
تأجيل المواجهة لن يمنع حدوثها كما أنها اشتاقت وبشدة لأحضان صغارها بذهن مشتت لملمت أشيائها وعزمت على التوجه لهم في الحال والاعتذار عن متابعة بقية الحالات التي قد ترد إليها استوقفها کریم قبیل انصرافها ببضع دقائق أثناء إجرائه مكالمة تليفونية قائلا بحزم:
<a name=\'more\'></a>
- لحظة يادكتورة فتوقفت قدماها عن الحركة بتوتر بالغ وانتظرته حتى أنهى إتصاله وباغتته على الفور:
- أنا اعتذرت بقية اليوم وهبقى أعوضه بكرة إن شاء الله كان ينظر لها متعمقا داخل خبايا نفسها وقال بصوت هامس:
- هتروحي للولاد ؟
نظرت له بضيق متعجب، لقد أصبح مطلعا على تحركاتها بالرغم أنها لا تخبر أحدا بها، حتى أنها لم تعلم شيئا عن المواجهة التي حدثت منذ يومان فهزت رأسها صامتة، فتنحنح کریم بإبتسامة مضطربة قائلا:
- آسف، أنا فعلا بتدخل في اللي ماليش فيه، بس كنت حابب اتطمن عليكي فهزت رأسها وهي تتحرك بتعجل نحو الباب الرئيسي:
- ولا يهمك، أنا كويسة فسار لجوارها مشيرا لهاتفه:
- على فكرة ده كان واحد معرفه وهيخلص ورق المرور بإذن الله على بكرة أو بعده أنا بس وقفتك يمكن يعوز مني حاجة تقوليهالي قبل ماتمشي فالتفتت له بإمتنان عميق وشعور داخلي بالخزي إذ أنها كانت جافة وقاسية بردود أفعالها على مدار اليومين السابقين معه ولكن ذلك لم يمنعه عن التحرك لصالحها فقالت بأسف عمیق:
- أنا متشكرة جدا یا کریم أنا تعباك معايا وأنت على طول متفهم فالتفت إليها وظل صامتا لبضعة ثوان حتى قال:
- أنا مش عايز اسمع الكلام ده منك تاني يا سالي، أنا مايهمنيش إلا أني أشوفك متطمنة تنهدت وهزت رأسها فأين لها بالطمأنينة والراحة؟!
وأشارت له بحركة من يدها مودعة وبالمقابل تلقت منه إبتسامة مشجعة كانت رفيق لها حتى وصلت القصر وتلقفت بأحضانها صغارها وقبلاتهم المتفرقة أشاعت في نفسها البهجة والسرور وأطفأت نار الاشتياق وبالمقابل أشعلت نار الحسرة والفقد وكأنما استشعر الصغار حاجة أمهم للهدوء والسكينة لم يلقوا إليها بكلمات اللوم والتقريع لغيابها عنهم بل جذبتها سلمى لتريها ما رسمته خلال الأيام الماضية فتلقفتها سالي بأحضانها وأجلست سلیم بالقرب منها وهي تطالع رسوماتها المضحكة قائلة:
- وريني رسمتي إيه ؟
فقالت سلمى بطفوليتها المحببة:
- ده أنا وأنت وسلیم وتیته مجيدة فدغدغدتها سالي قائلة:
- وأنا مالي طويلة أوي كده فضحكت سلمى وقالت:
- لاء ده عشان احنا وتيته قاعدين وأنت بس اللي واقفة فضحكت سالي وقالت:
- آه قولتيلي بقا ولكن سرعان ماغابت ضحكتها عندما أردفت سلمی:
- بصي دي كمان، دي أنت وبابا على البحر وأنا بعوم مع السمكة فقاطعها سليم ولم ينتبه لغياب بسمة أمه قائلا:
كفاية بقى يا سلمى خلي ماما تشوف عملت إيه بالمكعبات وقفز ليريها ما خبئه بجوار فراشه وعندما طالعته سالي حتى تراسمت معالم الدهشة والفرحة جنبا إلى جنب على وجهها قائلة- برافو ياسليم، جميل جداا، عملته کله لوحدك هز سليم رأسه بفخر إذ مضى وقتا طويلا في رص المكعبات ليشكل بها قصرا شبيها بالذي يسكنه وضحكت سالي وهي تقترب منه قائلة بذهول:
- ده أنت حتى الشجر عملته فقال سليم بعفوية:
- دي شجرة بابا، تیته سوسن قالتلي عليها تهرب من رسمة سلمى التي تحمل ذكري جاسر لتصطدم بمجسم سليم الذي يحمل بصمته وستظل تدور في دوائر لا نهاية لها ولا بداية إلا بجاسر نفضت عن رأسها أفكارها السلبية وقالت:
- ياله غيروا هدومكوا، عشان أنا عازما کوا على الغدا بره فقفز الصغيران بسعادة وابتسمت سالی ولكن سرعان ما غابت عنها بسمتها إذ قاطعها صوته بحزم قائلا:
- وأنا اللي جاي اتغدا معاكوا، خلاص نروح نتغدی کلنا بره سوا فالتفتت له شاحبة وهي تطالع ساعة الحائط بضيق لمحه جاسر بسهولة بالغة وقال بنبرة ذات مغزى وقد ضاقت عيناه في إنذار صريح أنه لن يقبل بالرفض- ياريت لو نتكلم خمسه في مكتبي عبال ما الولاد يغيروا.
وبإحدى مميزاته التي لا يختلف عليها إثنان وبشجاعة المواجهة التي لازالت تفتقر إليها باغتها بسؤال حاد المقاطع في اللحظة التي أصبحا بمفردهما في غرفة مكتبه:
- مين ده اللي كنت واقفة معاه أول امبارح ؟
ظلت تنظر له صامتة لوهلة وهي ترقبه بأعين واسعة حتى قالت بضيق بالغ:
- وأنت بأي حق تسأل وبأي حق أصلا تتهجم عليه ؟
فتسارعت خطواته نحو الباب وأغلقه بعنف أفزعها وقال وهو يشير بإبهامه محذرا:
- حذاري يا سالي، أنا لحد دلوقت متمالك أعصابي معاك فتوترت أوصالها وقالت بعند:
- هتعمل إيه ياجاسر هتضربني أنا كمان ؟
فزعق بها:
- ما تستفزنيش ياسالي عشان ماترجعيش تندمي وردي على السؤال، مين ده وإزاي توقفي تضحكي معاه في الشارع؟!
