نوفيلا عبث باسم الحب للكاتبة رحمة سيد الفصل العاشر والأخير
تجمد مروان مكانه دون أن يبدي رد فعل، فقد نالت منه الجملة الأخيرة حين تشكلت بقبضة حديدة ضربته بحركة مباغتة مُخلة بتوازنه النفسي..! وأخيرًا استطاع صوته العودة لنطاق الاستجابة حين صدح قائلًا في استنكار غير مصدق: -أنت أكيد مش واخد بالك أنت بتقول إيه يا حاج محمود صح. وسرعان ما اُزيح حجر الصدمة الثقيل لتشتعل النار بلسانه مُشكلة حروف تشع غضبًا:.
-أنتوا ازاي أصلًا تصدقوا عني حاجة زي دي، وخصوصًا لما يكون الكلام من شخصية كدابة ومريضة زي بنتك. قال أخر كلماته محيدًا بعينيه نحو فايز في نظرة ذات مغزى، فاندفع فايز يدافع عن ابنته التي لم تكن مجتمعة معهم: -أنا بنتي مش كدابة ومريضة يا مروان، وأعرف لكلامك أحسنلك. صاح مروان في انفعال حقيقي:.
-لا كدابة، وزبالة، وأنت عارف كده كويس، من ساعة ما قالتلك إن ماحصلش بينا حاجة وشككت في رجولتي مع إنها هي اللي مانعة نفسها عني. ثم مال رأسه قليلًا ينظر لفايز بسخرية وابتسامة باردة ظاهريًا بينما في باطنها تغلي كالمرجل: -وأظن أنت عارف هي مانعة نفسها عني لية من أول جوازنا، وضحكت عليا وحسستني إني هفأ لما جوزتني بنتك وأنت عارف إنها بتحب واحد تاني ومش عايزة ولا عارفة تنساه.
ثم بدأ يشير بيده متابعًا وتلك الابتسامة الميتة لازالت متعلقة بفمه بينما نبرته ينضح منها المرارة والشعور القاهر بالاستغفال: -وكانت بتعمل كل حركاتها ومش عايزاني أقرب منها عشان طبعًا الهانم عايزه تروح تتجوز البيه بتاعها وتطلق من جوزها الطيب الأهبل اللي استغفلتوه واللي سابها بمزاجه وفكر إنه بيديها وبيدي حياتهم فرصة ووقت عشان تنسى اللي بتحبه.
جزء من فايز كان مقتنع بصحة حديث مروان وشعوره، خاصةً أنه رجل مثله، ولكن الأب داخله أبى الاستسلام فراح يستطرد بحدة: -ماتفسرش كل حاجة على مزاجك، في أول جوازكم فعلاً أنا كلمتك بطريقة غير مباشرة وأنت قولتلي إنها هي اللي بعيدة عنك عشان كانت بتحب واحد تاني، لكن بعد كده بدأت معاك على نضافة وأنت اللي عندك مشكلة. أشار مروان لنفسه متسائلًا مستهزئًا في استنكار: -أنا اللي عندي مشكلة؟
اومأ فايز مؤكدًا ومن ثم تابع محاولًا تخليص ابنته من شوائب سوداء تحوم حول سُمعتها في تلك اللحظات: -أيوه عندك مشكلة، أنا عارف إنها حاجة صعب على أي راجل إنه يعترف بيها وخصوصًا وسط قاعدة رجالة زي دي، لكن معلش بنتي مش مضطرة ابدًا تضيع الباقي من سنين عمرها مع واحد ماقدرش إنها صابرة وساكتة وكمان معاملته ليها زي الخدم والعبيد.
هز مروان رأسه غير مصدقًا طريقته في الدفاع عن ابنته وتلك القصة التي حُبكت من وحي خيال غادة لتضعه هو في موضع الخسة! ثم بدأ يهز رأسه وهو يقول: -والله العظيم أنت وبنتك اللي عندكوا مشكلة في دماغكوا. ولم يعطه فرصة الرد إذ تحرك ليمسك بالأوراق والتحاليل التي تثبت أن رهف حامل، ثم بدأ يفتحها بحركات سريعة عشوائية ويُحركها أمام وجوه الجميع متشدقًا بصوت عالي صلب أعطاه الصدق صدى قوي:.
