جوار النائمة التي يبدو أنه سيمضي ماتبقى من عمره إلى جوارها فهي متشبثة به رغم تقلبات حالاته النفسية طيلة الأيام الماضية بإصرار عجیب ذلك الإصرار الذي ينبع منها بأقل مجهود والمتمثل في الوقت الحالي بذراعيها اللتان بسطتهما براحة فوق صدره وهي تغمغم من بين سبات نوم بإسمه باسمة.
ضمت ساقيها لصدرها واتكات للخلف وهي تتنهد متعبة فيبدو أن عقلها يرفض الانصياع لرغبتها في النوم والتغافل وربما التناسي، فعادت ذكرياتها لتؤرق مضجعها الأول لقاء وربما أول إبتسامة اللحظاتهما المنسية بالمطعم ورحلتهما النيلية لولادة سلمى للحظات تقاربهما ليلا لكل الذكريات المحلاة بطعم السعادة ومعها تنهمر دموعها بطعم ملوحة مريرة لقاء آخر ذكرى لهما سويا الذكرى الفارقة بحياتهما وكأنما تعاد على مسامعها تلك الكلمتان مرة أخرى لتدمي قلبها من جديد " أنت طالق " أنها لم تكن شيئا مذكورا لاقيمة لها والحياة ستسیر حتما بدونها واختنقت أنفاسها بالعبرات وتشنجت النهنهات بصدرها.
وتصاعد آذان فجر يوم جديد يوم أخيرا فقامت لتوضأ ورغما عنها انهمرت دموعها في سجودها المطول بين أيادي الرحمن ورغما عنها دعت له بالخير وصلاح الحال فلا حيلة لها مع قلبها الملتاع لفراقه نغمة المنبه لم تكن ذات فائدة إذ أنه مستيقظا بالفعل وربما لم ينل النعاس من عينيه بزفرة إنتصار قام من فراشه ليغتسل وليبدأ يومه كما اعتاد بإتصال بأخيه الأصغر الذي على مايبدو انقطعت أحباله الصوتية فهو يستقبل إتصالاته المتكررة عبر البريد الصوتي ويكتفي بالرد عبر الرسائل النصية بكلمات معدودة ولكنها تطمئنه أنه على الأقل لم يصبه مكروه قال ضائقا:
- أنا مش عارف هتفضل لحد إمتی رافض حتى تسمعني صوتك، تكونش فاكر نفسك كاظم الساهر ياخي؟!
زفر ولم يجد طائل من وراء كلماته المؤنبة فعلى مدى شهران ونصف ظلت تلك وسيلة إتصالهما الوحيد ويبدو أن الصغير سيظل صغيرا حتى نهاية العمر وسرح في أمر الأكبر الذي حادثه منذ يومان وكان الرفض القاطع ردا على إقتراح بتوسطه لإعادة الوصل بينهما فكانت كلماته بالتحديد " عاوزة ترجع، ترجع بإرادتها أنا مش هتحايل عليها ولا هيا هتشيلهاني جميلة أنها كتر خيرها اتنازلت " عندها" ظن أنه يحادث صنما من عهد الفراعنة البائدین، لا يستمع لكلمات المحيطين، ولا يكاد يصل إليه سوي صدى زفراته وصفير الهواء من حوله فهز رأسه یائسا وخرج يتمتم والآخر يسمعه " مافيش فايدة فيك، عمرك ما هتتغير " ورسالة نصية تصل لتقطع أفكاره ولكنها لم تكن من المأفون أخيه الأصغر بل كانت من الطبيبة الحسناء التي قضى معظم ساعات الليل برفقتها بسهرة موسيقية بمسرح الأوبرا وبعدها انطلقت أرجلهما تجوب أحياء الإسكندرية القديمة دون كلل أو تعب وانتهت أمسيتهما بقبلة خاطفة وضعتها أعلى وجنته ثم استدركت فعلتها بأعين متسعة كظبي مذعور وإحمرار شدید أصابها من أعلى رأسها حتى أخمص أقدامها واختفت من أمام ناظریه بثوان معدودة فوق دراجتها البخارية الثائرة تاركة إياه يتخبط بأنفاس كللت بالحيرة وقرار إتخذه ليريح ضميره بأنه غير مجبر على إتخاذ قرار من الأصل فتحت عيناها والتفتت إلى جوارها في الحال وابتسمت براحة عندما طالعته غارقا بسبات ولمعت عيناها بجزل واتسعت إبتسامتها وهي تتنهد بأنفاس حارة خافتة لكأنما انتهت من مارثون جري حر " آآآآآآخر يوم ".