اتسعت عيناها بفرط الدهشة وفغر فمها للحظات وهي تطالع نسخته الغاضبة حتى قالت بهدوء جم لا تعلم كيف استحوذت عليه بل وأيضا بإصرار مطلق:
- ماعدتش من حقك أنك تدخل في أي شيء يخصني يا جاسر واقفة مع مين، بضحك مع مين، بخرج مع مين حتى، خلاص ماعدتش من حقك، زي ما أنت عايش حياتك أنا كمان عايشة حياتي فاقترب منها وبأنفاس مشتعلة كاللهيب قال:
- كل شيء يخصك من حقي يا سالي ولمصلحتك ماتعملش اللي أنا مش راضي عنه، عشان لحظة ماهترجعي هيكون حسابك عسير عن كل شيء خالفتيني فيه وربما ظنت أنها لن تندهش من شذوذ أفكاره وتقازم تواضعه بعد ماحدث لهما ولكنها لم تتوقع أنه قد يصل به لمستوى أبعد ! فضحكت برقة ولكنها لم تتمالكها كثيرا إذ اتسعت وتصاعدت نغمتها حتى قالت وهي تراقب أنظاره المستعرة بدهشته:
- أنا حقيقي مش فاهمة إزاي متوقع أني أرجعلك وأنت زي ما أنت ماتغيرتش . . لاء وبتهددني كمان ! فرد فورا:
- وعمري ماهتغير فهزت رأسها وهي توافقه الرأي:
- ده صحيح، أنت زي ما أنت فعلا، جاسر بشركاته، بفلوسه، بمراته الحامل، بحياته اللي عایشها بالطول والعرض . منغير مايفكر في اللي بيدوس عليه عشان يكمل هوا طريقه واقتربت منه بتحدي أعظم وهي تلكزه بأصبعها فوق صدره:
- لكن أنا اللي اتغيرت ياجاسر، أنا ماعدتش أقبل بأقل من الحياة اللي دلوقت عيشاها وتسارعت خطواتها للخلف في إشارة واضحة للإنصراف ونهاية الحديث بينهما وهي تقول:
- ومع الأسف أنت غير مرحب بيك في الغدا اللي أنا عازمة ولادي عليه واقترب هو منها بخطوات أسرع:
- قصدك ولادنا اللي أنا بكرم أخلاق مني سامحلك تشوفيهم حتی بعد تصرفاتك فقالت برفض سريع وهي تستدير مرة أخرى لتواجهه بهدوء:
- لاء مش کرم أخلاق منك، ده شرط وإتفاق بينا أنت ملزم بيه، كان شرط طلاقنا وراجع الشريط كويس ياجاسر ولو نسيت فأنا فاكرة كل كلمة ومشهد منه وعمرى ماهنساه وخرجت من الغرفة وقد أسدلت بكلماتها الأخيرة ستار نهاية المواجهة وهي تنادي بصوت مرتفع على طفليها لتجتذب كفوفهم الصغيرة نحو الخارج تحت مرأى عيناه التي تبعتهم كالصقر المتحين للإنقضاض على فريسته وهو يوقن بغضب مستعر بأعماقه أنه قد انسلت منه خيوط لعبته في غفلة منه في خضم الحياة وكثرة التفاصيل المحيطة بها قد تنسى أو تتغافل عن أشياء حتى تستطيع المضي قدما ولكنها لم تنسى أرقام هاتفه حتى بعدما مسحتها من ذاكرة الهاتف ظلت تنظر للأرقام التي تضيء شاشته حتى ردت بشجاعة تفتقر إليها في الواقع وجائها صوته مرحبا بتأنيب:
- أنا انتبهت إني مادتكیش عنوان الكافية بس استنيت تتصلي بيا على الأقل تنهدت آشري قائلة:
- سوري با زیاد بجد أنا مش عارفة أقولك إيه فهمس متخوفا:
- قولي اللي يخطر على بالك فورا یا آشري، أنت طول عمرك بتقولي الصدق تهدل كتفيها وأقرت بصدق:
- کنت هكذب وأقولك أن بابي تعبان وماقدرتش أتصل فرد بسرعة:
- والحقيقة عبثت بأطراف الأوراق التي تقبع أمامها وقالت:
- الحقيقة أننا بنعيد نفس السيناريو منغير ماندي لنفسنا فرصة نصلح أخطائنا فأقر بصدق نادم:
- أنا بدأت یا آشري أصلح كل أخطائي لكن كعادتي محتاجك جمبي تاخدي بإيدي ظلت آشري صامتة لفترة طويلة وهي لا تعلم بم تجيبه حقا، لقد فقدت القدرة على دفعه وتصحيح أخطائه إذ تبين لها بنهاية الأمر أنها كانت مخطئة تماما في توجهاتها نحوه، وكأنما لمس حیرتها بيده قال:
- خلينا نتقابل با آشري، الكلام علي التليفون مش هينفع كان عازما على تجاهل مكالمتها التليفونية للمرة الرابعة على التوالي ولكن ماحثه على الرد، تلك الرسالة النصية التي يطالعها والتي تتضمن قرار لسفرا بلا عودة أتاها صوته بتحية مرتجفة، فقالت:
- یعني كان لازم أبلغك برسالة عشان ترد ؟
فتنهد ضائقا:
- إيه معنى اللى أنت كتباه ده یاریم ؟
هزت رأسها وهي تخط تقريرا طبيا موقعا بإسمها:
- ده قرار کنت مترددة فيه وأنت ساعدتني أخده فغمغم بدهشة:
- تسيبي مصر ؟
فأردفت بنبرة جادة:
- أنا طول عمري برة مصر وحتى لما كنت برجع ماكنتش بلاقي نفسي فقام وسار بضعة خطوات قائلا:
- وأنا اللي طفشتك النهاردة ضحكت برقة وقالت:
- أنت بتدي لنفسك حجم كبير أووي أنا لو صممت أني أقعد كنت قعدت لكن ده القرار الصح فهز رأسه بحيرة قائلا:
- أومال إيه حكاية أني ساعدتك تاخدي القرار ده، وليه دلوقت تركت الأوراق جانبا وقالت وهي تسرح بفكرها لمساء تلك الرحلة الصادم فزمت شفتيها وقالت بحسم:
- أنا اكتشفت أني أنا كمان کنت بهرب، بهرب من فكرة أننا مش مناسبين لبعض وأننا بنضيع وقت مش أكتر لذلك قررت أعيد تصحيح مسار حياتي وأركز في الوقت الحالي على شغلي وبس، ولا أنت شايف غير كده يا أسامة ؟
تاهت منه الأحرف وغربت عن سماء أفقه الكلمات وظل شاردا ولكنه بداخله يعلم أنها محقة هو لن يستطيع التمسك بها وإثنائها عن قرارها والتراجع عنه، إذ أنه لا يملك أدنى فكرة عما يكون الوضع بعدها بينهما فهو لا يملك نحوها تلك العاطفة الجارفة وأيضا لا يستطيع التخلي عنها بشكل حاسم ونهائي فهي بحقيقة الأمر لم تكن سوى لعبة كان يدور بها من حين الآخر، يهرب بها من واقع حياته المزرية ووطأة شعوره بالوحدة تنهدت وقالت:
- الرد وصل هتف بسرعة:
- ريم أنا . . . فقاطعته بحزم فوري لكأنما تلقي بأمرا غير قابل للنقاش:
- مستنياك النهاردة الساعة عشرة قدام بوابة المستشفى تسلم عليا . طائرتي الفجر، سلام كان ممسكا هاتفه شاردا حتى بعدما نادته للمرة الثالثة فأخذت قرارا بالطرق على سطح مكتبه لعله يجيبها قائلة:
- جاسر فرفع رأسه إليها فزعا قائلا بحدة:
- فيه إيه بادرية؟!