-التحاليل اللي بتثبت إن مراتي حامل اهيه، والحمدلله إني مكنتش أعرف أصلًا إنكم جايين، دا تدبير من عند ربنا عشان عارف نوايا كل واحد. تحركت الأعين تجاه تلك الأوراق تستشف منها الحقيقة المكتوبة في عيني مروان بحرقة والتي لم يكن ينقصها سوى ختم بدليل يوثقها، فتنحنح الحاج محمود في شيء من الحرج وقال: -الف مبروك يا مروان ربنا يبارك ويقر عينكم بيه. ثم استدار ينظر تجاه البقية وأكمل:.
-الظاهر إن وجودنا هنا ملهوش داعي فعلًا.
اومأ مروان برأسه دون رد، بينما عيناه تتابع فايز الذي تهاوى جالسًا على الأريكة، يشعر وكأن الهواء قد إنحسر عن رئتيه مسببًا له صعوبة قاتلة في التنفس.. لم يكن يتخيل أن يباغت بأول رد فعل هجومي بغاية انقاذ ابنته من الوحل، فيكتشف أنه هو الذي سقط مكتوم الأنفاس صريع ذلك الوحل الذي لم يكن سوى من تدبير أبنته...! تحرك احد اصدقاء فايز نحوه، يربت على كتفه مرددًا في نبرة مشفقة: -قوم يا فايز بينا نمشي يلا.
ثم رفع رأسه نحو مروان وتشدق معترفًا: -الحق يتقال كده أحنا محقوقينلك يا مروان. هز مروان رأسه نافيًا ودون أن يفكر مرتان كان يجيب بما يحوم رأسه في تلك اللحظات من أمنية وحيدة بخل عليه الزمن بتحقيقها: -لا لا، ولا حد محقوقلي ولا أنا محقوق لحد، أنا عايزكوا بس تسيبوني في حالي وتسيبوني أعيش حياتي بهدوء من غير مشاكل وضغط نفسي وقهر.
اومأ الآخر دون أن يجد رد مناسب، لم تكن توجد كلمة مناسبة واحدة حتى يمكن أن تنتشلهم من بين بقاع الاحراج القهري، خاصةً فايز الذي لم يكن يحس سوى بألم ينخر قلبه نخرًا وصداه يصل لكل خلية بجسده حتى تخدر كله ولم يجد القدرة حتى على التأوه معلنًا عن ألمه، فكُتم وكُتم حتى تعظم الألم..
والفضل يعود لأبنته التي كانت تستمع لما يحدث من غرفتها بالداخل... تضع يدها على فاهها والصدمة تستبيح ملامحها، لا تصدق كيف إنقلب السحر على الساحر بتلك الطريقة.. لا تود حتى تخيل رد فعل والدها تجاهها بعدما حدث، بدأت تضغط على رأسها، علها تسعفها بأي شيء يُنقذها بورطة من صنع يداها، ولكن لم تكن تملك سوى الجلوس متصنمة الملامح، في انتظار القادم المُبهم، والذي أدركت أنه بداية النهاية لها..!
بعد قليل... كانت رهف جالسة على الأريكة أمام الباب في منزلها، تائهة بين أمواج الصدمة المتلاطمة، سمعت ما دار بين مروان وباقي الرجال، تحديدًا ما قاله مروان ووقع على الصور التي رسمها خيالها سابقًا ليبث بها الروح وتصبح أشباح فكرية تتمختر بين ثنايا عقلها دون توقف.. أصبحت متيقنة أن مروان طالما أنه يعلم بخيانة غادة، فهو تزوجها لينتقم من أحمد ويقهره بها..
برغم شكها سابقًا ولكن كانت تتمسك بالحبال الذائبة لأمل طفيف يخبرها أنه لا يفعلها.
دلف مروان للمنزل متوجهًا نحوها يردد في هدوء والارهاق يستوطن معالمه: -السلام عليكم. -وعليكم السلام. ردت دون أن تنظر نحوه حتى، متظاهرة بالإنشغال في مداعبة أظافرها، فجلس جوارها مروان، ثم مد يده ليمسك كفها محيطًا إياه بكفيه، ثم أردف بعدما تنهد بعمق: -يااه يا غزالة آآ... قاطعته رهف التي سحبت يدها من بين يديه بعنف وراحت تردد مستنكرة في تهكم صريح: -خلاص كفاية تمثيل كل حاجة بانت وبقت واضحة. -تمثيل!