قامت بهدوء شديد كي لا توقظه وأخرجت من حقيبتها تلك العلبة الصغيرة التي حملتها ليلة الأمس بطريق عودتها من إحدى الصيدليات الشهيرة وانتظرت مرور الدقائق كما هو موضح بالتعليمات وهي تدعو من قلبها ألا يخيب الله رجائها تسترق نظرات من حين لآخر لشريط الاختبار وجاءت مشيئة الأقدار مطمئنة لها بما ردده لسانها من دعاء حار فكان الخطان الورديان يرتسمان بوضوح أمام عيناها اللتان اغروقتا بدموع الفرحة وحملته بأنامل مرتجفة لاتصدق وتطالع من جدید کتیب التعليمات نعم بالفعل النتيجة إيجابية هي حامل بطفله بطفل جاسر سليم وهي أمه وضعت يدها على صدرها الذي يدق بسرعة جنونية لعله يهدأ ويدها الأخرى تمتد لتحتضن مستودع جنينها بحنان ثم أخذت نفسا عميقا وطالعت وجهها في المرآة وفكت أسر خصلاتها ومشطتها ومنحت عنقها مباركة من عطر اللافندر الأخاذ الذي اكتشفت عشق جاسر له وخرجت بأقدام حافية وصعدت للفراش مرة أخرى تناوش وجهه النائم بطرف خصلة من شعرها ليستيقظ غمغم من بين سباته بإسم لم تكن هي صاحبته إسم ظل يؤرق مضجعها ولازال ولكنها طردت كل تلك الأفكار السلبية وتظاهرت بعدم سماعه من الأساس ومسحت برقة شديدة فوق وجنته ووضعت قبلات متفرقة على أنحاء وجهه الذي تذوب فيه عشقا حتى فتح عيناه وعبس فاستقبلت عبوسه بإبتسامة عريضة فتخلى عنه مرغما عندما قالت بدلال شديد:
- صباح الفل على عيون أحلى راجل في الدنيا انحنائة فمه الساخرة لم تعد تغضبها بل على العكس تشكل لها دوما تحديا، فقال وهو يتكأ للخلف بهدوء:
- صباح الخير يا داليا هزت رأسها نافية لتقول له:
- توء توء توء، من هنا ورايح ماتقوليش داليا فنظر لها متعجبا وقال متفکها:
- غيرتي اسمك يعني ولا إيه أومال أناديكي بإيه ؟
فقالت له بدلال أعظم:
- تقولي يا أم ابني وغابت الفكاهة عن عيناه أولا ثم ازداد شحوب وجهه وأردفت هي بسعادة بالغة وهي تلقي بنفسها بين أحضانه:
جاسر أنا حامل فغر فاهه دهشة هو لم ينتظر مفاجأة عودة سالي لحياته کتسليم بقضائه ولكنه لم يتوقع أيضا ذاك الخبر وکرد من ذرات الهواء حوله على تلك المفاجأة حملت له صرخة من نعمات لكأنما تشاركه صدمته ولم تمض ثوان حتى استفاق منها وهو يدفع بها بعيدا عنه وينتفض هلعا من الفراش وكل ما يحتل تفكيره " أمه" كاد أن يصطدم بنعمات وهي تقف أمام غرفة أمه، تشهق بیکاء لعنه وهو يزجرها معنفا ويتخطاها بسرعة نحو الداخل:
- اخرسي، اخرسي واقترب سريعا من جسد أمه بخشوع ومد أنامله مترددا خائفا من الحقيقة التي يقرها صدرها الساكن لقد غابت دقات قلبها وأضحت أنفاسها غائبة وبرودة جسدها لا يمكن أن يخطئها بشر لم يتمالك دموعه وهو يقول بهمس راجف:
- ليه يا أمي، ليه ده أنا كنت جاي أسلم عليكي بالليل، سيبتك عشان ترت . . تاااحي وخرت قدماه ولم تتحمل ثقل أحزانه إلى جوارها وجسده يهتز ببكاء عنيف وبعد مرور لحظات ملؤها الحزن اقتربت نعمات بوجه صلد وقد هدأت أنفاسها بالمقابل وقالت بصوت میت کمخدومتها:
كفاية يا جاسر بيه ماتعذبهاش بعد ما ارتاحت . رفع رأسه إليها ونظر مرة أخرى لوجه أمه الشاحب وعلامات الرضا مرسومة بوضوح على محاياها المتجمد ولم تكن أصابعه من امتدت لتغطيته بل كانت نعمات المسئولة والتي أردفت بنفس الجمود:
- اتصل بأخواتك، وزياد لازم يجي بس ماتقولوش في التليفون على حاجة وظلت بعددها تردد بهمس خاشع " إنا لله وإنا إليه راجعون " خرج من الغرفة ليجد داليا تقف بإنتظاره کتمثال متحجر وملامح الصدمة تعلو وجهها، وما أن اقترب منها حتى لاحظ ظل أطفاله المنزویان بأحد الأركان بخوف وعيون سلمي الباكية تطعنه في مقتل ووجه صغيره كصفحة خاوية من كل التعابير ولكن نظرة الاتهام في عيناه لم يكن ليخطئها فهو من تحمل أحضانه ظل أخته الصغرى ولكن أين التي كانت تحملهما معا بأحضانها الدافئة أيضا ؟
فاقترب منهما وأغرقهما بأحضانه وقالت سلمى باكية:
- هيا تيته ماتت يا بابا فرد جاسر وهو يتماسك دموعه قائلا بصوت منکسر:
- هيا دلوقت مبسوطة عند ربنا ياسلمی فهزت سلمى رأسها وقالت راجية:
- أنا عاوزة ماما حدق بهما جاسر وكانت تلك أيضا رغبة سليم التي تشع من عيناه فهز رأسه متفهما وقال:
- هخليها تيجي دلوقت حالا، أدخلو أوضتكو يالا استنوها جوه دلف الصغيران إلى غرفتهما واستدار هو عائدا لغرفته ليغير ملابسه ويقوم بما يتوجب عليه من واجبات صامتا ظلت داليا تحدق بحركاته السريعة والمنضبطة في الوقت ذاته حتى تجرأت أخيرا على الإقتراب منه فهو بهيئته يبدو كليث أعمي غاضب محبوس يتوق للحظة تحرره وما أن مدت أنامل مرتعشة نحوه حتى انتفض قبل أن تقترب، فقط قال بنبرة صوت حازمة قاطعة:
- مش وقته یا داليا، سيبيني من فضلك وضعت كفها المرتعش فوق فمها ورغم ذلك تماسكت وقالت بقوة:
- البقاء لله يا جاسر رفع أنظاره لها واللعنة عليها فهو لم يكن مستعدا بعد لتلقي عزاءا في فقيدته الغالية لو كانت سالي مكانها لالتزمت الصمت وانزوت برکن مختفي وظهرت عندما يحتاج إليها دون أن ينبت بشفهه وتحت إثر عيناه الغاضبتان فوق رأسها اختفت من أمام أنظاره داخل الحمام وخرج هو بدوره بعدما ارتدى حلة رسمية وتخلص فقط من ربطة عنقه فهو بالفعل يفتقد الأنفاس رفع سماعة الهاتف ليصله صوت أخيه الأوسط فقال:
- أنت فين ؟
عبس أسامة وقال:
- خير مال صوتك ؟
رد بإقتضاب:
- تعالی توقف أسامة بالسيارة فجأة غير عابئا بصوت الأبواق الزاجر حوله وقال بصوت يرتجف:
- ماما؟!