رفعت حاجبيها تعجبا ليس لأنها ولأول مرة في تاريخها الطويل معه نسبيا تراه شاردا بل لأنها تلمح الحيرة بعيناه تصطرخ فقالت مشفقة:
- مالك ؟
عبس وقال بغضب يشبهه كثيرا ذاك الذي تلاقيه من صغيرها أيهم:
- ماليش، فيه حاجة عندك أنت ؟
طرقت برأسها قائلة وهي تتوقع الرفض الذي سوف تسوقه لأذن أبيها بأسف مبطن بفرحة:
- ممكن آخد بقية اليوم أجازة ؟
ولكنها خيب آمالها قائلا ببساطة:
- براحتك أنا كمان ماشي كمان شوية اتسعت عيناها بدهشة:
- الساعة لسه حداشر فتبسم لها متهكما:
- قولي لنفسك، عموما أنا دماغي مش رايقة، عايزة تقعدي براحتك عايزة تمشي استني أما أوصلك في سكتي قضبت جبينها وقالت وهي ترقبه بنظرات حادة:
- لا أنا هتصرف، هجهز بس شغل بكرة وأحول المكالمات وأمشي خرجت من غرفة مكتبه وهي شاردة هي الأخرى بحالته العجيبة ثم مالبثت أن وبخت نفسها فهي بغني عن الغرق في مشاكل الغير يكفيها ما تمر به وهاهو الهاتف يذكرها بأحدثها فردت بصوت جاهدت أن تجعله هادئا:
- أيوة يابابا ؟
رد أبيها بسعادة بالغة:
- أنا عند الولاد ولبسوا وكله تمام هنعدي عليكي كمان نص ساعة بالظبط هزت رأسها قائلة:
- ماشي يا بابا ولو أنك كنت ممكن تروح معاهم منغيري عادي ضحك والدها وقال بصدق تام:
- ماتعمليهومش عليا يا درية أنا وأنت فاهمين كويس أصول اللعبة أغلقت عيناها لثوان وقالت بوقاحة دون الإهتمام بإثارة غضب- بصراحة اللعبة بوخت أووي وجائها الرد قاسيا:
- قولي لنفسك، طارق إنسان مايتعيبش وولادك مرتحانه وأنا مش هلاقيلك أحسن منه، زي مابتفكري في اللي يريحك فكري في راحة اللي حواليكي السكون ماكان يحتاج إليه حقا، فالضوضاء برأسه تكاد تذهب بعقله ذات مرة غزل خيوطا، أهملها لفترة فتشابکت صارت عقدة، فتقطعت عاد بغروره ليحكمها، والنتيجة أنها قد تناسلت من يده والإحتمالات كثيرة، وجميعها مرفوض كاد أن يخرج لفافة تبغ ويحرقها ليخفف من إشتعال رأسه ولكنه تذكر أنها كانت تكره رائحتها نظر لقبرها مليا وغمغم لها مؤنبا:
- لیه کتبتيلها الوصية ؟
كنت بتقربيها مني ولا بتخيرها تبعد عني؟!
أحقا؟!
أهذا ما وصل إليه ؟
يلوم أمه المتوفية على فساد مسار حياته وفشله في الحصول على الراحة والاستقرار وبالنهاية فذلك لم يكن سوى من صنع يده قبض على كفه متألما موقنا أنه المخطأ وعليه تقع الملامة أفسد بغروره وكبريائه حياته وحياة أطفاله وما يدفع بعقله للجنون حقا ذاك السؤال الذي لا إجابة له متى امتلكت العند والشجاعة ل . . قاطع فكره المتسرسل بنفي لا، فالسؤال الصحيح من ؟
من يكون ؟
وماذا فعل ليغيرها ؟
وكيف استطاع ؟
وكيف تغافل هو عن أثره بنفسها ولم يدري مبكرا ما طرأ عليها من متغيرات ؟
قام وقد اشتعل الغضب بوجدانه من جديد ورغبة حارقة تتملكه في تلقين ذلك الفارع درسا لن ينساه ألقى السلام على أمه قبل أن يذهب بطريقه ولكن رنين هاتفه جعله يتوقف عن الحركة فأخرجه من جيبه ليطالع رقما غريبا عزم على تجاهله ولكن رنينه الملح الذي قد يوقظ الأموات من قبورهم جعله بضيق مبالغ:
- آلو . مين معايا ؟
فأتاه صوتا مرتجف لإمرأة تقول:
- أستاذ جاسر أنا إنجي صاحبة داليا، ممكن تيجي بسرعة، داليا في المستشفى تخطت باب المركز بسرعة ومنه إلى غرفتها الخاصة ودهشت عندما طالعته يحتل المقعد الرئيسي بها فقالت متعجبة:
- صباح الخير يا كريم فابتسم لها بحبور قائلا:
- حبيت أستناكي هنا عشان أول ماتدخلي أخدك وننزل فورا كانت تهم بوضع حقيبتها جانبا ولكنها سرعان ما تراجعت قائلة بتوجس عابس:
- خير؟!
فضحك لها قائلا:
- أنت على طول قلقانة كده، كل خير يا سالي يالا بينا سارت خلفه وهي تضحك بتعجب:
- مش هتقولي على فين طيب ؟
أشار لها نافيا بيده وقال باختصار:
- ورايا ترجلا الدرج سویا وسارت برفقته حتى وصلا للشارع الخلفي وطالعت سيارتها الحديثة متوقفة وما أن اقتربا منها حتى استطاعت تميز اللوحات المعدنية المعلقة بها فالتفتت له بسعادة- خلصت الرخصة؟!
هز رأسه وابتسم لسعادتها الواضحة قائلا:
- طارق جبهالي الصبح بس لازم نعدي على المرور نخلص شوية ورق ونستلمها، هوا موصي علينا ناس معارفه تطلعت له بإمتنان:
- بجد يا كريم أنا مش عارفة أشكرك إزاي أشار للسيارة قائلا:
- أني أكون أول واحد يركبها وأنت اللي تسوقي، يالا بينا فتسائلت متعجبة وهي تفتح بابها الفضي اللامع:
- على فين ؟
جاورها بخفة وقال:
- الأول نخلص المرور وبعدين نطلع سوا على المركز نخلص شوية حاجات أنهيا خطوتهما الأولى في أقل من ساعة زمنية واتجهت بسيارتها نحو مقر المشروع الخيري الذي يتشاركانه وأمرها قبل أن تطأ أقدامها داخله أن تغمض عيناها فضحكت له قائلة:
- مفاجأة يعني، خلاص ماشي أطاعته حتى أمرها بفتح عيناها وما أن فعلت حتى صدرت منها ضحكة سعيدة مملؤة بدهشة بالغة تراقص قلبه طربا لها وهي تقول:
- مش مصدقة أنت لحقت تعمل كل ده أمتی؟!
أنا كنت لسه هنا إمبارح سارت بخطوات سريعة تتنقل بين الغرف التي أعدت بالكامل وطالعت الرسومات الكارتونية على حائط غرفة علاج الأطفال وأشار لها کریم لبقعة مجاورة:
- هنا لسه هنحط لعب، هتبقى بلاي أريا للأطفال عبال مايجي دورهم وأردف مشيرا لبقعة أخرى:
- كان نفسي أجهزة التعقيم تتسلم بدري عن كده لكن للأسف استلمتها الفجر والعمال اللي كانو معايا كانوا خلاص جابوا آخرهم من التعب حدقت به بدهشة بالغة:
- أنت كنت سهران هنا للفجر؟!