رددها مروان غير مستوعبًا دون فهم عاقدًا ما بين حاجبيه، فأومأت رهف مؤكدة وبنبرة حاولت جعلها قوية حتى لا تخونها دموعها: -أيوه تمثيل، كل حاجة بقت مكشوفة وأنا سمعت. هز مروان رأسه وللحظات أحس أنه فقد القدرة على الفهم او هي التي أصبحت لغز يصعب حله، فسألها بصوت أجش: -هو إيه اللي بقا مكشوف وإيه الكلام دا ما تقولي يا رهف في إيه؟! أجابت والثبات يتقهقر من حروفها شيئًا فشيء: -أنا سمعت اللي حصل جوا من شوية. -يعني؟
سألها مروان ولم يصل عقله لقلب الخيط المتشابك بعد، فتابعت رهف بعدها والقهر يحجز مكانًا لا بأس به في حروفها: -يعني عرفت أنت متجوزني لية. رفع مروان حاجباه معًا في شيء من السخرية والاستنكار: -بجد والله؟ ومتجوزك لية بقا يا ام العريف؟ -واضحة، متجوزني عشان غادة. ردت رهف بجدية متجاهلة السخرية في طريقته، ازدادت العقدة بين حاجبي مروان الذي عاد يكرر سؤاله وكأنها تتحدث بلغة غريبة:.
-يعني إيه متجوزك عشان غادة، وهي غادة مالها بجوازي منك؟ أكملت رهف في اندفاع دون أن تستطع ملامحظة التعجب الحقيقي المرسوم على وجه مروان: -عشان تنتقم من أحمد بيا وتقهره. بهتت معالم السخرية عن وجه مروان، وحلت اخرى مصدومة هادئة كمعالم شيطان استفاق لتوه مغادرًا مغارته يتخبط بين الصحوة والغفوة ولم يبدأ عبثه بعد، وراح يسألها بنفس الهدوء المُريب: -إيه علاقة أحمد بغادة؟
ابتلعت ريقها بقلق وقد بدأت عصبة الغضب تُزاح عن عينينها لترى حقيقة عدم معرفة مروان بتلك الخيانة بالفعل..! وبدأت تبلل شفتيها لا تجد ما تقوله، فأمسك مروان ذراعها ضاغطًا عليه متابعًا هدير وصلة اسئلته العالية: -إيه علاقة أحمد بغادة إنطقي يا رهف. -مروان بص آآ... تمتمت رهف بصوت مبحوح ولكنه قاطعها في حدة وقسوة يده على ذراعها تزداد: -مش عايز أسمع إلا اجابة السؤال دا، إيه علاقة أحمد بغادة؟
حينها لم تجد رهف مفر من سلك مسار الاجابة والذي لا تدري أين ستكون نهايته، وردت بصوت مُلجلج: -غادة بتحب أحمد وآآ... ازداد تأهب ملامح مروان جابرًا إياها على الإكمال، وبالفعل استطردت متابعة: -ولسة على علاقة بيه ماقطعتش علاقتها بيه. للحظة لم يبد مروان أي تعبير واضح على وجهه، ولكنها استطاعت رؤية مارد الغضب بين سوداوتاه يعلن استفاقته التامة وخروجه عن بؤرة السكون! ثم سألها بنفس الملامح الجامدة المخيفة:.
-أنتي عرفتي الكلام دا منين؟ بدأت رهف تقص عليه كل ما قاله لها والدها، وهو كان يستمع لها بهدوء ما قبل العاصفة، وطبول الخطر تدق معلنة قرب الإنفجار المحتوم.. وما إن أنتهت حتى نهض مروان دون كلمة واحدة على كل ما قالته، وهتف مخالفًا كل توقعاتها: -قومي جهزي هدومك. سألته رهف في قلق وعدم فهم: -أجهز هدومي لية؟ -هاوديكي عند أهلك. رد بنفس الجمود، فاستفسرت رهف والقلق يزداد داخلها: -هتوديني عند أهلي لية يا مروان؟
أتتها الاجابة جامدة قاسية دون أن تمر على فلاتر العقل داخله ولو لحظة: -أعملي اللي بقولك عليه مش عايز رغي كتير. ثم استدار متوجهًا للمرحاض دون أن يعطها فرصة الرد او المجادلة، فتحركت رهف مجبرة نحو غرفتهم وبالفعل بدأت تجهز ملابسها في حقيبتها...
وبعد فترة ليست كبيرة إنتهت، وخرجا من منزلهما سويًا، فوقعت أنظار مروان على سلة القمامة الموضوعة أمام منزل غادة، هبت ذكرى عاصفة من الماضي القريب على عقله، حين رأى نفس سلة القمامة ولكن حينها رأى بها اختبار حمل ملقي، ووسوس له شيطانه بأفكار لم يطل التفكير بها حينها بل استبعد كل شياطينه مرددًا لنفسه أنها من سابع المستحيلات أن تتجرأ غادة على خيانته، وأن تكون خيانة جسدية أيضًا..!
