ظل ساهرا منتظرا ردا منها وفي الثلث الأخير من الليل؛ وجدها قد قرأت الرسائل، ولكن لايوجد رد. ثم وجد مشاركة منها على الفيس وقد كتبت فيه: "مخيفه تلك الدنيا تبكينا رغم صغر عمرنا"
ثم تلاها مشاركة أخرى كتبت فيها: "الصمت إما حلم كبير أو هم ثقيل"
وتلاها صوره بها دموع
قرأ غمر هذه المشاركات منها؛ وتيقن لأول مرة مدى خطأه فى الحكم عليها؛ فهذه الفتاة التى تعدى عمرها الثامنه عشر بشهور قليلة؛ فعلا صغيرة السن؛ ولكنها تملك مشاعر وأحاسيس فتاة ناضجة؛ تسبق عمرها بعشر سنوات؛ فكما أنها تملك فى حبها، وتمردها، قلب طفله، فهى تملك فى غيرتها، قلب أنثى ناضجة عشرينية العمر؛ وتملك فى حزنها، قلب أنثى ناضجة ثلاثينية العمر؛ يالله فعقل الفتاة فعلا لايقاس بعمرها؛ صغرت، أم كبرت.
فكتب لها أبيات من الشعر فى تعليق على مشاركتها:
لو أنَّ حبَّكِ كانْ في القلبِ عاديَّا لمَلَلْتُهُ مِن كَثرةِ التَّكرارْ لكنَّ أجملَ ما رأيتُ بِحبِّنا هذا الجنونُ، وكثرةُ الأخطارْ حينًا يُغرِّدُ في وَداعةِ طِفلةٍ حيناً نراهُ كمارِدٍ جبَّارْ لا يَستريحُ ولا يُريحُ فدائماً شمسٌ تلوحُ وخَلفَها أمطارْ حينًا يجيءُ مُدمِّراً فَيضانُهُ ويجيءُ مُنحسِراً بِلا أعذارْ لا تعجَبي هذا التَّقلُّبُ مِن صَميمِ طِباعِهِ إنَّ الجنونَ طبيعةُ الأنهارْ مادُمتِ قد أحببتِ يا مَحبوبتي فتَعلَّمي أن تلعبي بالنّارْ فالحبُّ أحيانًا يُطيلُ حياتَنا ونراهُ حيناً يَقصِفُ الأعمارْ
بعد يومين دخل عمرو المكتب فى المحل وجده وقد جلس على مكتبه وأمامه بعض الأطباق ويتأهب لتناول طعامه.
عمرو بضيق: ماشاء الله عليك جايب أكل وهتاكل ولا على بالك الدنيا باللى فيها
غمر: فيه إيه يابنى؛ من إمبارح ماأكلتش وبعدين بصراحه ريحة الأكل هى اللى جابتني على ملا وشي
عمرو وهويزفر: وكأنك مش عامل حاجة فى حد ولا مزعل حد ولا جارح حد إيه البرود اللى إنت فيه ده.
ترك غمر الطعام وإكتسى وجهه بالحزن: أنا مش عارف أعمل إيه أصالحها إزاى
عمرو بجدية: غمر إنت بتحب لبنى بجد
غمر متفاجأ من سؤاله: دي عمري كله دي هى الحاجه الحلوه الوحيدة اللى حصلتلى فى حياتى هى اللي حلت دنيتى وخلت لها طعم بعد ماكنت تايه.
وفي ثالث يوم؛ دخل عمرو على غمر وجده وضع رأسه بين كفيه فوقف عمرو مستندا بكتفه إلى الباب ضاما ذراعيه إلى صدره
عمرو بجديه: لا والله بتحس وعندك دم بس للأسف بعد ما بتقع فى الغلط
إنتبه له ونظر إليه بضعف غمر: في إيه ياعمرو
عمرو وقد لاحظ ضعف صوته فهرول إليه.
عمرو بلهفه: مالك ياغمر
غمر بهدوء: مفيش حاجه ياعمرو أنا كويس
عمرو بأسي: لا شكلك مش كويس خالص
غمر: متقلقش نفسك إنت
عمرو واضعا يده على جبهة غمرو: لا دا إنت كدا لازم تروح إنت شكلك تعبان أوي وحرراتك عاليه؛ إستنى هاجيب العربيه قدام المحل ووصلك دخل محمد عليهم عندما رأى أخوه هكذا جرى عليه هو الآخر
محمد بخوف: في إيه ياعمرو غمر ماله
عمرو بأسف: درجة حرارته عاليه أوي وشكله مش قادر يتحرك انا هاجيب العربيه وأروحه البيت
محمد: خليك إنت ياعمرو أنا اللى هاروحه
عمرو: ياريس مينفعش إنتو الاثنين تسيبوا المحل
أوما محمد برأسه موافقا ثم نظر إلى أخيه وقد زاد تأثره
محمد بحزن: مالك ياحبيبي في إيه؛ مالك ياغمر
غمر بضعف: مافيش يامحمد متقلقش نفسك دول شوية سخونيه وهيروحوا إن شاء الله
محمد بحنو شديد: إجمد كده يا حبيبى وشد حيلك علشان خاطرى ياريت ياحبيبى اللى فيك كان يبقى فيه أنا.
غمر فى حالة ضعف وبحنو: بعد الشر عليك يا محمد ماتقولش كدا صعد عمرو المكتب
عمرو بحزن: يلا ياغمر
حاول غمرالنهوض ولكن قدماه لم تحملاه فوقع على الكرسى.
هتف محمد وعمرو معا بلهفة: غمر
أستند على محمد وعمرو وجميع عمال المحل ينظرون إليه وهم في حالة حزن فأول مره يروه
بهذه الحالة؛ خرج من المحل مستندا إلى كل من محمد وعمرو وأركبوه سيارة عمرو وأثناء خروجهم رأتهم منار وهى تمر أمام المحل.
منار محدثة نفسها بخوف: "في إيه مالك ياغمر"
دخل البيت مستندا إلى محمد وعمرو ولم تتمالك جدته نفسها من الصدمة وأجهشت بالبكاء وهى ترى حفيدها الأقرب إلى قلبها فى هذه الحالة من الضعف والهزال
نور وهى تشهق بالبكاء: ماله غمر يامحمد حصله إيه ياحبيبي يابني ياريتنى كنت أنا
محمد بحزن: إهدي ياستي والله هيبقى كويس
صعدوا به إلى غرفته وتذكرت نفس المشهد عندما دخل عليها نصر مستندا إلى أخويه عاصم
وحسين والذى توفي بعدها بيومين؛ لم تحملها قدماها وإنهارت على الأريكة فى نوبة بكاء شديد.
نور داعية إلى الله ببكاء شديد: يارب.. سيبهولى يارب؛ يارب.. ده هو الحاجه الوحيده اللي
مصبراني فى الدنيا على فراق حبايبى؛ قلبي مبقاش حمل فراق تاني يارب.. يارب
تماسكت وأسندتها صباح حتى وصلت لغرفة حفيدها فى الطابق العلوى وكان مستلقيا على
سريره بحالة من الضعف؛ فتذكرت أبيه وهو مستلقى على سريره فى مرض موته.