فضحك وهو يفرك عنقه قائلا بتوتر:
- أنا لسه ماروحتش من امبارح، أما الحاج مأنبني بكلمتين عشان مافطرتش معاه تأملته بشفقة بالغة:
- تعبت روحك أوي یاکریم ليه كل ده، كان ممكن يتأجل رفع أنظاره إليها وقال بعد برهة:
- فيه حاجات كتير أووي كنت مأجلها لحد ماعدتش ليها وقت وبصراحة بقيت أخاف من التأجيل ظلت تنظر له متحيرة وبفضول أنثوي لم تتمالكه مضت تنبش ماضيه دون أن تدري:
- زي إيه ؟
هز رأسه بألم وقال متفکها:
- عندك مثلا أسناني البايظة فضحكت سالي وقالت:
- دي لازم تشوف ليها حل فعلا عيب عليك ولكنه سرعان ماقال مقتنصا لفرصة قد لا تتكرر:
كمان والدتي الله يرحمها كان نفسها تشوف ولادي فهزت سالي رأسها بأسف وقالت:
- الله يرحمها، أنا كمان بابا ماشفش سلمی بس ماما على سبيل الراحة والوجع في نفس الوقت بتقولي هتبقى تحكيلو عنها عبث بمنتصف رأسه وقد تاه مجددا وشعر أنه لا سبيل لما يرجوه حقا حتى قال:
- ساعات كتير بنأجل قرارات ونرجع نندم على الوقت اللي ضيعناه لمعت عيناها وهي تلتفت حولها مشيرة بيدها:
- الصراحة ماعدتش أفكر في اللي فات كفاية الموجود دلوقت، كفاية أنك شجعتني على قرارات كتير فعلا أنا سعيدة بيها نظر لها وقد تملکت حواسه بالكامل إذ قال بأنفاس متهدجة:
- بالعكس باسالي أنا اللي اتعلمت منك أني آخد قرار وأنفذه ماستناش حسابات مابتخلصش . يمكن كنت بعرض عليكي أفكار لكنك بشجاعة كنت بتنفذي ضحكت متعجبة وقد احمرت وجنتها:
- بجد، وأنا اللي بحسب نفسي إما متهورة أو سلبية مابتحركش هز رأسه نافيا وقال:
- يمكن كنت کده في وقت من الأوقات، لكن أكيد دي فترة وعدت سرحت بأبصارها بعيدا وقالت بعد وهلة:
- فعلا، فترة وعدت والتفتت له وقد أخرج من جيب سترته علبة مخملية حمراء صغيرة وفتحها تحت أنظارها المتسعة لتطالع دبلة ذهبية غمرتها بالدهشة وحمرة الخجل في آن واحد ونبرة صوته الأبح تخاطب أذنيها إذ تاه عقلها بصدمته:
- أنا مش هستنى منك رد في الوقت الحالي، لأن ده بالذات قرار ماينفعش أستعجلك فيه بس ليا رجاء ابتلعت ريقها ورفعت أنظارها لتستقر على ملامح وجهه الراجية:
- أيا كانت مخاوفك خلينا نواجهها سوا، سواء ولادك أو طليقك أو نظرة الناس اللي ماتهمنيش بالمرة ياسالي استجمعت شتات نفسها وقالت برجاء مقابل:
- کریم . . . . فاقترب منها وقد أغلق العلبة ودفع بها لكنها الرقيق قاطعا ترددها وحيرتها:
- لو وافقتي هكون أسعد إنسان في الدنيا ولو لاقدر الله رفضتي هفضل جمبك ومش هسيبك إلا لما توافقي، عشان كل المخاوف اللي في دماغك واللي أنا عارفها كويس خصوصا بعد خناقة أول إمبارح ماتستاهلش منك تضيعي حياتك وحياتي عشانها ثم تركها لبحور حيرتها وانصرف وكلماته الأخيرة تشد من أزرها وجلست في المركز الخاوي تطالع العلبة الحمراء المغلقة بذهن مشتت والخوف بداخلها يصرخ بالرفض ولا رد سواه والعقل العنيد يدفع بها وما المانع؟!
فيجيبه القلب بل ألف مانع اللعبة قد طالت بالفعل وكلما عمدت للهرب أو التجاهل حاصرها بإصرار قوي واليوم كان سؤالا صريحا ولا تراجع عن إجابة شافية له وبالنهاية رضخ لقواعد اللعبة فقال بعزم واضح:
- أنا هستنا ردك عليا في خلال أسبوع یادرية هزت رأسها وقد سعدت بتلك الفرصة لتهرب من بين حصاره وتعود مرة أخرى لصغارها الذين يستمتعون باللهو بمايه الشاطىء الخاص الذي يحيط بمنزله الصيفي والتفتت لظل أبيها ولجواره زوجته التي تستمع بأشعة الشمس في رغبة للحصول على صبغة برونزية لاتدري بما تعود عليها وهي التي تفوقها عمرا وتماشت خطواتها بوقع خطوات أبيها لجوارها على رمال الشاطىء البيضاء والذي همس لها بحب جارف:
- ماتكرریش غلطتي يابنتي، بصي وراك هتشوفي فرحة في عيون ولادك محتاجين لأب يحتويهم فصرحت ولأول مرة بما يعتمل في صدرها من مخاوف:
- خايفة مالاقيش عندي حاجة أديهاله ساعتها الولاد هيدفعوا معايا التمن أمسك والدها بكفها بحزم يرافق عطفا:
- بيتهيألك يادرية، أنت متعودة على العطاء وطارق شخص مش متطلب ثم قال وهو يديرها نحوه بعدما ابتعدا عن أنظار الجميع:
- أنا عاوز اعترفلك بحاجة مهمة فأصغت لما سوف يلقيه على مسامعها فأردف قائلا:
- أنا كنت مصمم أني آخد الولاد بعد ماتتجوزي أنت وطارق ا ولكنه رفض فاتسعت عيناها دهشة وقالت بغضب بالغ:
- تاخد ولادي مني يابابا، إزاي يعني؟!
فأشار لها مهدئا:
- أنت بتسيبي المهم، طارق عنده رغبة شديدة جدا إنه يربي الولاد معاكي، وقالي باللفظ الواحد هكون سعيد أني أبقى أب ليهم فأنطفأت نار غضبها في الحال وشردت بأبصارها نحو أولادها وخوف غریزي يسيطر على حواسها وصدق قلب الأم كما يقولون فعندما عادوا إلي منزلهم بالمساء تلقفت ذراع طارق الصغير النائم بقلق ملتفتا لدرية التي كانت تترجل من السيارة قائلا:
- أظن أن أيهم سخن شوية فاندفعت بسرعة نحوه تتلمس جبهته وقالت بفزع:
- ده مولع فترجل والدها من سيارته بالمقابل قائلا:
- خير في إيه يا درية فتمسك طارق بزمام المبادرة قائلا:
- خير . . ماتقلقيش پادرية، أنا هاخده معاكي للمستشفى وخلي الولاد يطلعو مع جدهم والتفت لأبيها قائلا:
- ده بعد إذنك طبعا فدفع بها أبيها نحو سيارة طارق من جديد قائلا ليطمئنها:
- أنا هقعد معاهم لحد ماترجعوا وتطمنونا عليه مرت الدقائق ثقيلة عليها بالرغم من تمكن طارق من حجز کشفا سریعا بواسطة نفوذه ورفع الطبيب رأسه إليها قائلا:
- ده فيروس منتشر في الجو ماتقلقيش يامدام، أنا اديته خافض وفي خلال ربع ساعة الحرارة هتنزل عليكي بكمادات وخافض في البيت وراحة على الأقل اسبوع تنهدت بإطمئنان أخيرا وقالت للطبيب:
- بس ده كل ده ونايم ودي مش من عادته فطمأنها طارق:
- ماتنسيش أن اليوم كان طويل ومرهق، والسخونية عليها عامل و برضة هزت رأسها وهي تتجه لتحمله رافضة عرضه بحمله بدلا منها وخرجا سويا وانتظرته حتى يتمم إجراءات الانصراف وعزمت على شكره ورد أمواله إليه لاحقا، ولكن ما لجم لسانها وذهب بلون وجهها وترك آثار شحوبه عليه واضحة ذاك المشهد خلف الأبواب الزجاجية لأسامة والقابعة بأحضانه والأخير يهمس بأذنها بكلمات لم تصل إليها ولا حتی کلمات طارق الذي كان يخاطبها فدقات قلبها المحتقن بألمه كانت الأعلى صوتا وعقلها يترجم الأحداث لمعادلة رياضية بسيطة كما اعتادت دوما فالعمليات الحسابية جزء لا يتجزأ من أحداث حياتها اليومية رجل لجوارها يشد من أزرها ويتلقف أطفالها بالعناية والرعاية والآخر أمامها يتلقف أخرى بأحضان حميمة فالتفتت له فجأة وقالت:
- أنا موافقة فدهشت ملامح وجهه وارتسمت ابتسامة سعيدة أعلاه وفتحت عينا أيهم الصغير أخيرا وقال متعجبا:
- موافقة على إيه يا ماما ؟
فضحك له طارق بسعادته البالغة:
- بكرة تعرف يابطل وانصرفا سويا تاركين ورائهم مشهد الوداع خاصة المتعانقين حتى تلك اللحظات المشحونة
هل يمكنك حقا أن تفقد ما لم يكن لك بالأساس ؟
أفكار تدور بها منذ أن دلفت للمشفى صباح اليوم إثر نزيف حاد تعرضت له ووحش الخوف يسيطر على أوصالها بفقدان جنينها الرابط الأوحد الذي يجمعها به وبخسرانه تكون قد خسرته ولكن مرة ثانية يتكرر السؤال البغيض بداخلها هل يمكنك حقا أن تفقد ما لم يكن لك بالأساس؟!