عاد من بين براثن ذكرياته الموحشة التي زادت من سعير غضبه وجنونه حين بدأ عقله يربط الاحداث ببعضها، فكز على أسنانه وضغط قبضة يده بعنف حتى برزت عروقه...
وكما قال أخذ رهف لمنزل أهلها في ظل استسلامها الإجباري وخوفها الرهيب من القادم، تحديدًا من رد فعله التي تأكدت أنها ستكون صادمة كارثية.
بعد فترة ليست كبيرة... كان مروان يطرق بعنف على باب منزل أحمد والذي لم يكن بعيد عن العمارة التي يقطن بها بل كان قريب، فتح أحمد الباب وهو يصيح في غيظ من الطارق: -أيوه جاي في إيه!
وما إن فتح الباب حتى صُدم من تواجد مروان الذي كانت ملامحه تنذر بكل الشر والإجرام الموجود في العالم، ودون أن يعطه أي فرصة للإستيعاب او السؤال كان يدخل ويغلق الباب خلفه ثم هجم عليه يكيل له الضربات بجنون وعشوائية بغل وغضب تفجرا كالقنبلة الموقوتة في وجهه ويصيح مزمجرًا كليث جريح: -يابن ال**** يا واطي يا زبالة أنا تعمل فيا كدا.
حاول أحمد بالطبع التصدي لهجوم مروان، ولكن مروان كان في حالة فريدة من نوعها لأول مرة تتلبسه، كان في حالة هياج تام للأعصاب، يداه تستجيب لنيران الغضب بين ضلوعه وتستخلص الثأر من ذلك اللعين علها تطفئ تلك النيران، ولكنها لا تنطفئ بل تزداد... كل ثانية تمر وهو ينظر لملامحه فيرى انتهاك عرضه يشعر أنه على حافة الجنون فيزداد جنون ضرباته التي تسببت بألآم مبرحة لأحمد الذي اُنهكت قواه تمامًا...
وما إن افرغ مروان جزء لا يستهان به من طاقته حتى نهض جاذبًا أحمد بعنف من خلفية ملابسه ساحبًا إياه معه نحو المطبخ، بحث بسرعة عن مراده وبالفعل وصل لأحد الأدراج وأخرج منها سكين، ثم وضعه على رقبة أحمد وقال بتهديد صريح إجرامي من بين لهاثه: -وديني وما أعبد لو ما لبست دلوقتي جاكيت ولفيت أي كوفية على وشك ومشيت معايا بكل هدوء لادبحك، انا خلاص مش فارق معايا حاجة تاني ومجنون وأعملها. -حاضر اهدى بس يا مروان.
صدح صوت أحمد المتعب كهذيان مرتعب، والألم بقدمه لا يحتمل، فتقريبًا مُزقت قدمه او ربما كُسرت!. فصرخ فيه مروان ضاغطًا على ذراعه: -اخلص يالا. وبالفعل قام بما أملاه عليه مروان، ووضع مروان السكين في يده أسفل الچاكيت الخاص به وباليد الاخرى أمسك بإحكام بأحمد، وتوجه نحو العمارة التي يقطن بها قاصدًا منزل غادة، وما إن دلف للعمارة أخرج هاتفه وأتصل بفايز الذي أجاب بعد دقيقتان تقريبًا، قائلًا بصوت أجش شبه آمر:.
-تعالى على الشقة اللي بنتك قاعدة فيها دلوقتي حالاً. وبالفعل صعد مع أحمد للأعلى حيث الشقة التي تقطن بها غادة، طرق بعنف على باب المنزل ففتحت غادة وشهقت متفاجئة مرتعبة مما تراه امامها، فألقى مروان أحمد داخل الشقة وكاد يدخل ولكن فتحت رهف الباب مسرعة تناديه في هلع: -مروان. فسألها مروان بلهجة غليظة أشعرت رهف أنها تحادث شخصًا آخر غير مروان الذي عرفته وأحبته، :.
-أنتي إيه اللي جابك هنا أنا مش قولتلك هتقعدي هناك؟ بادلته السؤال بسؤال آخر مهزوز من القلق وهي تسترق النظر نحو داخل الشقة ونحو السكين التي يمسك بها متجاهله الاجابة عن سؤاله: -مروان أنت هتعمل إيه؟ تحرك مروان نحوها وبسرعة دفعها داخل الشقة وهو يتشدق بجمود: -ادخلي جوه وإياكي تطلعي مهما حصل.