ظل جاسر صامتا لوهلة ورفض لسانه أن ينطقها فقال آمرا بخشونة- تعالى واتصل بأخوك وانقطع الاتصال المبتور بينهما واتسعت حدقتا أسامة غير مصدقا وتنهد بأنفاس متحشرجة ببكاء كتمه بصعوبة ثم أدار سيارته للطريق المعاكس بعنف أزعج صريره المارة حوله وقادها بسرعة جنونية نحو القصر وفي طريقه لم يجد سوى البريد الصوتي يستقبله فصرخ غاضبا:
- تقب من تحت الأرض وتيجي حااالا على القصر سامع، وعزة جلال الله یا زیاد لو ماجتش لتندم عمرك كله ظل طوال الطريق يكذب ما سمعه من أخيه الأكبر حتى وصل للقصر فكانت الدلائل والإشارات واضحة أمامه كرؤى العين نعمات وبقية الخدم الذين اتشحوا بالسواد، صوت المذياع الذي ينطلق بأعذب الآيات، آیات الذكر الحكيم وأخيرا جسد أمه المغطى والذي وقف أمامه متجمدا لا يجرؤ على إقتراب ضم قبضته إلى فمه يمنع نفسه من البكاء وأغمض عيناه وانهمرت دموعه بصمت على صفحة وجهه ثم تقدم بخطى بطيئة ورفع الغطاء ووضع قبلة حارة بأنفاسه المتهدجة فوق جبينها ومنح نفسه نظرة أخيرة لمحياها الذي كان يوما ينبض بالحياة ثم أخفاه بغطائه من جديد والتفت نحو ذاك الدرج الذي يحمل ما أوصت به وكما توقع فالدرج خاوي ولابد أن يكون أخاه من حمل ما بداخله خرج من الغرفة بهدوء وتوقف برهة في الردهة وتذكر أمر الصغار فمضى نحو غرفتهم وطرق الباب ودخل ليجد سليم الصغير وقد ارتدي حلة سوداء تناسب جسده وتفوق عمره وسلمی ارتدت بالمقابل ردءا أبيض بنقوش زرقاء يعلوه سترة مخملية بلون أزرق داكن فابتسم لهم حزينا واندفعت سلمى بأحضانه وقالت كأنما تواسيه بصوتها الملائكي:
- ماتخافش تیته فوق عند ربنا مبسوطة ابتسم رغما عنه وهز رأسه وهو يكتم دموعه وقال وهو يربت على وجنتها الوردية:
- آه هيا مبسوطة والتفت لسليم الساكن مكانه وقال:
- مش كده ولا إيه يا سليم ؟
ومد يده نحوه فتقدم سلیم بخطوات متثاقلة وقال بهدوء:
- ربنا يرحمها یا عمو فاحتضنه أسامة وردد مثله:
- ربنا يرحمها ثم استطرد بجدية:
- فطرتوا هزوا رأسهم نافيين وقالت سلمى:
- مالناش نفس فهز أسامة رأسه رافضا وقال:
- لاء ماينفعش، لازم تفطروا فقالت سلمى بعند:
- هنفطر لما ماما تيجي سكن أسامة لبرهة ثم قال:
- خلاص ماشي، أنا هنزل دلوقت أشوف بابا وخرج أسامة من غرفتهما وترجل الدرجات بسرعة حتى وصل الغرفة مكتبه فدفع الباب ليرى أخيه وهو يقلب بأوراق أمامه أثناء حديثه لأحدهم عبر الهاتف ثم وضع السماعة وقال بصوت جامد- ده كان التربي . . واتصلت بمتعهد الأكل و . . . . المغسلة، دلوقتي أنا رايح أشوف مكتب الصحة وأطلع شهادة الوفاة فهز أسامة رأسه وقال:
- طب فيه حاجة أقدر أعملها ؟:
- اتصل بالناس عرفهم و . . . . الظرف ده مكتوب فيه . . . وصمت ولم يستطع النطق فاقترب أسامة وجذبه من بين أنامله وفتحه ليطالع خط أمه الراحلة ومر على أسطره القليلة بسرعة ثم تنهد وقال:
- عاوزه سالي تكون حاضرة الغسل فهز جاسر رأسه وتحاشى النظر له وقال وهو يستعد للخروج:
- اتصل بيها وشوف بقية الأظرف فيها إيه عشان ألحق أطلع الشهادة قبل صلاة الضهر وأكد عليه قبل أن يختفي من أمام ناظريه:
- وماتنساش أخوك لازم يجي فهز أسامة رأسه وقال بصوت متعب:
- كلمته على الله يرد ويبدو أن أختها اعتادت ترك منزل زوجها غاضبة في أي وقت ليلا أو نهارا فعندما انتهت من تناول فطورها البسيط المكون من شريحة جبن خفيف وكوب من الشاي سمعت جرس الباب يدق بقوة فعبست بوجل واتجهت نحوه لتطالع وجه أختها برفقة أطفالها فتنهدت سالي بضيق ورحبت بالصغار وقالت وهي تنهر أختها الكبرى:
- وبعدين معاك ياسيرين كل شوية سايبة بيتك فالتفتت لها سيرين وقالت بدفاع:
- أنا ماسیبتش البيت أنا جيت عشان أكون جمبك في يوم زي ده ارتفع حاجبي سالي بدهشة وقالت ساخرة:
- ليه إن شاء الله ؟
وأردفت غاضبة وهي تتابع طريقها نحو المطبخ لتجلي صحون الإفطار خاصتها:
- شيفاني مفطورة من العياط ولا بقطع هدومي من الغلب فأتبعتها سيرين وقالت بإلحاح:
- إنت عمرك ماكنت عنيدة كدة، فيها إيه أما تتصلي بيه؟!
فقالت سالي معنفة أختها:
- عوزاني أترجاه ولا أوطي على رجله أبوسها عشان يردني؟!
حدقت سیرین بمحيا أختها الغاضب العنيد وتنهدت:
- وولادك ياسالي جففت سالي يديها وقالت بإصرار:
- هاخدهم منه فاتسعت عينا سیرین بغیر تصدیق وقالت بتصميم:
- وسليم، هیسبيهولك همت سالي بالرد فقاطعتهم أمهم التي قالت بصوتها الهاديء:
- ماتتعبیش روحك يا سيرين أنا مش عارفة أختك جابت نشوفية الدماغ دي كلها منین، ماكنتش کده فتنهدت سالي وقالت بضيق صدر:
- أنا كده هتأخر على شغلي، أنا طلعت حاجة الغدا تفك ياماما، ماتستنیش عشان هروح فقالت أمها بالنيابة عنها وهي ترمقها بنظرة شاملة:
- لولادك . . اللي سيباهم في حضن غيرك . . ربنا ييسرلك طريقك تجمدت سالي وقالت بصوت يرتعش كمدا وقهرا:
- فکرکوا مش بتقطع من جوايا، فکرکوا مش حاسة، بس قولولي أعيش إزاي مع واحد رماني وماعدش عاوزني، مستنيني أرجع وأحب على إيده وأقوله حقك عليا أنا غلطانة . . . . وندمانة فأغروقت عينا أمها بالدموع رأفة على حالها وقالت وهي تقترب منها وتدفنها بأحضانها الدافئة باكية هي الأخرى:
- لا عاش ولا كان اللي يذلك ياسالي يابنت محسن . . . لا عاش ولا كان ثم تركت سالي أحضان أمها مرغمة لتبحث عن حقيبتها وترحل هارية من وجعها المسيطر على أنفاسها وأنفاس القريبين منها فقالت سيرين بخجل:
- خسيتي على فكرة فانسلت ضحكة من بين شفتي سالي رغما عنها وقالت بحبور:
- بجد؟!