هي ليست بغبية متغافلة واقعيا قد تغافلت عن حقائق عدة ومضت في دربها بعزم للحصول عليه وبنهاية الدرب قد تصل إلى قلبه لا هي وصلت ولا عادت تدرك ملامح دربها وبالنهاية أضحت بفراشها وحيدة دون حتى جنينها وعبارات المواساة التي تتلقاها من صديقتها المقربة لم تكن سوی طعنات متكررة لقلبها المتألم لفقدانه فصرخت بها لتتوقف:
كفاية يا أنجي، كفاية شحب وجه الصديقة وظهرت ملامح الضيق والتوتر جليا على وجهها وفرت دمعة أخرى حبيسة مقلتيها وقالت هامسة:
- کلمتیه ؟
هزت إنجي رأسها وقالت:
- من ساعة مسحت داليا دمعتها الوحيدة وإن كان بالقلب الالاف ينوء بحملها وقالت معتذرة:
- روحي يا إنجي أنا تعبتك معايا ربتت إنجي على كفها وهي ترحب بتلك الفرصة للتخلص من عبأ لا تطيقه وقالت:
- هتبقى كويسة ؟
رفعت داليا رأسها وقالت:
- ماتقلقيش، ماعدتش فيه حاجة ممكن أخسرها أعظم من اللي خسرته بخطوات حانقة طرق الممر المؤدي لحجرتها بالمشفى رمادية عيناه أضحت سوداوية بدخان أنفاسه المشتعلة، دفع بیده الباب وكاد أن يصطدم باللتي أوشكت على الرحيل وما أن رأت وجهه المكفهر حتى أضحى رحيلها الهادىء، فرارا ملامحه لم تلن للشاحبة أمامه ولم ترق بل زعق بها:
- نفذتي اللي في دماغك وفي الآخر ضيعتيه، لأنك واحدة مستهترة وعلى الرغم من شحوب وجهها إلا أن لمعة عيناها الوحشية تولت الدفاع والهجوم في آن واحد:
- كان يهمك أووي؟!
رد بكلمة باترة لشكوكها الهزيلة:
- صلبي اهتزت نبرتها ببكاء مكتوم:
- مع أنه كان بيربطك بيا اقترب منها بغضبه الأعمى:
- مافيش حاجة تقدر تربطني وأنت دلوقت مسئولة قدامي عنه، الدكتور قال أنك أجهضتي بسبب المجهود الزيادة، سفر وتنطيط ومارينا . . صرخت به حانقة:
- أنت سيبتني أخرج
- وأنت مش هتلوي دراعي زعقته بها هزت بدنها حتى وضعت كفيها أعلى أذنيها وهي ترجوه:
- كفاية أرجوك كفاية أنت مش حاسس باللي فيا أخذ نفسا عميقا ليهدأ قليلا وأشاح بوجهه بل وبجسده بعيدا عنها واتجه للنافذة المغلقة وسرح بأفكاره في الأفق الأزرق فوقه أعليه تقع مسئولية فقدانها لجنينهما أيضا؟!
لا بل هي المسئولة بالكامل هي من عصته ومن ستدفع ثمن عصيانها همستها به قطعت حبل أفكاره:
- خلينا واقعیین یاجاسر أنت من الأول لا كنت عاوزني ولا عاوز طفل مني التفت لها وقال بعد فترة طويلة من الصمت المشتعل:
- جایز، لكن حصل وحملتي وبالتالي بقا واقع وبقا ليا حق فيه وأنا ما بضيعش حقي وحتتحاسبي على إهمالك هزأت به:
- حساب الملكين فاشتعلت عيناه وقال مهددا:
- ويمكن أكتر وسقطت دمعة أخرى وبهمسة حارقة:
- وحقي أنا فين ؟
بدا وكأنه غافلا عما تقول، فتابعت:
كنت بحلم بيك، بطفل منك، بحياة بينا ولقيتني على أرفع هامش عندك، كل ما أقرب کنت بتبعد وأضحك على نفسي وأقول بكرة يمكن . . . وبكرة عمره ماهيجي بتر حديثها ودون شفقة:
- جوازنا كان صفقة بشروطك يا داليا، لو كنت شرطتي الحب كنت رفضتها ودمعة ثالثة ورابعة وحتى العاشرة تابعت السقوط ومابعد العاشرة توالی دون صمود وهي تهمس به:
- طلقني
عقد حاجبيه واهتزت نبرته:
- فکري کویس یا داليا غيرك طلبتها وماتنتهاش وبنفس الأعين المغرقة بدموعها رفعتها له قائلة:
- الصفقة خسرانة يا جاسر أخذ نفسا عميقا وقال بصوت جامد وقلب متحجر:
- أنا هخلص إجراءات الخروج وأوصلك بيتك وورقتك وبقية حقوقك هتوصلك لحد عندك قهوة الصباح التي أصبحت تحرص على تناولها مؤخرا في مكان أبيها الراحل المفضل كانت علامة بينة على أن ابنتها تمر بمنعطف جديد بحياتها ورغم تاكل مفاصل ركبتيها إلا أنها حملت كوب الشاي خاصتها وصعدت للأعلى لتنضم لإبنتها السارحة بملكوت الله انتبهت لطرقات عصا والدتها فرفعت رأسها دهشة وقالت:
- خير يا ماما فيه حاجة ؟
ابتسمت لها أمها بمكر وقالت وهي تتجه لتجلس جوراها:
- أنا برضه فعقدت سالي حاجبيها وقالت:
- قصدك إيه يا ماما ؟
حدقت بها أمها بنظرات فولاذية وبنبرة أشد صلابة قالت:
- ماروحتيش شغلك بقالك يومين ليه يا سالي وحتى النادي وولادك يادوب بتنزليلهم الصبح تاخديهم تفسحيهم جمب البيت وترجعيهم قبل المغرب تنهدت سالي بتوتر وقالت:
- عادي يا ماما واخدة أجازة وبعدين هوا لازم أروح النادي كل يوم، الولاد كمان بيزهقوا ظلت مجيدة تنظر لإبنتها صامتة حتى قالت:
- مخبية عني إيه يابنت محسن ؟
فابتسمت سالي وترقرقت دمعة بعينها لذكرى والدها الحبيب وقالت بصراحة مطلقة:
- بصراحة أنا هربانة فرفعت مجيدة حاجبيها بتعجب وقالت بشيء من الحسرة:
- رجعت تهربي تاني، عملك إيه المرادي؟!