أمسكت رهف ذراعه بسرعة قبل أن يدخل متوسلة إياه تحاول الوصول لأي خيط من العاطفة داخله علها تفلح في تحجيم مارد الغضب الهائج داخله: -بالله عليك ما تعمل فيهم حاجة يا مروان، مش عشان خاطرهم هما مايستاهلوش، عشان خاطري وعشان خاطر أبننا، هتخلي أبنك يجي الدنيا مايلاقيش أبوه يا مروان؟
للحظة استكانت ملامح مروان والكلام يدور بعقله، ولكن غضبه لم يهدئ بعد، ولا يستطع الوصول لحل يهدئ سعير غضبه سوى الانتقام منه لشرفه... أدخلها عنوة لداخل الشقة وسط اعتراضاتها وأغلق الباب بالمفتاح بسرعة، في نفس الوقت الذي وصل به فايز مسرعًا ويبدو أنه كان يركض خوفًا على ابنته جالبة المصائب... فأشار مروان له بالدخول وبالفعل دخلوا جميعهم، سأله فايز مسرعًا وعيناه تهتز بخوف: -أنت هتعمل إيه يا مروان؟
للحظة كاد مروان يهجم على أحمد ذابحًا إياه، ولكنه بدأ يتنفس بصوت مسموع متذكرًا كلام رهف محاولاً التحكم في أعصابه، فأمسك بأحمد واضعًا السكين على رقبته متابعًا بنفس التهديد المخيف: -إنطق قوله كل اللي بينك وبين وال**** بنته. وبالفعل بدأ أحمد يقول كل ما يخص علاقته هو وغادة ومروان مثبتًا إياه بالسكين، بينما فايز تتوالى الصدمات كالصفعات على وجهه بلا رحمة..!
وما إن أنتهى أحمد حتى دفعه مروان أمام قدمه كالقمامة، ومد السكين لفايز قائلًا: -أديك عرفت كل حاجة، وعرفت ازاي بنتك ال**** هي وال**** التاني دمروا شرفي وشرفك، شوف بقا هتغسل عارك ازاي كراجل.
ثم استدار ليغادر وهو يسمع هذيان غادة المرتعب: -بابا لا أنت أكيد مش هتعمل كده. فيما كان فايز ينظر للسكين بيده تارة، وينظر لأحمد وغادة تارة اخرى بينما فتيل الجنون الذي أشعله مروان بدأ يفتك بثباته... نوفيلا عبث باسم الحب للكاتبة رحمة سيد الفصل الختامي
في اللحظات الأخيرة التي تسبق خروج مروان، والتي كانت الثانية فيها فتيل يُلف حول غادة وأحمد ببطء شديد استعدادًا لحرقهما حيان..! صاحت غادة بأعصاب منفلتة بكل الغضب والخوف الذي تأجج داخلها: -أنت كده مبسوط خدت حقك.
استدار مروان نحوها، ولم يقاوم تلك الرغبة العنيفة ليصفعها مرات عديدة بعنف أسقطها أرضًا، ولكن تلك الصفعات لم تشفِ غليله، وكأنه في أوج الجحيم أينما إلتفت يلاحقه ذاك الاحتراق المُهلك ويفشل في الخروج منه..!
ثم صدح صوت طرقات رهف على بابها من جديد بعنف تخبره أنها لن تيأس، زفر بصوت مسموع وهو يلقي عليهم نظرة أخيرة؛ راضيًا عن الرعب الذي كان يتراقص في ملقتيهم في احتفال اسود يُنبئ بالقادم أرضى رجولته المُهدرة نوعًا ما.. توجه نحو شقته وفتح الباب لرهف ثم دلف، لتمسك هي به مسرعة تسأله بنبرة هلوعة: -عملت إيه؟ عملت إيه فيهم؟ فتنهد قبل أن يجيبها بصوت قاتم غير راضٍ عما ينطقه: -ماعملتلهمش حاجة. -امال إيه؟
سألته مستفسرة بعدم فهم، فأجابها بنفس النبرة: -أبوها هو اللي هيعمل. تخطاها ودخل ليرمي بثقل جسده على الأريكة، مغمضًا عينيه متمنيًا لو تُطرد أشباح صورتهم من ذهنه، لو أنه كان في كابوس شديد السواد وبمجرد أن يفتح عينيه سيهب متحررًا من بين خيوط ذاك الكابوس الثقيلة الموجعة..
بينما رهف كانت تلقي نظرة نحو الباب، وعقلها مغلقًا كفيه على صورة أحمد وهو مُهان مشبع بالضربات يفعل كما يُقال له، وربما يكون بعد قليل في عداد الموتى! وكأن تلك الصورة تخفف من وطأة ألم الجرح المدفون الذي فتحه فيها أحمد قديمًا، والذي كان ينزح بالصدئ.