. . . أنا بطلت أوزن نفسي عشان ما يجليش إحباط فقالت أمها لتشجعها بإصرار:
- يوووه، دا أنتي رجعتي قرقوره زي زمان وقاطعهم صوت رنين الهاتف المصر فالتفتت سالي لأختها لائمة- دا أكيد جوزك يا هانم فقالت أمها وهي تتجه للهاتف لتجيب:
- أنا هرد يالا أنت عشان ما تتأخريش على شغلك رفعت مجيدة الهاتف ليأتيها صوت أسامة الراجي يحيها بود ويسأل عن سالي فقالت متعجبة:
- الحمد لله بابني مين معايا ؟
أجابها أسامة:
- أنا أسامة سليم . . أخو . . قاطعته مجيدة بنبض ملئه الرجاء:
- أيوا . . أيوا أزيك يابني معلش ما تأخذنيش سالي أهيه التفتت سالي عابسة واقتربت من الهاتف وهي تشير لأمها متوجسة فقالت أمها لتطمئنها وإشارات الفرح ترتسم على وجهها- ده أسامة أخو جاسر ورغما عنها انقبض قلب سالي، فرغم كل ما تتمناه أمها إلا أنه مستحيل الحدوث بتلك الطريقة فهو لم يكن ليرسل مرسالا ليتوسط بينهما، لم يكن يوما جبنا أو متخاذلا وبالتأكيد لن يكون يوما خائفا فالتقطت الهاتف وقلبها ينبأها بالنبأ الذي يحمله لها أسامة وتقبلته جامدة وهي تغمغم بأنفاس متسارعة:
- البقاء لله يا أسامة، نص ساعة بالكتير وهكون عندك فقال أسامة:
- تحبي أبعتلك السواق فردت قاطعة بسرعة:
- لاء . أنا جاية حالا وانقبض قلب مجيدة وهي تراقب وجهها الذي أظلم فجأة ولم تقدر على النطق وهتفت سیرین جزعة:
- خیر ؟
هزت سالي رأسها نافية وتنهدت بكلمات مبتورة:
- طنط سوسن . . . فغمغا الإثنان:
- لا إله إلا الله وربتت أمها على كتفها مواسية فقالت سالي:
-- أنا هدخل أغير هدومي وخرجت لتتجه للقصر وهي تشحن نفسها بالقوة اللازمة للقيام بتلك المهمة التي لم تقم بها من قبل، ترتب في ذهنها المتقد ما يتوجب عليها فعله وكان على رأس أولوياتها تحاشیه فهي لن تدعه يظن أنها ستستغل ذلك الموقف للتقرب منه خاصة بيومهما الأخير لا تعلم كيف مر النهار بسرعة البرق بل كيف خرج جسدها من القصر مهرولا نحو مثواه وكيف تآزرت بنفسها لنفسها فقط كي تنفذ وصية أخيرة لتلك المرأة اليي تراها بعد نزع أثواب الحياة البالية عنها مسكينة رغم كل شيء أعدت طعام الغداء لطفليها وأطعمتهما بنفسها وتماسكت أمامهما وقلبها ينفطر ألما وذكريات نعش والدها المسجی تستقر جنبا إلى جنب جوار مشهد نعش حماتها القريب وقفت لتلقي واجب العزاء من النسوة القريبين بعضهن تعرفت عليهن في الحال.
