وقفت على ذاك الجرف العالي تضم معطفها في وجه ذاك الهواء البارد تتطلع للأفق البعيد الى النيل الساحر وبيوت القرية النوبية الملونة بألوان من فرحة تشرح قلب الحزين وتملأه املا.. شعرت بسكينة عجيبة وسلام نفسي لم تستشعره منذ زمن بعيد، ظهر جابر ليقف جوارها متطلعا الى الأفق بدوره وتنهد في حسرة لتوجه ناظريها اليه متسائلة في قلق: - هو ليل بيه بخير!؟.
اكد جابر بإيماءة من رأسه ولم يعقب بحرف فتنهدت في راحة هامسة: - المنظر من هنا رائع بجد وكأنك بتطل ع الجنة.. ابتسم جابر في مرارة: - الچنة راحت يا داكتورة، الچنة الحجيجية غرجت في تعليات خزان أسوان ومن بعده السد العالي، اللي انت شيفاه ده يا دوب بواجي من النوبة الأصلية جبل ما مية الخزان والسد يغرجوها ونتهچروا كلنا..
وتنهد من جديد بقلة حيلة هاتفا: - أوعي تفتكري اني مضايج، الخزان والسد العالي مصلحة لمصر كلها، بس هو الحنين اللي ذرعه فينا أهالينا لأرضنا الجديمة وحلم الرچعة.. هزت رأسها وشعرت بغصة الالم في حديثه فتحركت مبتعدة في هدوء احتراما لقدسية الوجع الكامن داخله وجلست على احد المقاعد الكائنة على مدخل الدار المنحوتة داخل الصخر..
بدأ جابر في الغناء بصوت شجي اثار داخلها شجنا تعجبته لانها لم تكن تفهم ما يشدو به، فقد كانت على ما يبدو أنشودة نوبية قديمة: - اباياسا ابا فيسكيرو... وي شوب دارلينايا... توبة وووه مالينتو..
تنبهت ان شخصا ما جلس ليستقر جوارها فإذا به ليل وقد تحامل على نفسه حاملا ذراعه ذات الكتف المصاب بحامل حول رقبته وقد استشعرت انه اصبح افضل حالا، همست تسأله: - بقيت احسن دلوقتي..!؟. اومأ برأسه مؤكدا وهو يتطلع الى جابر فاستطردت هامسة: - هو بيغني يقول ايه!؟. همس ليل وقد حاد بناظريه متطلعا للافق الخلاب امامه: - دي اغنية حنين للنوبة القديمة.. همست: - بتقول ايه!؟، تعرف معناها بالعربي!؟
اكد بإيماءة من رأسه وهمس مترجما كلمات جابر النوبية: - اباياسا ابا فيسكيرو.. هل يا ترى سيكون في وسعنا!؟ وي شوب دارولينايا.. ان نعتبر كأن شيئا لم يحدث.. نوبة ووه مالينتو.. يا نوبة يا وطن الجميع وحبهم الكبير.. شورتي تول كولوستو... مكانك في القلب.. موادي وادي جاجا فارسون باني يدي.. سيرتنا وحكايتنا في دروب القرية الحلوة.. تار كومبا كاشا ناجرشا اراجيد ويي... ايقاعات الدفوف وانغامها وحلقات الرقص..
تري هل ذهب هذا بلا عودة..!؟. ابجيسمونا تار يوم ويي.. هل سيمن علينا القدر برؤية هذه الأيام نوبة تووو مالينتو... يا نوبة ياحبنا الكبير يا محبوبة الجميع..
انتهى جابر من غنائه ليسود الصمت للحظات وقد انتهى ليل من ترجمة كلمات جابر الذي ظل يقف كتمثال صخري لا يحرك ساكنا وأيقن ليل بحدسه انه يبكي فلم يشأ ان يناديه وتطلع اليها ليجد دموعها تنساب في رقة على خديها، استشعر اضطرابا ما داخله فحاد بناظريه بعيدا عن محياها محترما تأثرها المُهلك ذاك والذي أورثه تسارعا في نبض خافقه ما خبره من قبل..
تحرك جابر راحلا ينحدر التلة لينتفض خلفه ليل هاتفا في تعجب: - على فين يا چابر!؟. هتف جابر مؤكدا في حنق معتاد: - اووف، استغفر الله العظيم، رايح اچيب لكم العشا..
عاد ليل موضعه جوارها ولم ينبس احدهما بحرف واحد الا انها نهضت في اضطراب تهم بدخول الدار هامسة بأحرف متلعثمة لا تدري ما دهاها: - عن اذنك.. هتف ليل في تجهمه الفطري: - مش هتتعشي!؟، ما انت سمعتي چابر، جال رايح يچيب العشا، خليكي جاعدة لحد ما يرچع وبعدين ابجى ادخلي نامي..
عادت موضعها جواره تجلس في عدم راحة لا تدري مصدرها، حاولت الا يسقط ناظرها عليه فظلت عيونها تتطلع للافق حتى غابت الشمس مخلفة ورائها لون برتقالي حار شمل الاجواء وسكب الدفء بارجائها...
قلب الهاتف بين يديه مترددا هل يتصل بها ام لا داعِ!؟، ظل حائرا لبعض الوقت حتى حسم امره وضغط على زر الاتصال بها.. لم يستغرق الامر الا لحظة حتى جاءه صوتها الشجي على الطرف الاخر ليُذهب براحة باله الى غير رجعة وهي تهتف في لهفة: - الو، الو يا حضرة الظابط.. هتف هشام ما ان استجمع شتات نفسه: - الو، السلام عليكم يا آنسة نجوى، اخبارك ايه!؟. هتفت في عجالة: - الحمد لله، تمام..