ورغمًا عنها بدأ عقلها يستحضر تفاصيل ذلك الجرح...
تحديدًا يوم عقد قرانها على عريس جاءها ووافق أهلها عليه وغضوا البصر عن رفضها والذي كان بسبب حبها الأعمى لأحمد بالطبع، فقطعت هي حينها علاقتها بأحمد مضطرة خانعة، ولكنه لم يفعل مثلها، بل لم تتوقع في حياتها ما فعله..!
حين كانوا جميعهم جالسين قبل عقد القران، صدح صوت أحمد عاليًا عبر أحد الميكروفونات ينادي بأسم والدها، فهرع والدها ووالدتها ليروا مَن هذا، وما إن خرج والدها من الشرفة حتى رأوا أحمد الذي كان واقف على سيارة والميكروفون بيده و بدأ يقول: -اسمعوووا يا جدعان، رهف بنت الحاج عماد كانت ماشيه معايا بقالها ٣ سنين.
ثم بدأ ينظر حوله يمينًا ويسارًا وكأنه يتأكد من أن الناس في شرفاتهم يشاهدون الفضيحة التي تحدث، وتابع ساخرًا: -٣ سنين مكالمات وخروج وفسح وعشق ومعشقة، وفي الاخر سابتني عشان جالها عريس. تجمد عماد مكانه، متنفسًا بصوت مسموع، وعقله بدا كأنه في منطقة محظورة من الاستيعاب، فيما استغل أحمد صدمته المتوقعة وراح يكمل متشفيًا:.
-تسيبني أنا عشان عريس جالها بعد ما قعدت معايا ٣ سنين ولا في الاحلام وكأننا مخطوبين واكتر. ومن ثم عَلى صوت صاحبه الذي لم يكن بكامل وعيه تقريبًا فتشدق بصوت غير متزن يؤيد أحمد: -هما كدا يا صاحبي خاينين لما يزهقوا من اللعبة اللي في ايديهم يرموها بحجة العريس المغفل اللي جاي وميعرفش أي حاجة. فأشاح أحمد بيداه وهو يردف في نبرة مقيتة:.
-مهو أنا جاي بقا عشان أعرفه وأعرفهم كلهم، إنها مش ملاك زي ما بتوهم الناس، دي خبيثة، وكانت عايزه تعلم على أحمد بس لا، مش أحمد اللي يسيب حقه. حينها انتفض عماد يزمجر فيه في انفعال مفرط وكأنه استفاق من الغيبوبة المؤقتة التي ابتلعته لدقيقتان: -اخرس يا كلب، أنت كداب. أخرج أحمد هاتفه من جيبه بسرعة، وفتح على بعض الرسائل بينه وبين رهف، ثم قال: -مش بنتك رقمها اوله ٢٣ واخره ٤٠؟ وآدي الرسايل بينا اهي.
وتحولت نبرته لدرامية بحتة تحمل تهكمًا صريحًا مرير وهو يستطرد مقلدًا صوت رهف وبدأ يقرأ رسائل عشوائية بينهما: -بحبك يا أحمد والله وعمري ما هبعد عنك. ثم ضحك بصوت مسموع قاصدًا دون مرح، واستأنف: -امال انتي دلوقتي عملتي إيه؟ واخده اجازة مني؟
غمامة سوداء حلت على عيني عماد الذي أمسك بقلبه يتأوه بصوت خفيض خاصةً وهو يسمع بعض الهمهمات من العريس وأهله في الخلف، وكل حرف كان يخرج من أحمد كان يطعن فيه بسكين بارد بلا رحمة.
وحين لمح أحمد عماد وقد تحرك من الشرفة وبالطبع توقع أنه سينزل له، تحرك مسرعًا لينزل من أعلى السيارة وركبها هو وصديقه ثم بدأ ينطلق متحركًا بالسيارة وهو يصيح في زهو والانتصار الوهمي يتشعب بين ثناياه: -الف مبروك يا عرووووسة.
كانت رهف في الأعلى في حالة يرثى لها، حالة متفاقمة ما بين الصدمة والألم الرهيب، ألم لأول مرة تختبره؛ كل خلية فيها تأن بوجع الغدر، ومرارة الفضيحة وعلقم الاستغفال، لم تكن علاقتها بأحمد سوى وهم، سراب مشت هي خلفه مصدقة مشاعر المراهقة اللعينة ونست كل شيء سواها، نست ثقة والديها، ونست أنها تضع ثقتها بغريب، وتعجلت بالبحث عن الحب ووضعته في موضع شريك العمر متناسية أنه قدر ونصيب وتوقيت محدد من الله.