فکانت درية ومدام هدی رئيسة الحسابات بالشركة من أقبلن عليها بتحية حارة والآخريات لم تكن رأتهن من قبل وتلك الفاتنة تقف على مقربة منها تعرف نفسها للغرباء عنها بزوجة الابن الأكبر بفخر لكأنما حازت على جائزة نوبل في الفيزياء قامت بواجب الضيافة، كانت كالنحلة الطنانة تدور ولا تهدأ تكاد تستمع لكلماتهن ينبذونها من وراء ظهرها بعضهن تحدثن بجرأة عن فقدان وزنها إثر عملية جراحية قامت بها بعد أن حصلت على أموال طائلة من الأكبر المنكوب في أمه والآخريات تشدقن بألسنة حداد عن جحود الأمهات في ذلك الزمن الغابر والذي جعلها تترك فلذة كبدها لتعيش حياتها بحرية كلمات وأحاديث لاتمت لرهبة وعظم المشهد بصلة تنالها وتتلقاها بظهرها وقلبها يأن وجعا، وترسم إبتسامة ودودة بمقابل وجوههن المنافقة التي تحييها على عملها النبيل تجاه الراحلة وتلك الحية تراقبها بأعين كالصقر تخشى أن تغيب عن ناظريها وتستأثر بطيف من كان يوما زوجها فبكلمة واحدة لا بل بلمسة واحدة أو بإشارة يعيدها اليوم قبل أن تغيب شمسه لعصمته وداخلها يشتعل بالغيرة فالبدينة ماعادت بدينة وردائها المحتشم المكون من قطعتين ينحسر عن خصر رشیق وأرداف مثالية والأسود يليق بشحوب وجهها الخالي من مساحيق الزينة بعكسها وبشدة واختارت اللحظة الملائمة عندما عادت سالي للسكون بأحد المقاعد القريبة من درية قائلة للنسوة حولها بصوت عذب يصيب سمع المحيطين بأجمعهم وهي تحيط بكفيها حدود رحمها المسطح:
- الله يرحمها كانت غالية علينا أوي بس كأن ربنا بيعوضنا بغيابها عننا، ياخد مننا روح ویوهبنا روح فشهقت المرأة التي تجاورها:
- مبروك يا حبيبتي ألف مبروك، سبحانك يارب، ليه حكمة أكيد والتفتت سالي تراقب ذاك الجمع المفترض به حزينا فإذا به ينبعث بالتهاني لتلك التي يرونها لأول مرة بحياتهم متناسين القريبة التي وارها الثرى كأنها لم تكن يوما ! وطعنة أخرى تقبلتها بهدوء وارتسمت على وجهها إبتسامة كإبتسامة الموناليزا أثارت حيرة وغضبا وحنقا داخل الزوجة السعيدة بنبأ حملها فقامت لتنصرف بعد أن أدت مهمتها التي كانت تتوق لها منذ بداية النهار على أكمل وجه وهي تقول بصوت منهك:
- معلش مضطرة استأذن فردت إحداهن:
- روحي ياحبيتي إرتاحي ربنا يتمملك على خير وما أن اختفت حتى قالت أخرى وهي تمصمص شفتيها:
- ياشيخة وليها عين دي قدمها قدم شوم واكتفت سالي بهذا القدر من النفاق غريبة هي وسطهن وداخلها عاري كرجل يستظل بجدار وسط الصحارى ففقده إثر هبوب رياح أطاحت به وبكل ما يحيطه أو كطفل فقد أمه فطفق يبحث عنها بظلام الليل تحت زخات مطر منهمر ولم يجدها وتحت إلحاح من درية التي طالبتها بالانصراف فهي تبدو متعبة للغاية وطمأنتها أنها ستقوم بالواجب انصاعت مرحبة بهذا العرض، فهي بحاجة لاستنشاق الهواء النظيف بعيدا عن زفرات الكذب والنفاق وانصرفت لغرفة أطفالها الساكنين واحتمت بأحضانهم حتى قالت سلمى بعيون واسعة ملئت رجاءا:
- هتباتي معانا يا ماما، أنا خايفة، ماتسيبناش لوحدنا فهزت سالي رأسها نافية وقالت بعزم لن يردعه أحد على ظهر الخليقة:
- هتيجوا تباتوا معايا عند تیته مجيدة فأشرقت وجوه أطفالها وقالت لهم بعد برهة وهي تحمل بعضا من متاعهم:
- يالا بينا وفي طريقهم نحو الخارج قابلت أسامة الذي استوقفها قائلا:
- سالي أنا مش عارف أشكرك إزاي على وقفتك دی هزت سالي رأسها لتنكر فضلا لم يكن إلا واجبا بالأساس- إحنا أهل يا أسامة . . . وهيا كانت زي أمي بالظبط، الله يرحمها هز أسامة رأسه وهو يكبح دموعه فطرد بعضا من أنفاسه الخشنة وقال راجيا:
- سالي أنا ليا عندك رجاء ونظر للصغار المتشبثين بكفوف أمهم فقال مشيرا لأحدى