وكأن ماينقصها أن تقتحم ذكراه حديثهما فقالت بضيق:
- مش جاسر يا ماما فأمسكت مجيدة بكف صغيرتها وقالت برجاء:
- إحكيلي وريحيني فردت سالي بسرعة لكأنما تتخلص من عبأ أثقل كاهليها:
- کریم اتقدملي فارتسمت إمارات الفرح مخلوطة بحيرة على ملامح مجيدة التي قالت:
- وأنتي هربانة ليه، الإجابة با آه یا لاء فردت سالي بحزن:
- ما أنا مش عارفة أجيبهالو إزاي فهزت مجيدة رأسها وقالت:
- طب وقررتي ترفضي على أنهي أساس ايه اللي خلي تفكيرك يقولك لاء فاعترضت سالي بسرعة:
- ياماما أنا مافكرتش، أفكر في إيه بس ؟
والولاد و . . . وضعت مجيده الكوب بحدة وقالت حانقة:
- جاسر ! عاوزة ترجعيله عشان ولادك يبقى تتصلي بيه وتتفاهموا إنما تقعدي حاطه إيدك على خدك تستني ياخد خطوة يبقى بتحلمي يا سالي فردت سالي بغضب لكأنما تصبه فوق رأس أمها دون أن تدري:
- ومين قالك إني عاوزة أرجعله ولا أني هقبل أني أنا اللي أطلبها وليه بحلم، ليه على طول معاه أنا اللي بتذل؟!
وتقبلت أمها ثورتها الغاضبة بصدر رحب وقالت بهدوء:
- يبقى بترفضي الجدع ليه ؟
فتاهت سالي مجددا في بحور حيرتها حتى قالت:
- أنا مش جاهزة إني اربط نفسي من تاني ولا أخوض تجربة من جديد فأمسكت مجيدة بكف ابنتها وقالت:
- فاكرة أما أبوكي الله يرحمه اشتری عجله حمرا ليكي وزرقا لسيرين، سيرين بسرعة اتعلمت وركبتها وأنت كل اليوم الصبح کنت تطلعى هنا تاخدي العجلة في أيدك وتلفي بيها منغير ماتركبيها لحد ما العجلة صدت والبارومة أكلتها وزعلتي، سيرين و أختك إديتك بتاعتها وساعتها ركبتيها نظرت لها سالي وهي لا تدرك المغزى من وراء تلك الحكاية التي تعود لأوائل عهد طفولتها فتابعت والدتها بلطف:
- ماتضيعيش الفرصة من إيدك يا سالي، جربي يمكن تكوني جاهزة وخوفك بس اللي مانعك فهمست سالي بها:
- یعني أنت موافقة ياماما ؟
تنهدت مجيدة وقالت بحكمة بالغة:
- خلينا واقعيين ياسالي، جاسر واتجوز ومراته حامل وأنت عشان تتطلقي سيبتيله بنتك، في الأول ماكنتش موافقة بس بعد كل اللي حصل أنت اتصرفتي صح وعشان مصلحة الولاد مايبعدوش عن بعض وأنا وهيجيلي يوم وأفارق الحياة، وعاوزة اتطمن عليك بدال ماتعيشي لوحدك فتنهدت سالي بحزن:
- بعد الشر عليك، بس الولاد . . قاطعتها مجيدة:
- بنتك ياسالي، سليم ابن جاسر . . وبكرة الاتنين يكبروا ويفهموا ومن مصلحتهم يعيشوا الاتنين سوا في عز أبوهم، ومهما جاسر يعمل ساعة ماهيكبروا هيختاروا الجمب الحنين عليهم مش مرات أبوهم فرت دموع سالي رغما عنها فربتت مجيدة على كفها بحنا ودفنتها في أحضانها:
- الحياة مش سهلة يابنتي، ماتوجيهاش لوحدك، إنت محتاجة السند، خدي فرصتك ياسالي، ماتفرطيش فيها وكأن ماينقصه تلك الأحرف نظر لها متوعدا وقال:
- أقدر أفهم بتقدمي إستقالتك ليه دلوقتي، عملتلك إيه أنت كمان فابتسمت درية بمرارة وقالت هازئة:
- من ناحية عمايلك، فعمايلك يامه، لكن المرادي مش أنت السبب فنهرها بإصبعه مهددا:
- درية جلست وهي تقول بسخرية تشربتها منه بحكم " العشرة ":
- أصلي هتجوز، عقبال عندك ولو أنها تبقى رابع مرة لكن مش خسارة في طيبة قلبك فاحمرت نواجذه وقال متجاهلا تعليقها لاذعا إياها بسؤال أشد سخرية:
- فجأة كده، ومين عريس الغفلة ؟
فرفعت حاجبها وقالت بنبرة تحمل تهديدا:
- عقيد سابق في الجيش فتراجع للخلف وقال بشبه إبتسامة مريرة:
- آآه ده اكيد من طرف الوالد، بس ياترى إيه اللي غير رأيك ؟
فنظرت للأفق خارج نافذته العريضة وقالت:
- کلنا لازم يجي علينا وقت ونتغير يا جاسر، زي النخيل اللي بره دي لو ماكنتش تتغير وتنحني للريح . . .
هتتكسر ومش هتقوملها قومة خرجت وتركت أنظاره معلقة لجذع النخلة الذي كان يتمايل مع رياح الربيع القوية على غير العادة الناس من حوله تتغير حتى الأقوياء منهم، ك " درية " علي سبيل المثال وليس الحصر تغيرت أيضا ربما كانت القوة في القدرة على التغير والتكيف مع الجديد من الأمور فالتغير في نهاية الأمر ليس بهزيمة نكراء وخذلان عزيمة لربما كان العزيمة ذاتها فالصفعات التي يتلقاها كبريائه على نحو دائم مؤخرا آلمته وهو يتمسك بكونه لن يتغير أبدا كنوع من الدفاع المضاد ولكن ذاك التمسك الأعمى كلفه الكثير، كلفه زوجة مطيعة وبيت هادیء وحياة مستقرة ومؤخرا فقد جنينا لكأنما شعر أنه سيكون معذبا في الأرض كأخوته إن حمل کنیته ورغما عنه يشعر بمرارة خذلان ومسئولية تجاه تلك التي سعت إليه فبالنهاية عقد الزواج كان يحمل توقيع إسمه إلى جوارها نظر للأوراق أمامه وتعلقت نظراته التائهة بطلب درية للإستقالة فحملها بصمت وخرج من غرفته حاملا سترته أيضا وكنوع من التغيير الذي كان ينبذه لم يعلم إلى أين !