وبعدها في ظل مغادرة العريس وأهله ونظراتهم التي كانت بمثابة خناجر مسمومة ترشق بمنتصف قلوبهم، صعد عماد خائر القوى مُستهلك نفسيًا لأبعد حد، ركض نحو رهف يصفعها بعشوائية دون توقف جاذبًا اياها من خصلاتها بعنف شديد يلقيها أرضًا أسفل أقدامه بينما والدتها تلطم خديها في فزع شديد من كل ما يحدث، ورهف مغمضة العينين مستسلمة تبكي بصوت مكتوم فقط.
عادت رهف من تلك الذكرى المقيتة تمسح دمعة ساخنة فرت متحررة من بين أهدابها، وقد عادت تلك المرارة بحلقها وكأنها تعيش ذلك اليوم من جديد.. ذلك اليوم الذي كان من صنع يديها، يوم لم تتوقع قط أن تعيشه وأن تجعل والدها يعيشه، كان عقاب مُهلك لا قدرة لها على احتماله، وكان حفرة سقطت فيها مُزهقة الأنفاس..!
اقتربت من مروان وتلقائيًا وجدت نفسها تدفن نفسها بين أحضانه، أحضانه التي صارت الملاذ الوحيد من وحشة الأيام وقساوتها، والبلسم الذي هدئ من إلتهاب جراحها.
بعد مرور حوالي شهر... شهر كانت رهف تلتزم فيه بالخصام الزائف مع مروان، لتشعره بتأنيب الضمير لكتمانه السبب الوهمي الذي تظن أنه تزوجها من أجله، ولكنها في الحقيقة لم تكن تشعر بالغدر منه، والأسباب الواقعية تحط بينها وبين الحزن الذي من المفترض أن تشعر به فتذيب إياه ببطء... وهو الآخر طيلة الشهر كان في قوقعة من العزلة يحاول فيها معالجة تلك الشروخ التي أحدثتها فيه الأيام.
إنتبهت لمروان الذي دلف للمطبخ مقتربًا منها وصدح صوته مشاكسًا: -قمر عليا الطلاق قمر يا جماعه وهلفه ساندوتش وأكله دلوقتي. رمقته رهف بنظرة ملولة في ظاهرها سعيدة في باطنها من خروجه من حالة الثقل والجمود التي كانت تستعريه: -ايه العسل دا! -عسل وطحينه هاهاها. قلبت رهف عينيها ورمته بنظرة مصطنعة الحنق من اعلاه لأسفله، فتنحنح مروان ثم قال بجدية زائفة:.
-احم، انا كنت عايز أقولك حاجة مهمة جدًا يا رهف كنت مخبيها عنك بس خلاص مش قادر أخبي أكتر. إتسعت حدقتيها في اداء درامي بحت واستدارت نحوه مسرعة تسأله في شك: -اتجوزت عليا؟! انا كنت حاسه اصلا انتوا ملكوش أم... فقاطعها مروان مرددًا في مرح وتلقائية: -اتجوزت عليكي ايه بس وحدي الله ف قلبك هو اللي يتجوزك هيبص لصنف الستات تاني اصلًا. -إيه؟
رددتها مستنكرة غاضبة، فابتسم ابتسامة تنضح بالحنو ليُخفي أسفلها فداحة ما نطق به وأكمل: -قصدي يعني يا حبيبتي من الحب، مش هيبص لواحدة تاني عشان مفيش منك تاني اساسًا. اومأت رهف مؤكدة في زهو وسألته: -اه بحسب، امال ايه اللي مخبيه بقا؟ أطرق برأسه أرضًا وتشعب الأسف محتلًا قسمات وجهه وهو يهتف بصوت خافت: -أنا عليا جنية عاشقة. تصنمت رهف مكانها وسرعان ما رفعت حاجبها الأيسر وهي تتابع مستنكرة متهكمة:.
-جنية إيه؟ عاشقة! مروان يا حبيبي أنت محدش طايقك من الانس عشان يعشقك من الجن! -فيه كلام اشيك من كدا وبيدي نفس المعنى. زفرت رهف بصوت مسموع، ثم رسمت ابتسامة زائفة خالية من المرح وهي تقول: -يا الله يا ولي الصابرين، كمل يا مروان، ها وإيه كمان؟ هز مروان رأسه في اسف وبجدية أكمل: -يظنوني الجميع أنني أنهار ولكني في الحقيقة بحيرات. -اممم طبع، نعم؟
-انتي قفوشه اوي على فكره يا رهف، أنا بضحك معاكي عشان تفرفشي لاحسن الجنيه العاشقة اللي وراكي دي موتها وسمها الناس القفوشه، اه اسأليني انا دا احنا عِشرة!