هتف يحاول إطالة الحوار: - وأخبار صحة الوالدة..!؟، يا رب تكون.. قاطعته نجوى هاتفة في لهفة: - ماما بخير فيه اخبار عن عين!؟. تلعثم هشام هاتفا: - هو الصراحة، لا، مفيش أي أخيار جديدة، بس هتفت نجوى في ضيق وقد شعرت بإحباط رهيب: - بس ايه!؟. اكد هشام متلعثما: - بس خير ان شاء الله، انا اتصلت عشان اطمنك اني مش سايب الموضوع.. هتفت في هدوء: - متشكرة لحضرتك..
ساد الصمت للحظة ظل يبحث خلالها عن ايه اعذار يمكن ان يطيل بها عمر المكالمة لكن عقله المشوش لم يسعفه فهتف في قلة حيلة: - طب اقولك سلام عليكم..
همست نجوى: - وعليكم السلام.. أغلقت الهاتف ليتطلع هو لهاتفه في غيظ هامسا في حنق: - مكنتش قادر تطول المكالمة شوية!؟، كنت قول أي حاجة.. هتف العقيد حسان وهو يدخل على هشام مكتبه ليجده على هذه الحالة: - انت بتكلم نفسك يا هشام..!؟. انتفض هشام مؤديا التحية هاتفا: - لا يا فندم بكلم نفسي ايه، بعد الشر عليا، انا كنت بفكر ف القضية، اصلها عويصة قوي.. ابتسم العقيد حسان في خبث ولم يعقب..
انتهوا من تناول الطعام لينهض جابر مبعدا الصينية الفارغة حاملا ركوة يصنع عليها الشاي هتفت عين وهي تراه يحضر الأكواب على صينية صغيرة: - انا عايزة، إتشي جيلّة، يا جابر.. قهقه جابر مؤكدا: - من عنايا يا داكتورة، بقيتي خبيرة باللغة النوبية..
قهقهت بدورها وليل يتابعها: - خبيرة ايه بس ده انا يا دوب حفظت أسماء الأكلات بالعافية، واسم الشاي باللبن عشان بحبه.. اكد جابر مبتسما: - احنا النوبيين المشروبات المفضلة عندنا تلاتة، ال اتشي جلة ده الشاي بلبن، والكركدية الساقع ف الصيف، والأبريه ده ف رمضان أساسي.. هتفت عين مازحة: - لا خلينا ف الشاي بلبن، مفيش احلى من اتشي جلة ف الشتا ده..
ناولها الكوب فتناولته محتضنة إياه ليبعث ببعض الدفء في اوصالها وقد بدأت درجات الحرارة في الانخفاض عندما اخذ الليل يرخي سدوله ناشرا العتمة بالافق..
تناول ليل كوبه كذلك مرتشفا منه في استمتاع، تطلعت الى جلبابه الخفيف في مثل ذلك الطقس البارد وهمست: - لازم تلبس حاجة اتقل من كده، انت تعتبر لسه تعبان، وممكن يجيلك مضاعفات.. همس ليل دون ان يوجه اليها ناظريه: - انا مرتاح كِده، ومتعود ع البرد.. همست معترضة: - الكلام ده لما تكون بحالتك الطبيعية ابقى اعمل اللي انت عاوزه، لكن انت دولوقتى تعبان يبقى لازم تلتزم بكلامي..
ادار وجهه ناحيتها هامسا بتعال: - ليه!؟. همست بتعال مماثل: - عشان انا اللي بعالجك وعارفة المصلحة فين.. همس يحاول استدراجها: - وتهمك مصلحتي ف ايه!؟. همست مؤكدة: - عشان تخف وتخلص م العملية المتأجلة دي وتعتقني لوجه الله.. ابتسم بمرارة: - اذا كان كِده تبجى اتفهمت، جومي جيبيلي حاچة تجيلة من جوه احطها على كتافي..
جزت على أسنانها وهو يأمرها بهذا الشكل وكأنها جاريته بدلا من ان يأمر جابر بذلك لكنها زفرت في نفاذ صبر واندفعت للداخل تحضر له غطاءً صوفيا وضعته على كتفيه ليتدثر به جاذبا إياه على جسده متلمسا دفئه وهو يرمقها بنظرات لم يكن لها تفسير بقاموسها الشحيح.. هتف جابرهاتفا فجأة: - تعرفوا ايه هي حكاية ليل وعين اللي بيتغنوا بيهم!؟.
قالها جابر ببساطة ليتطلع كل منهما للأخر للحظة ثم يحيد ناظريه عن صاحبه ليستطرد جابر مستجمعا اهتمامهما من جديد هامسا بصوت شجي: - حكولنا زمان ف الحواديت ان ليل كان عاشج، وعين كانت معشوجته، تاهوا ف البلاد وفرجتهم الدروب، لكن عمرهم ما نسيوا بعضيهم وفضلوا يدورا على بعض، هو يلف بلاد وينادي ياااعين، وهي تلف بلاد وتنادي يا ليل، لحد ما جمعهم المغنى، وعمر ليل چه من غير عين، ولا عمرها عين اتجالت من غير ما يكون مرافجها ليل..
كان كل منهما ينصت لحكاية جابر الأسطورية غير قادرعلى التطلع الى الاخر ليبدأ جابر في شدوه مترنما بمطلع يا ليل، يا عين، ثم استكمل مترنما بموال عن العشق وحال العاشقين: - ومنين نچيب ناس لمعنات الكلام يتلوه وانا جلبي يابا فرسه فدرب الهوى طلجوه لا عارف أرده يا بوي ولا واعي الصبر فين نلجوه..