لربما كان في الماضي صاحب الخطوة الأولى حتى تولت هي زمام الأمور بحكم العادة ولكنه عاد ليصحح مسار حياتهما معا ويكون هو القائد دون و منازع ترجل من سيارته الحديثة أمام مقر شركتها وصعد حاملا زهور ابتاعها خصيصا لها سار بثقة آل سليم نحو المصعد حتى وصل إلى حيث مكتبها واقتحمه تحت أنظار مديرة أعمالها المنشغلة بمكالمة هاتفية أخرتها عن اللحاق به حتى توقف تماما في منتصف الغرفة تحت أنظار آشري المندهشة وحمرة الخجل تعلو وجنتيها رغما عنها لأول مرة منذ وقت بعيد والسبب ليس فقط معنيا بباقة الزهور الرقيقة التي كان يحملها ولا أيضا بهيئته المثيرة ببذلته الكلاسيكية دون ربطة عنق ولكن نظرة عيناه الجريئة المعلقة بها وحدها كانت الدافع الأقوى شکرت آشري مديرة أعمالها بصوت أبح وتابعت بأنفاس متلاحقة:
- ویاتری لازمته إيه الورد ؟
فأجاب بصوته الواثق المرح:
- عيد الربيع فضحكت رغما عنها وقالت بعبس زائف:
- لسه زي ما أنت ماتغيرتش فاقترب بقوة حتى أصبح على بعد سنتيمترات قليلة وقال بأنفاس ساخنة:
- فيه حاجات إستحالة تتغير فيا يا آشري واعترفي أنها من مميزاتي هزت رأسها بإذعان لطالما كان بارعا في فنون الغزل والتقرب من المرأة بشكل عام، وحمقاء من ترفض غزل رجل جذاب مثله وأكثر حماقة من ترفض باقة زهور مدت يدها وتناولتها منه برفق ووضعتها برقة فوق سطح مكتبها وقالت بعيون لامعة:
- بس مش كفاية يا زياد فاقترب مرة ثانية ولكن منحها مساحة أوسع قائلا برجاء:
- فعلا، لأنه حتی ده قليل عليك، بس أنت إديني فرصة أعوضك على اللي فات نظرت له والألم يعود ليقتات من فرحتها:
- مش هستحمل وجع تاني یا زیاد فاقترب أكثر وبنبرة أكثر دفئا وحنانا قال:
- إستحالة، الوجع كله من نصيب قلبي وأنا بعيد عنك وشعرت لكأنما اختطف دقات من قلبها على حين غرة فهربت بعيناها من محاصرته فقال برجاء مرح:
- ممكن تيجي معايا رفعت له رأسها بأنفاس متهدجة:
- على فين ؟
فابتسم وهو يقول:
- يعني ماجتيش حفلة الإفتتاح قلت أعملك حفلة على الضيق أنا وأنت، نتغدی سوا وتشوفي المكان وكيف بإمكانها الرفض وعيناه تبتسم له وملامح وجهه تنطق بالفخر لكأنما طفل صغير أنجز واجبه على أكمل وجه " خايفة أكون بظلمك " رسالة مكونة من ثلاث كلمات لم تحمل وعدا ولا ردا بنعم كما يحلم ولكنها رسمت إبتسامة واسعة على فمه ومضى بأنامل ثابتة يخط عبارته التي تحمل صدق قلبه ومشاعره " الظلم بعينه أنك تبعديني عنك " ولم تلقي رسالته سوی بمزيدا من الخوف بداخلها فتنهدت بتعب حتى أتاها رنين الهاتف ليزيد من أرق مضجعها فردت بصوت مرتجف ولم يمنحها حتى فرصة إلقاء التحية عليه وقال:
- أنا جاي بكرة الساعة ثمانية ومعايا الحاج فاعترضت:
- کریم، أنت بتستعجل أوي فرد قاطعا شكوكها:
- ما أنت بتهربي ياسالي، خلينا نجرب سوا، قوليلي إيه اللي هنخسره وبعدين دي مجرد خطوبة هوا أنا بقولك هجيب المأذون وآجي وظلت صامتة لوقت طويل حتى قالت:
- طب خليها آخر الأسبوع أكون حتى اتكلمت مع الولاد فابتسم بسعادة وقال بنبرة لا تخلو منها:
- هاتيهم بكرة النادي يا هربانة ونتعرف على بعض يكون أفضل فابتسمت رغما عنها وقالت:
- ماشي بس ما تكلمهومش في حاجة هز رأسه وقال مطمئنا:
- ماتقلقيش، مش عاوزك تشيلي هم حاجة وأنا جمبك عاد لمكتبه بعد إنقطاع عن العمل دام أياما متتالية ليس هربا ولكنه كان تائها بالفعل فبعد أن ودعها عاد لمنزله وغرق بألبوم صور وذكريات تقبع به وهاهو معلقا بين ماض وحاضر مشتت حتى نفض عنه الكسل صباح اليوم وتناول فطورا سريعا وهاهو يمارس مهام عمله الروتيني بشيء من الملل يصارع رغبة ساقيه في المضي نحو الطابق الأخير وريثما كان غارقا بدوامته الغير مستقرة دلفت تلك الفتاة التي لايدرك من معالمها سوى شعرها الفقير بشقرته وهي تضع بنعومة فائقة أوراقا مكتبيه تتطلب توقيعه وقالت بصوتها الرفيع وهي تحمل مغلفا أصفر اللون:
- مستر جاسر طلب مني أسلمك الظرف ده بالذات يدا بيد فتناوله منها عابسا وقال:
- هوا مجاش النهاردة ؟
هزت رأسها نافية:
- لاء ومضت مرة أخرى نحو الخارج حتى توقفت لتقول بمكر:
- ولا الأستاذة درية رفع لها عيناه بحيرة ولكن الورقة التي كانت بداخل المظروف تحمل تفسيرا منطقيا مما جعل الغضب يشتعل برأسه، فكيف يقبل جاسر بإستقالتها دون الرجوع إليه ؟
ومالذي حدث ليدفعها لترك العمل؟!
قام وحمل سترته واتجه للباب وكاد أن يصطدم بجسد أخيه الضخم فهتف به حانقا:
- هوا أنا آخر من يعلم في الشركة دي ولا إيه ؟
فابتسم له جاسر بسماجة وقال ليزيد من غيظه:
- طبيعي، هوا أنت بتيجي فزعق به غير مباليا:
- وحتى لو مجتش في أمور المفروض ترجعلي فيها فرفع جاسر حاجبيه بتهكم وقال ساخرا:
- المفروض إني أرجعلك بخصوص سكرتيرة مكتبي، جديدة دي ماتيجي تنقيلي ألبس إيه بالمرة أغلق أسامة الباب وقال بحدة وهو يرخي ربطة عنقه بضيق قائلا- جاسر أنا مش ناقصك، درية استقالت ليه ؟
ظل جاسر صامتا يراقب أخيه الذي يغلي ويزيد من فرط انفعاله حتى جلس بهدوء ودون أن يرفع أنظاره إليه قال ببرود:
- أصلها هتتجوز فهتف أسامة بحنق مختنق:
- نعم وضاقت عينا جاسر وهو يتابع ثورة أخيه:
- عقيد متقاعد في الجيش فهتف أسامة بغيظ:
- برضه، البأف ده إياه فتبسم جاسر رغما عنه وقال:
- ماشفتوش الصراحة لكن ده طالما رأيك فيه يبقى أكيد راجل محترم فنظر له أسامة بعيون محترقة:
نعم يا أخويا أنت معايا ولا معاه فضحك جاسر رغما عنه وقال وهو يدعي البراءة:
- معاك طبعا بس على مين ؟
توترت أوصال أخيه ومضى يذرع الغرفة بأنفاس متقطعة وقال ضائقا:
- عامل فيه حكیم روحاني حضرتك . . يا شيخ أتنيل، قال حالك أحسن من حالي هز جاسر رأسه مذعنا وقال معترفا:
- في دي معاك حق وقام لينصرف وقبل أن يختفي من طريق أخيه ألقي قنبلته الثانية- داليا أجهضت واتطلقنا تاركا إياه يحدق في إثره متعجبا متأملا في تدابير القدر شباكا تنسج من حولنا لا ندري أتحركنا أن نحن من نقودها ونصنع المزيد منها وهل الحرية سبیلنا خارجها أم بداخلها ؟
في الوقت الذي تبدأ فيه بإستعادة أنفاسك وتعديل مسار حياتك في مضمار جدید تظن أنه قد يحمل لحياتك السلام أخيرا تفاجئك الحياة بأنه قد فات الآوان.