للحظة وبتلقائية ألقت رهف نظرة خاطفة خلفها وعادت لتنظر له وهي تستطرد في غيظ: -ورايا إيه اللهم احفظنا وبعدين إيه اللي موتها وسمها الناس القفوشه! هز مروان رأسه وراح يردف في جدية تامة مُضحكة وهو يخبرها: -امال انتي فاكره إيه، احنا نسيبها تنتقم من الناس البومه القفوشه واحد واحد والبقاء للفرفوش! زفرت رهف وهي تحذره بصوت أجش: -بلاش هزار في الحاجات دي يا مروان الله يرضى عنك.
أشار مروان لنفسه رافعًا حاجباه معًا متمسكًا بدور الجدية الزائف: -هزار! انا برضو ههزر في الحاجات اللي زي دي يا رهف، انتي شيفاني تافه للدرجة؟! قال وانا اللي جاي احذرك احسن تصحي تلاقيكي اتسخطتي قردة. عقدت رهف ما بين حاجبيها بعدم فهم وسألته: -تحذرني من إيه يعني مش فاهمة! اقترب منها جوار اذنها ثم همس وكأنه يخبرها بأخطر سر في العالم: -اصلها اللي بيضايقني او يزعلني وينرفزني ب، آآ... زجرته في حنق:.
-ب إيه ما تنطق؟ ضم شفتاه معًا وهو يهز رأسه في قلة حيلة: -أنطق أقول إيه، أصل الخبث والخبائث مبيحبوش حد يطلع اسرار المهنة برا، وعمومًا أنا ماشي وهاسيبك تشوفي بنفسك انا بهزر ولا لا. وبالفعل تحرك يوهمها أنه سيغادر بالفعل، فدارت عينا رهف حولها نحو الغرف المُظلمة، ثم صرخت منادية بتلقائية وهي تسرع نحوه: -مروان استنى. كتم مروان ضحكته بصعوبة وحاول الحفاظ على جدية ملامحه وهو يسألها: -ايه خوفتي يعني؟
هزت رأسها نافية بسرعة، ثم تنحنحت تتشدق في استنكار: -انا؟ لا طبعًا، بس انت رايح فين؟ وبعدين انت عارف اني مش بحب سيرة الحاجات دي ابدًا.
أغلق مروان الباب ثم استدار نحوها ليقترب منها ببطء وهي تعود بتلقائية للخلف حتى إلتصقت بالجدار من خلفها وهو امامها يُحيطها بذراعيه ويقترب منها أكثر حتى أصبح ملتصق بها تقريبًا فابتلعت هي ريقها بتوتر وهي ترمقه بحذر متساءلة ونبضات قلبها ترتفع أكثر فأكثر: -أنت بتقرب كدا لية؟ لم يجيبها وإنما كانت عيناه تخبرها عن شرارة الشوق التي إندلعت بين ضلوعه، وكل خلاياه التي تأن توقًا ولهفة لوصالها.
فانحنى بوجهه نحو وجهها ببطء حتى كادت شفتاه تلتقي بشفتيها في لهفة وشغف أنهكه، ولكنها سارعت لتبتعد بتمنع مصطنع وتوتر، ولكنه لم يعطها الفرصة بل ثبتها بذارعيه وهو يهمس بسرعة محذرًا بخشونة: -اثبتي مكانك لاتولعي.
ولم يعطها الفرصة للابتعاد او الاعتراض بل كتم اعتراضها بشفتيه الاكثر من متلهفة، يلثم شفتاها بتأنٍ مغمضًا عينيه متلذذًا بحلاوة ذلك الشعور اللاهب الذي صار كفقاعة وردية متأججة العاطفة من حولهما، ولم تكن تملك هي اصطناع التمنع فاستسلمت لطوفان عاطفته التي ابتلعتها غير سامحة لها حتى بالتقاط أنفاسها.
وابتعد اخيرًا حين شعر بكتمان أنفاسها، و من ثم راح يهمس بعبث لمع بعينيه: -دي مش لأجلي لأ دي لأجل الجنية اللي واقفة بتتفرج علينا دي وهتموت وتحرقك. تمت نهاية الرواية أرجوا أن تكون نالت إعجابكم