اصطدمت عربة التسوق خاصتها بأخرى لم تنتبه لها إذ كانت منشغلة بتفحص مكونات علبة حبوب للإفطار طلبها أيهم خصيصا وغمغمت وهي تلقي نظرة سريعة لصاحب العربة المقابلة بكلمة إعتذار ماكانت سوى ثوان حتی تلاشت حروفها وحلت محلها نظرة دهشة متوترة قابلتها عيون شديدة السواد بغضبها فهتفت بتعجب:
- أسامة ! ثم مالبثت أن استعادت رباطة جأشها وهي تسترجع مشهد العناق الحميم خاصته وقطبت جبينها وقالت بضيق:
- أنت بتعمل إيه هنا ؟
اندفع نحو الرف وألقي بعربته بعضا من المنتجات دون اكتراث قائلا:
- إيه بشتري حاجات أنا كمان ولا السوبر ماركت معمول مخصوص عشان طلبات سعادتك انزوت شفتيها بإبتسامة ساخرة مريرة وقالت:
- لاء طبعا، اتفضل . . عن إذنك حرکت عربتها لتبتعد عن طريقه فزعق بها بإنزعاج تام:
- ياسلام واخد أنا المشوار من بيتي لحد السوبر ماركت اللي جمب بيتك عشان اتبضع فالتفتت له ببرود غير عابئة بنظرات البائع المتطفلة وقالت:
- والله مايهمنيش ثم أنا سألتك بتعمل إيه هنا نفث محاولا التريث والهدوء وقال:
- أقدر أعرف غيرتي رأيك ليه ؟
أنت مش قولت أنها مش خطوبة هزت رأسها وقالت بنفس التماسك:
- وقتها ماكنتش خطوبة فقال غاضبا:
- وإيه اللي اتغير ؟
هزت رأسها وهي تمنع الألم من التسلسل لنبرة صوتها المتماسكة ظاهريا قائلة:
- شيء مايخصكش، حياتي الشخصية ملكي أنا لوحدي وبعدين أنت على أي أساس جاي تحاسبني فاقترب منها بسرعة قائلا بهمس خطر:
- الأساس أنت عارفاه کویس بادرية فابتسمت وقالت بتهكم مرير والمشهد حاضرا ومتجسدا بقوة أنفاسه:
- آه بأمارة الأحضان على أبواب المستشفيات تراجع للخلف خطوة باهتا وتابعت هي بجدية تلك المرة لتضع خط النهاية ومن بعدها لا عودة:
- من الأساس ماكنش فيه أساس يا أسامة ومن فضلك أنا مش عاوزة أشوفك تاني ولا حابة الشو ده يتكرر في مكان عام وخصوصا لما يكون قرب بيتي وولادي، عن إذنك تابع انصرافها المتعجل والثابت نحو منصة دفع الحساب صامتا وهو يشعر بنيران تشتعل في أوصاله لم يكن يدري أن عبثه الغير مجد مع غيرها قد يحرمه فعليا منها بل لم يكن يدري حتى تلك اللحظة أنها بالفعل من أراد ومرارة الخسران تخنق حلقه للمرة الثانية بحياته غير أنه يشعر تلك المرة بأن خسارته أكبر إذ فقد الفرصة للعيش مرة أخرى وتذوق الحياة من جديد في تلك اللحظات القليلة التي تسبق انفصالها عن صغارها تغرقهم فيها بالأحضان والقبلات ووعود لمقابلة قريبة فوق السحاب في دنيا الأحلام توقفت بسيارتها الحديثة أمام البوابة المعدنية الضخمة لقصر آل سليم وهي تبحث عن كلمات مناسبة تبدأ فيها حوارا متأخرا للغاية إذ أنها سويعات ويحضر کریم ووالده لمنزلها لطلب يدها قالت بأنفاس متهدجة:
- إيه رأيكم في عمو کریم ياولاد؟!
عبس سليم وهو يبحث بعقله عن مغزی لسؤال والدته وظل صامتا فيما قالت سلمى ببراءة:
- دمه خفيف أووي هتجيبه المرة الجاية يتفسح معانا يا ماما ؟
فابتسمت سالي وقالت:
- آه إيه رأيكم ؟
كانت عيناها متعلقة بنسخة جاسر الغامضة وتسائلت داخلها كيف يمكن أن يكون الشبه بينهما ليس فقط بملامح جذابة بل وأيضا بخبايا نفس معتدة بكرامة والابن كأبيه بالفعل ظل صامتا يترقب توتر شفتيها بكلمات تائهة وسؤال لا معنى له:
- إيه رأيك يا سليم؟!
زم سليم شفتيه وقال:
- دمه تقيل لكن طبعا براحتك يا ماما انزعجت سالي وقالت متسائلة:
- ليه ياسليم بتقول عليه كده ؟
فرد بصراحته المطلقة:
- مش بستریح لحد يحاول يتصاحب عليا في أول مرة نشوف بعض فيها فضحكت سلمى وهي ترفع كفيها للأعلى قائلة بطفولية محببة:
- ياساتر يارب عليك يا أخي تجاهلها سليم وقال بجدية:
- يعني لو لازم يجي المرة الجاية ياريت مايتكلمش كتير ظلت سالي صامتة وهي لاتدري كيف التصرف، لقد تملكتها نوبة من الجرأة الفجائية منذ قليل وقررت مصارحة الطفلين بأمر الزيارة القريبة ولكن مع تأفف سليم الواضح من شخص کریم أصبحت تشعر بالخوف وكأنما قرأ الصغير أفكارها فقال:
- لكن أنت بتسألي ليه ياماما هوا أحنا هنشوفه كتير بعد كده ؟
رفعت سالي أنظارها له وهي تقول دون أن تشعر:
- أنا وعمو کریم هنتجوز وتراجع الإثنان سويا لمقعدهما بالخلف ونظرة مبهمة قد علت ملامحهما فأسرعت سالي تقول:
- يمكن، يمكن نتجوز وكنت عاوزة أعرف رأيكم . . . فيه تبادل الإثنان النظرات وقالت سلمى بأنفاس متهدجة بصوت قطعت أنفاس سالي حسرة وغضبا في الوقت ذاته:
- یعني أنت خلاص مش هترجعي أبدا تعيشي معانا في البيت ! هزت سالي رأسها وقبل أن تهرب بأنظارها بعيدا ألقت نظرة متخوفة على وجه الصغير الذي التزم الصمت وعلا ملامحه الجمود ثم قالت بهمس:
- ماعدتش ينفع ياسلمی ومدت يدها وقبضت على كفوفهم وقالت بحب عارم:
- لكن لازم تعرفوا أنتوا أغلى حاجة في حياتي وإنهم لو خيروني بينكم وبين أي حد تاني أنا لا يمكن أبعد عنكم وأسيبكم فهتف سليم يإتهام قاس يتجاوز سنين عمره:
- أومال هتتجوزي أنت كمان ليه ؟
نکست سالي رأسها قليلا وقالت:
- عشان ماحدش يقدر يعيش لوحده ياسليم فتح سليم باب السيارة وقال وهو يهبط منها رافضا تلك الحجة الواهية من فمها:
- عمو أسامة ?